الشيخ الصفار يحذّر من استثمار الأعداء للنزاعات الداخلية

مكتب الشيخ حسن الصفار القطيف: تركي العجيان

دعا سماحة الشيخ حسن الصفار أتباع مدرسة أهل البيت للاجتهاد في تحقيق واقعٍ نموذجي بالتزامهم بمنهج أهل البيت وسيرتهم الطاهرة النقيّة، وباندماجهم في أوساط الأمة كما تدعو له وصايا أئمة أهل البيت ، مستشهداً بالوصية الخالدة للإمام الحسن العسكري والتي تُمثّل رؤية رسالية على هذا الصعيد.

محذّراً في الوقت ذاته من الوقوع في فخ الطائفية والصراع المذهبي الذي دأب الأعداء على السعي لإيقاع الأمة فيه. مشيراً إلى أن الاعداء يستثمرون النزاعات داخل أي بلد إسلامي لممارسته نفوذهم وتدخلاتهم. مؤكداً على الدور المسؤول الذي يتحمله عقلاء الأمة في هذا الجانب، مبيناً أن الخلافات في أصلها ذات طابع سياسي، فينبغي معالجتها في بعدها السياسي بعيداً عن زجّها في خندق الطائفية.

وأشاد بالمبادرة التي أطلقها مجاميع من الشخصيات التي تحمل همّاً رسالياً من القطيف والدمام والأحساء والمدينة المنوّرة للقاء المسؤولين في الدولة في الرياض، مثنياً على الروح الإيجابية التي تمثّلت في الوفد، رغم اختلاف آراء وتوجهات أفراده. وحذّر من مضاعفات الأسلوب الاستفزازي الذي تُمارسه شخصياتٌ من المؤسسة الدينية في حرم الرسول الأعظم ومقبرة البقيع، مؤكداً على ضرورة تجاوز هذه الحالة، وأن هذا الأمر هو مفتاح حل المشكلة التي تسبب فيها عناصر من المؤسسة ذاتها في باحة الحرم الشريف ضدّ مجموعات من المواطنين الشيعة، لا لشيء سوى اختلافهم معهم في التوجه والمذهب.

الافتتاحية

الحمد لله مبدع الكائنات، داحي الأرضين، وفاطر السماوات. نحمده على ما أولانا من نعمه الباهرة، وأعطانا من آلائه الفاخرة، ونشكره شكراً يستوجب لنا من منّه المزيد، ويُنجينا يوم القيامة من الوعيد، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم، 7).

ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، فطر العقول على قبول ألوهيته، وهيأ الأذهان للإذعان بوحدانيته.

ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، شقّ للبشرية طريق المعرفة والكرامة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور. فصلّ اللهم عليه وآله المواصلين لمسيرته والمبلّغين لدعوته.

عباد الله أوصيكم ونفسي قبلكم بتقوى الله تعالى، فإنها خير الزاد إلى يوم المعاد، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

الخطبة الأولى

أشار الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 8 ربيع الأول 1430هـ (6 مارس 2009م) إلى أن الظروف التي عاش فيها الإمام الحسن العسكري كانت بالغة الصعوبة، فبعد سنتين من ولادته فقط، جاء الأمر من المتوكّل العباسي بإشخاص الإمام علي الهادي إلى سامرّاء، وبالطبع خرج الإمام العسكري مع أبيه، وهو بعد طفل صغير، وعاش طوال حياته هناك، والتني لم تتجاوز (28) سنة. كما أن الإمام قد تعرّض للسجن عدة مرات، وكان في كل مرّة يأسر قلوب ساجنيه، فينقلب السحر على الساحر، فيتحوّل هؤلاء من سجّانين إلى أتباع مخلصين لإمامهم. وهذا ما حصل مع (صالح بن وصيف) وكذلك (علي بن أوتامش)، وكانت وفاة الإمام العسكري يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول سنة 260هـ بينما كانت ولادته سنة 232هـ.

