ظواهر النصب والاحتيال
الحمد لله الذي ظهرت عظمته لعباده وتقدست ذاته عن إدراك خلقه وبهرت حكمته المتفكرين في آياته، بارئ النسم وسابغ النعم ودافع النقم. نحمده سبحانه على ما أسداه لنا من الإنعام وأسبغه علينا من الإكرام ونتضرع إليه في العفو عن الذنوب والآثام وأن يجعلنا من أهل الجنة والرضوان.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها للنائبات، ونستضيء بنورها في الظلمات، ونتوسل بها لتفريج الكربات. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اصطفاه على جميع الأنبياء والمرسلين وجعله أقرب المقربين وأنزل عليه الكتاب المبين صلى الله عليه وآله الغر الميامين الأئمة الهادين والخلفاء الراشدين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، بأن تكون عظمته نصب أعيننا، وحاضرة في قلوبنا، فلا نعمل ولا نقول ما يسخطه جعلنا الله وإياكم من الملتزمين بطاعته البعيدين عن معصيته.
حين يمتلك الإنسان مصباحاً فإن عليه أن يستضيء به في الظلام، أما إذا لم يستخدم هذا السراج وسار في الظلام فإنه سيتعرض للضياع والتيه أو السقوط، ويتعرض لمختلف الأضرار والأخطار، وحينئذ لا يلومن إلا نفسه لأنه كان بإمكانه ألا يقع في الضرر والخطر لو استخدم المصباح الذي بيده.
كذلك هو العقل فهو السـراج الذي منحه الله تعالى للإنسان ليستضيء به في دروب الحياة، وهو تلك القوة التي يميز الإنسان بها بين الخير والشر، بين الصالح والطالح. وتكمن مشكلة الإنسان في أنه قد لا يلتفت إلى عقله وقد يجمده، فلا يرجع إليه ولا يستضيء به. في مقابل المجنون الذي لا يملك عقلاً، وبذلك يسقط عنه التكليف. إن أكثر الناس يمتلكون هذا السـراج (العقل) ولكنهم لا يستضيئون به.
لذلك يؤكد القرآن الكريم الدعوة إلى استخدام العقل، بل إن القرآن كله دعوة لاستخدام العقل والاستفادة منه، ففيه عـشرات الآيات التي تحرِّض الناس على استخدام عقولهم فقد تكرر قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾[1] يعني: لا يستخدمون عقولهم. وكذلك تكرر قوله تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾، و﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾، و﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، و﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، و﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وكثير من الآيات التي تحرِّض الإنسان وتدفعه إلى الالتفات لعقله واستخدامه.
البعض من الناس يستخدم عقله في مجال ويجمده في مجال آخر، مثلا في المجال الاقتصادي تراه ذكياً، ويدرس الأمور، لكن في المجال الديني تجده خرافياً، يقبل الخرافات والأساطير. فيصدق عليه قول الشاعر:
فطنٌ بكلّ مصيبةٍ في | مالهوإذا أصيب بدينه لم يفطن |
إن الرسول يؤكد في أكثر من موضع قوله: «ما تم دين إنسان قط حتى يتم عقله»[2] ، أي يتم استعماله لعقله، وكم خاطب أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب قومه في بعض المواقف بقوله: «أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ»[3] .
ونرى الآن في مجتمعاتنا، مع الأسف الشديد، كيف أن بعض الشائعات تنتشر، وتأخذ مداها عند الناس؟ ويستغرب الإنسان كيف أن هؤلاء الناس لم يفكروا وكيف أنهم انساقوا خلف الشائعات، رغبة في الثراء السريع.
في الأيام الماضية انشغل الناس في منطقتنا الخليجية بشائعة حول ماكنة الخياطة القديمة، (سنجر) وتناقلت مواقع الإنترنت أن أصل هذه الشائعة: أن رجلاً ألمانياً ادّعى أنه عثر على كمية كبيرة من الذهب الروماني تقدر بالملايين، ولكن هذا الذهب محمي بواسطة الجن، ويلزمه زئبق أحمر لفك الجن عن هذا الذهب، ولا يتوفر هذا الزئبق الأحمر إلا في هذه المكائن القديمة للخياطة. وسرت هذه الشائعة، وأخذت أسعار هذه المكائن في التصاعد، إلى أن وصلت قيمتها في حراجات في حفر الباطن ووادي الدواسر والرياض والكويت من خمسين ألف إلى مئة ألف ريال. وبدأ الناس يبحثون عنها في كل مكان.
وشائعة أخرى انتـشرت في أوساط بعض النساء، بأن مما يفيد لتطويل الشعر ولجماله القمل، فصرن يبحثن عن القمل، ووصلت قيمة القملة الواحدة إلى مئة وخمسين ريال، حسب تحقيق حول الموضوع نشرته جريدة اليوم بتاريخ 28 ربيع الأول 1430هـ.
هكذا يكون الناس حينما تسيطر عليهم السذاجة والشائعة الجمعية، ويصـرفون أموالهم خلافاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾[4] .
هذه حالات من النصب والاحتيال، وعلى الناس أن يستعملوا عقولهم حتى لا يقعوا فريسة لهذه الأمور. علينا أن نوعي أنفسنا وأبناءنا في كل المجالات حتى في المجالات الدينية، علينا أيضاً أن نكون واعين، حتى لا ننخدع. لذلك ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: «استرشدوا بالعقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا»[5] ، وورد عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أنه قال: «ولا يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُ»[6] .
علينا أن نشيع الثقافة العقلانية في مقابل الثقافة الخرافية، وثقافة الأوهام والأساطير، حتى وإن صدر بعضها ممن يتزيى بزي الدين، فإما أن يكون مشتبهاً أو يكون مغرضاً، فإن الدين دين العقل، كما قال «أساس ديني العقل» و« لا دين لمن لا عقل له»[7] .
