المحرج والصفار.. مسعى تقريب أخر، إلى أين؟!

مقدمة..

في الوقت الذي بدأت فيه نبرة الطائفية تترتفع على خلفية عدد من القضايا المحلية والاصطفافات التي واكبتها، كشف الشيخ حسن الصفار الأسبوع الماضي عن رسالة كان قد أرسلها له سلفا الشيخ الدكتور عبد الرحمن المحرج مستفسرا عن بعض القضايا الخلافية بين السنة والشيعة. وقد وضح المحرج أن مبتغاه هو الحرص على الحصول على الأجوبة من مصدرها كما أشار إلى أن هذه الرسالة تأتي امتدادا لرغبته في «مد جسور التواصل بين أبناء المذهبين السني والشيعي بما يحقق وحدة كلمة المسلمين وتلاحم وطننا الغالي» كما عبر عن ذلك.

الجسور التي تحدث عنها المحرج كان بدأ في مدها منذ أشهر في زيارات للقطيف والأحساء والمشاركة في عدة ندوات، كما قام بزيارة الموكب العزائي بسيهات أثناء الإحتفال بعاشوراء وألقى كلمة في جموع المعزين.

كانت تساؤلات المحرج مركزة على القضايا المثيرة للحزازية والتوتر بين الطرفين فشملت السب والقذف والتكفير الذي ينسب للشيعة ممارسته ضد بعض الصحابة، كما تساءل المحرج عن موقف الشيعة من المؤلفات التي ورد بها بعض ذلك ومؤلفيها أيضا.

هذا المسعى كغيره من المساعي التقريبية بين الطرفين يواجه تحديين أساسيين: البيئة الشعبية الحاضنة لطرفيه وهو جمهور كل منهما، ومواصلة استدعاء الماضي ومحاسبة شخوصه.

الجمهور وجرأة كل طرف..

 

الشيخ عبد الرحمن المحرج والشيخ حسن الصفار

بداية يمكن القول أن مثل هذه المساعي ليست بجديدة على الوسط الديني السعودي، إذ سبق وأن كانت هناك لقاءات بين فاعليات شيعية وأخرى سلفية على المستوى الأهلي، أي بعيدا عن التنسيق الرسمي كما هو حاصل في أنشطة الحوار الوطني. والشيخ الصفار كان طرفا في معظم تلك اللقاءات بصفته ناشطا في مجال الحراك الوطني ومهتما بقضايا الوحدة.

كانت هناك سلسلة من اللقاءات في السنوات القليلة الماضية مثلت تراكما ايجابيا في تجربة الحوار المذهبي في المملكة غير أن تأثيرها على الوسط الشعبي لم يكن بالمستوى المطلوب إذ أنها كانت حلقات منفصلة لم تترابط عضويا لتشكل قاعدة يمكن البناء والتأسيس عليها لعلاقة أفضل بين السنة والشيعة في المملكة، والتي ستنعكس ايجابا على العلاقة بين الطرفين خارج المملكة نظرا لما يمثله الوسط الديني السعودي من ثقل روحي في معظم الدول الإسلامية.

بل أن عددا منها تم إجهاضها مبكرا بل وفي غضون أيام، حيث تملص أحد الأطراف مما توصل إليه من نتائج في أحد اللقاءات وتحدث عن نقل غير دقيق لآرائه. وطرف آخر لم تمض أيام حتى تعرض لطائفة الآخر على إحدى الفضائيات بشكل مفاجئ وغير متلائم بالأجواء التي كانت إيجابية حينها.

هذه التقلبات في المواقف تشير إلى مدى الضغط الشعبي الذي يمارس ضد من ينخرط في التوجه التقريبي في كلا الطرفين، وهو ما دفع البعض إلى تخفيف لهجته الودية اتجاه الآخر أو الإنقلاب عليها تماما. ومن هنا ينبغي التركيز على سيكيولوجية الجمهور والعمل على معالجتها بالتوازي مع اللقاءات المتبادلة ومد الجسور. فجمهور الطرفين يعاني من "فوبيا الآخر" والرهبة منه تصورا منه أن الآخر يمثل تهديدا لوجوده وكيانه، وذلك لأن الجمهور يسعى دائما للتحصن والتمترس خلف الطائفة لايجاد تمايز له عن الآخر. ولديه رغبة ملحة ودائمة في ايجاد تلك التمايزات لكي يشعر بالاستقرار. وفي مقابل ذلك عليه بـ"شيطنة" الطرف الآخر الذي لا بد أن يكون على تماس منه حتى يتفاعل معه أثناء معاركه المختلقة. وهو بهذا التمترس خلف الطائفة والسعي وراء التمايز عن الآخر يكرس الطائفة كهوية أساسية في التعامل مع الآخر حتى وإن اشترك معه الآخر في الهموم المعيشية المختلفة.