وأكد أن الحكام الذين سيطروا على الأمة أبو إلا أن يحرمو الأمة من فيوضات الأئمة وعطائهم، لأن بقاء الأئمة يُشكّل الخطر الأكبر على سياستهم الاستبدادية. ويضيف الشيخ الصفار: مما يُلفت النظر أن الإمام العسكري رغم صغر سنّه، ورغم الضغوط التي مارسها ضدّه الحكام العباسيون، إلا أنه استطاع بعون الله تعالى أن يخترق كل تلك القيود ليتواصل مع شيعته وأتباعه، يوجّههم ويُقدّم لهم الإرشادات والنصائح، حتى بلغ عدد الرواة عن الإمام (242) راوياً، وهؤلاء لم يكونوا مجرّد ناقلين لكلام الإمام، وإنما كانوا أساتذة الثقافة والدين في المجتمع الإسلامي.

واقتطف الشيخ الصفّار من نمير الإمام العسكري هذه الوصية الخالدة التي يبعثها الإمام بروح الإيمان إلى كل الشيعة في كل زمانٍ ومكان، ليتمثّلوا بها، ويأخذوا بما جاء فيها، يقول : «أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد .

صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسّن خُلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك.

اتّقوا الله، وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كل مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسنٍ فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك.

لنا حقٌّ في كتاب الله، وقرابةٌ من رسول الله، وتطهيرٌ من الله، لا يدّعيه أحد عيرنا إلا كذّاب.

أكثروا ذكر الله، وذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي ، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات.

احفظوا ما وصيّتكم به، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام».

وفي معرض حديثه حول هذه الوصية العظيمة، أكّد الشيخ الصفار أنها تُركّزُ على معلمين أساسيين ينبغي لأتباع مدرسة أهل البيت امتثالهما طوال مسيرتهم في الحياة:

المعلم الأول: اندماج الشيعة في أوساط الأمة.

فالأئمة لا يُريدون لشيعتهم أن يكونوا معزولين عن الأمة، فذلك هو هدف الطغاة، لذلك نجد أن الأئمة كانوا يدفعون شيعتهم للتواصل مع بقية شرائح الأمة، حتى وإن اختلفت مذاهبهم وتوجّهاتهم.

المعلم الثاني: نموذجية الواقع الشيعي.

حيث أن التزام الشيعة بمنهج أهل البيت وسيرتهم الطاهرة النقيّة، يصنع منهم كياناً نموذجياً، ومجتمعاً مثالياً، وبكل تأكيد فإن هذا الطريق يخدم خط أهل البيت وشيعتهم على حدٍ سواء، في كل العصور والأزمنة.

ولذلك جاء تأكيد الأئمة على ضرورة الابتعاد عن الخصومات، وعن مسبّباتها بدرجة أولى، وتأتي الخصومات ذات الطابع المذهبي الطائفي على رأس قائمة الخصومات التي ينبذها أهل البيت .

وأكد الشيخ الصفار أن المشاكل والخصومات في أصلها ذات طابع سياسي، فينبغي أن تبقى في ذلك الإطار وتُعالج سياسياً، لا أن تتحول إلى صراعٍ طائفي مذهبي.

محذّراً من الوقوع في الفخ الذي دأب الأعداء على السعي لإيقاع الأمة فيه، وهو ما عمد الأعداء له في العراق، ولو لا الحكمة التي تحلت بها المرجعية في العراق، لكان الحال هناك مما لا يُمكن تجاوزه أو معالجته أو وضع حدٍ لتفاقمه.

وأكد أن دور العقلاء في هذه البلاد يتجلى في سعيهم لتحقيق أعلى مستوى من الإندماج فيما بين أبناء هذا الوطن، عبر تواصلهم وتجاوزهم للنفس الطائفي البغيض. مشيراً إلى أن هناك الكثير ممن يُعقد عليهم الآمال في هذا الجانب، مضيفاً: فبعد الإساء التي وجّهها عناصر من المتشددين لأبناء الشيعة في البقيع الغرقد، بادر الكثير من أبناء السنة ومن السلفيين للإتصال أو إرسال مندوبين عنهم ليُعلنوا رفضهم لهذه الإساءة، وأنها لا تمثل الرأي العام تجاه الشيعة.