نصرة الفلسطينيين ليس جرماً
أحاديث كثيرة وردت عن رسول الله من أجل خلق الشعور الواحد بين أبناء هذه الأمة، بحيث يشعر كل فرد من هذه الأمة أن ما يصيب الآخر من أذى يصيبه، فالأمة كيان واحد، يقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[8] ، وهناك حديث عن رسول الله يشدد على ضرورة نصـرة الإنسان المسلم حينما يتعرض للظلم والعدوان وان عدم نصـرة أخيك المسلم تسبب لك الهوان عند الله سبحانه وتعالى، يقول: «ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصـرته، وما من امرئ ينصر امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته»[9] .
وورد عن رسول الله أنه قال: «من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الاشهاد يوم القيامة»[10] ، وقال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»[11] ، وفي حديث آخر قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره»[12] .
نحن نجد اليوم كيف أن الأمم المتقدمة تحترم كل فرد من أفرادها، فإذا أصابه اعتداء في أي مكان في العالم، فإن تلك الأمة تجند كل قواتها وقدراتها للدفاع عن ذلك الفرد، هذا واقع الأمريكان، وكذلك الكيان الإسرائيلي. وهكذا تصبح الأمم عزيزة مهابة حينما تحترم أفرادها وأبناءها.
أما الأمم التي لا يهب بعضها لنـصرة بعض، فإن الهوان يحل بالجميع. وما نعيشه نحن المسلمين شاهد جلي، فهذه أرض فلسطين وهي تتعرض لأبشع ظلم وعدوان، حيث احتلت أراضي الفلسطينيين، وهدّمت منازلهم، وسفكت دماؤهم، وهتكت أعراضهم، ودنست مقدساتهم. وهذه الأيام تمنع إسرائيل الفلسطينيين ممن يريدون الصلاة في المسجد الأقـصى أن يقتربوا إليه، وتقيم الحواجز إلا ضمن ضوابط معينة، ويتعرّضون لمختلف أنواع الإهانات ويخطط الصهاينة لهدم المسجد الأقـصى لبناء هيكل سليمان المزعوم، وهم بذلك يتحدون كرامة العرب والمسلمين في كل مكان.
فهل هناك أحد في العالم تعرض للظلم أكثر مما تعرض له إخوتنا الفلسطينيون؟ إن ذلك يوجب على كل المسلمين أن ينصـروا أخوتهم في فلسطين.
والفلسطينيون لا يريدون الآن من أحد أن يقاتل عنهم، فإن الظروف والمعادلات تغيرت، إنما يريدون الدعم والعون وذلك من أبسط حقوقهم. والعجب أن إسرائيل تتلقى الدعم من كل دول العالم وعلى رأسها أمريكا، بكل أنواع الأسلحة الفتاكة المتطورة. والفلسطينيون الذين يواجهون هذه الغطرسة وهذا التواطؤ العالمي، يرفعون أصواتهم يستصـرخون أخوانهم من العرب والمسلمين، ومن منا لم ينصدع قلبه وهو يسمع صراخ النساء والأطفال في غزة أيام ذلك العدوان الظالم، وإلى الآن، حيث لا زالت الانتهاكات والظلامات، لكن مع الأسف الشديد، بدل أن يهب كل العرب والمسلمين لنصرة هؤلاء المظلومين الصامدين المقاومين، أصبحت نصـرتهم جرماً. فكم يبذل الفلسطينيون من جهود حتى يصل إليهم الدواء أو العتاد، عبر أنفاق يحفرونها مسافات ويتحملون المغامرات والأخطار في سبيل ذلك، ولكن هناك من العرب ومن المسلمين من يستخدم الوسائل المتطورة من قبل الأمريكيين والأقمار الصناعية حتى يكتشفوا الأنفاق التي يحفرها هؤلاء المستضعفون المحرومون فيهدمونها على رؤوسهم.
إن بعض الأنظمة تعتقل من يسعى لإيصال الدعم إلى غزة، وتقيم الدنيا ولا تقعدها ضجيجاً على الجهات التي تتعاون مع حماس وتحاول إيصال المساعدة لها.
بالله عليكم إن أمة تعيش مثل هذا الوضع وهذا الواقع كيف يمكن أن ترتقي إلى مصاف الأمم المتقدمة؟ ما دام هذا هو النظام الرسمي كيف يستطيعون مواجهة الأعداء؟ وكيف يستطيعون بناء كيان الأمة؟ وفي المقابل نجد الصهاينة يصـرحون عن شماتتهم وارتياحهم، وهل يحلمون بأفضل من هذا الواقع، حيث أن الأنظمة العربية هي تحمي أمنهم وتدافع عنهم وتمنع السلاح من أن يصل إلى المقاومين؟ إنه لأمر يبعث على الدهشة ويبعث على الألم وكما قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب: «فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً»[13] .
إن الأمة في هذا العصر عكست الصورة التي رسمها رسول الله عنها، حيث قال: «المسلمون يد على من سواهم»[14] . وإذا كان هناك من شيء يفتح أمامنا أبواب الأمل، فهو رجاؤنا في وعي الشعوب، أن تكشف هذه الخيانات وهذه المظالم، حتى يميز الناس بين من ينفع الأمة وبين من يريد الكيد بهذه الأمة، صحيح أن هناك حملات إعلامية تضليلية تريد أن تشغل الناس عن العدو الرئيس، وتخلق للعرب والمسلمين أعداء وهميين، ولكن بحمد الله أصبح للناس وعي وإدراك، وأصبحوا يرون الأمور بشكل واضح إلا من لا يريد أن يرى فإنها: ﴿لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[15] .