وفي هذا الإطار يمكن فهم تلك التملصات السابقة على ضوء هذه العقلية التي تشكلت عبر الزمن لدى الجمهور، حتى أصبح القفز عليها تجديفا عكس التيار الذي أبرز شخصيات عديدة لدى الشيعة والسنة ممن أولوا الاهتمام بالسجال بين الطرفين وتصدوا للدفاع عن المذهب والدخول في النقاشات العقائدية والمناظرات المذهبية، حتى أصبحت الكتب السجالية من الكتب الأكثر الشعبية للقارئ.

وعلى صعيد الوسط الشيعي على وجه الخصوص، يتعرض الجمهور هذه الأيام لخطاب عالي النبرة ومجيش للطائفية كردة فعل على الأحداث المحلية خلال الأشهر المنصرمة. وبالتالي ستكون مهمة الصفار صعبة في مواصلة الترويج لهذا السلوك التقريبي وإن احتفظ بجرأته في مواجهة الجمهور الذي يعد تأثيره على سلوك الصفار في مثل هذه المواقف ضئيل جدا بحكم تمرسه في هذا النهج ووضوح مشروعه الإنفتاحي وغياب مشاريع منافسيه في الوسط الشيعي أو ضعفها. وبالتالي تمتاز حركته بحرية نسبية كافية له لتوفير الجرأة اللازمة عند الحديث في الأمور العقائدية. هذه الجرأة الي يتميز بها الصفار عبر ثلاث عقود من الزمن جعلت منه صاحب موقف لا يخشى مواجهة الجمهور ودعوته إلى ما يقتنع به وهذا ما حدث معه خلال مسيرته، بل أن الصفار سبق وأن عبر عن قناعاته بجرأة في مواضيع تتعارض وجهة نظره فيها مع وجهة نظر مرجعيته الدينية.

استدعاء التراث.. ومحاسبة أبطاله..

كان لافتا تساؤل الشيخ المحرج عن رأي الشيعة في المؤلفات التي ورد فيها بعض السب والتكفير وتعدى ذلك ليسأل عن الرأي في المؤلفين أيضا وكان جواب الشيخ الصفار بتخطئة من قال بذلك والتشديد على أن تلك المؤلفات لا تشكل مصادر قطعية الصحة فيما حوته. مثل هذا التساؤل الذي طرحه المحرج يتكرر في كثير من الحوارات المذهبية في محاولة ضمنية لطلب التبرؤ من تلك الكتب والمؤلفين، وفي ذلك مطالبة ربما تكون تعجيزية بالتخلي عن جزء من التراث لمجرد ورود ما يتفق الجميع ببطلانه فيه، بل التبرؤ من بعض العلماء الذين يخطئهم آخرون هو من الصعوبة بمكان. وهذا يشكل تحديا لاستدامة المشاريع التقريبية.

ما ينبغي عدم اغفاله هو أن هذا التراث وآراء أبطاله تشكلت كنتيجة طبيعية للعلاقة التفاعلية بين هؤلاء والأحداث التاريخية التي عاشوها وبالتالي تشكل لنا هذا التراكم المعرفي كنتيجة لعوامل زمنية معينة ألقت بظلالها على فهم البعض للنصوص وبالتالي ألف مصنفاته التي احتوت تلك القضايا الشائكة بناء على تفاعله مع تلك اللحظة من التاريخ. وفهمنا للتاريخ ومنعطفاته وأثرها على العلاقة بين الطرفين عبر هذه القرون يمكن أن يشكل لنا تفسيرا لورود هذه الآراء التي نعدها اليوم شاذة.

والتاريخ حافل بتلك الفترات التي تأزمت فيها العلاقة بين الطرفين منذ مناهضة العلويين للعباسيين مرورا بسقوط بغداد، إلى قيام الدولة الفاطمية ومن ثم التنافس السياسي بين الصفويين والعثمانيين وتسخير الطائفية المتمايزة بين الطرفين لتحيق نفوذ على الأرض وليس انتهاء بالصراع السياسي في التاريخ المعاصر وحتى يومنا هذا ومحاولة الباسه لباس الدين لاستعطاف الجماهير واستمالتها في معركة اصطفاف وفرز حاد يقوي طرف على آخر لكون الهوية الطائفية كما أسلفنا طاغية على كل الهويات الأخرى لدى الفرد.

إن فهم تلك المعطيات الزمنية التي أزمت العلاقة بين الطرفين هو مدخل مهم وضروري لتمييز ما ورد في التراث من تطاول على رموز الآخرين عند الطرفين، وبدء علاقة أفضل لتتشكل معطيات زمنية راهنة قادرة على أن تحول واقعنا اليوم إلى تراث أنقى للأجيال القادمة.

وفي انتظار تجاوز الجميع هذه العوائق سيكون هناك الأمل في تكوين بيئة ملائمة لنشوء ثقافة مغايرة لما اعتاد عليه الجمهور ترتكز إلى الوعي وحل الالتباسات بالحوار الهادئ والنبرة الرصينة كتلك التي استخدمها الدكتور المحرج والتي ربما تكون أول الغيث في استقرار العلاقة المتوترة بين الطرفين.

سيهات