واستعرض الشيخ الصفار لآراء المراجع والقيادات الشيعية التي تؤكد على ضرورة الوحدة وتجنب الخلافات الطائفية كبيانات الإمام الخميني والسيد الخامنئي والسيد السيستاني والسيد فضل الله والسيد نصر الله وغيرهم، وحتى المراجع الذين لم يتصدوا للشأن السياسي فانهم ايضاً يدعون إلى الوحدة وتجنب الصراع المذهبي، وأورد في هذا الجانب استفتاءين، قام بتوجيههما جماعة من المؤمنين:

الأول لسماحة المرجع السيد صادق الشيرازي، جاء فيه:

ما رأي المرجعية الدينية من التقارب مع أهل العامة، مع اختلاف مصادر التلقي لكلا الطرفين، واين نقاط الإلتقاء؟

وكان جواب سماحته:

«نقاط الإلتقاء والاشتراك كثيرة، بدءً من التوحيد وإلى المعاد. ومن الصلاة إلى الديات. فالعقل السليم يدعو الجميع إلى التوافق فيما اتفقوا عليه، ومعالجة نقاط الاختلاف بالحوار الحرّ البنّاء، الخالي من التعصّب الأعمى والعناد».

الثاني لسماحة المرجع الشيخ الوحيد الخراساني، جاء فيه:

نحن مجموعة من الشيعة الإمامية، حيث نقطن في محيط غالبيته من ابناء العامة (السنة)، الذين يعتبروننا كفّاراً ويقولون ويعتقدون بكفر الشيعة، فهل نعاملهم بالمثل ونعتبرهم كفّاراً، ونتعامل معهم ككفّار؟ راجين من سماحتكم أن تُبيّنوا لنا الموقف الشرعي الذي ينبغي أن نلتزمه وفق الظروف التي بيّناها أعلاه.

وكان جواب سماحته:

«كل من يشهد بوحدانية الله تبارك وتعالى، ويشهد برسالة خاتم الأنبياء، فهو مسلم، ونفسه وعرضه وماله كنفس ومال وعرض اتباع المذهب الجعفري مصون ومحترم ومحقون.

وواجبكم الشرعي أن تُعاشروا كل من يتشهد بالشهادتين، ولو اعتبروكم كفاراً، بالمعروف. وتتعاملوا معهم بالتي هي أحسن. وإذا فُرض أن يتعاملو معكم بالباطل، فلابد أن تلتزموا أخلاق أئمتنا ولا تزيغوا عن طريق الحق والعدل الذي ألزمونا باتباعه.

ولو مرض منهم أحد فلا بد من عيادته وزيارته، ولو مات منهم ميّت حضرتم جنازته، وشيعتموه، ولو قصدكم بحاجة لبيتم وقضيتم حاجته، ولابد أن تُسلّموا لحكم الله تعالى الذي يقول: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. وأن تعملوا بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً».

واختتم الخطبة بالتأكيد على أن منهج التواصل بين العقلاء هو الخيار الأمثل لحماية البلد من خندق الفتن الطائفية، مضيفاً: على المؤمنين أن لا يأخذهم الإندفاع والحماس فيعتبروا أن التواصل عبث لا جدوى منه، فهذه رؤيةٌ تحتاج إلى إعادة نظر، مؤكداً أن الأكثرية من أبناء الوطن متعقّلون، ولا يصح بداً التعميم.

الخطبة الثانية

أشار الشيخ الصفار في الخطبة الثانية إلى تأكيد الإسلام على وحدة الأمة، ونبذه لحالة الصراع والخصومة. مؤكداً أن الأمة الإسلامية التي تمتلك هذه الدعوة الصريحة هي من أكثر الأمم التي تعيش واقعاً ممزّقاً من الداخل، ومحاصراً من الخارج.

مضيفاً: إن الأمم الأخرى قد تجاوزت إلى حدٍ كبير حالة الصراع والخصومة، ووصلت لمستوى متقدم من التعايش، وأصبحوا يحاصرون خلافاتهم في إطارها السياسي، ويُعالجونها وفق الأنظمة والقوانين.

وأشار إلى الأضرار التي تنتجها حالة الصراع التي تعيشها الأمة فيما بينها، ومن أهمها:

- النزاعات من أهم مسببات الضعف وإغراء الأعداء بالأمة الإسلامية.

- بسبب النزاعات تنشغل الأمة عن التنمية.

- النزاعات سبب رئيس لإضعاف جماعات الأمة بعضهم لبعض.

- النزاعات بوابة الأعداء للتدخل في الشؤون الداخلية للأمة.

مشيراً إلى أن القرار الذي أصدرته محكمة الجنايات الدولية حول الرئيس السوداني نموذجاً واضحاً للتدخل الخارجي. وسببه الصراع العرقي الذي عاشته السودان في منطقة (دارفور).

وأكد أن من الواجب على أبناء هذا الوطن السعي الحثيث لتجنب الصراع والنزاع، وأن من يعتقد أن بإمكانه حسم الصراع لصالحه دائماً وأبداً، فهو واهم. فما عاد الصراع يُدار بين الجهات المتصارعة فحسب، بل هناك إرادات خارجية همّها الاصطياد في الماء العكر، وهي تجد الصراعات سوقاً خصبة لاطماعها، حتى وإن كانت بمسميّات إنسانية.

وأشار إلى أن من أهم أسباب الصراع في داخل الأمة الإسلامية، أمران:

الأول: سياسي، حيث التمييز بين المواطنين على أساس عرقي أو طائفي يصنع ساحة خصبة للصراع والنزاع.

الثاني: ثقافي، يتمثل في حالات التعصب الديني أو المذهبي أو العرقي، وهذه الحالة توجد الكراهية والبغضاء في النفوس.

وحول معالجة هذه الحالة أكد الشيخ الصفار أن معالجة الصراع لا تتم إلا بمعالجة جذوره ومسبباته، فالصراع السياسي يُعالج سياسياً، والصراع الثقافي يُعالج ثقافياً.

وأشاد بالمبادرة التي قام بها مجاميع من المهتمين بشؤون مجتمعهم من المشايخ والوجهاء والشخصيات والناشطين، على إثر الأحداث المؤلمة التي جرت في باحة حرم الرسول الأعظم ، حيث انطلق وفد من القطيف والدمام والأحساء والمدينة، للقاء الملك والمسؤولين في البلاد للوقوف على تداعيات هذه الحادثة، ووضع حد لعدم تكرارها.

وأكد أن الباعث من وراء هذه المبادرة هو المصلحة العامة حيث أن ضرر ما حصل يلحق الوطن كله.

مثنياً على الروح الإيجابية التي سادت في الوفد، على اختلاف آراء وتوجهات الشخصيات التي ضمّها هذا الوفد. مؤكداً أن المصلحة المشتركة التي يجتمع فيها الجميع، تفرض على الجميع هذا التواصل والتظافر.

وأضاف: إن إطلاق سراح الموقوفين أمرٌ حسن، وهو أول الطريق لمعالجة المشكلة، إلا أن هناك أمراً آخر ينبغي معالجته، وهو الأهم، وذلك يتمثل في إزالة جذور المشكلة، لعدم تكرارها من جديد.

مؤكداً أن جذر المشكلة يكمن في حالة التعصب التي يعيشها أفراد من المنتمين للمؤسسة الدينية، وهؤلاء بهذه المنهجية خلقوا أجواء استفزازية يشعر بها كل من يذهب لزيارة الرسول الأعظم ومقبرة البقيع من جميع المسلمين.

مضيفاً: إن هذه العقلية لا تتناسب وسماحة الإسلام، التي تدعوا لتعميق القيم والأخلاق والتعامل الحسن بين جماعات المسلمين.

وأكد في ختام الخطبة على أن معالجة المشكلة يتحمل مسؤوليتها الجهات العليا في البلاد بشكل رئيس، وأن الخطوة الأولى في المعالجة تتحقق بقلع جذور المشكلة المتمثلة في الأجواء التعصبية التي تسود تلك البقاع الطاهرة، مضيفاً: إن هذا الأمر في مصلحة الدين والوطن بشكل عام، ولا تنتفع منه جهة دون أخرى.