الخلق النبوي والقيادة الناجحة

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخلق النبوي والقيادة الناجحة، عنوان الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ حسن الصفار يوم الجمعة الموافق 10 ربيع الأول 1425هـ (30 إبريل 2004م).

وفيما يلي نص الكلمة:

تمهيد..


يحتفي المسلمون في كافة أنحاء العالم بذكرى ميلاد رسول الله ، ويرجح علماء السنة أن ميلاده في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، بينما يرى أغلب علماء الشيعة أنه في السابع عشر من نفس الشهر، ولذلك اقترح العلماء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن يُعتبر الأسبوع التي يضم هذين اليومين هو أسبوعٌ للاحتفاء بميلاد الرسول الأعظم لكي يشمل القولين. وفي بعض مناطق المسلمين كالحجاز وسوريا ومصر يكون الاحتفاء بهذا الميلاد الأغر طيلة شهر ربيع الأول.

وهناك فئة من المسلمين، أتباع المدرسة السلفية، ترى أن الاحتفاء بميلاد رسول الله أمرٌ مستحدث، فلم يكن ذلك في عهد رسول الله ولا في عهد الصحابة، فهو بدعة.

وهنا نقول: من حق أي أحد أن يكون له رأيه في هذا الجانب بناءً على ما يقتنع به من أدلة، ولكن من الضروري أن يعرف أن بقية العلماء من مختلف المذاهب والمدارس الإسلامية لهم أدلتهم في هذا الموضوع فهم لا يقصدون المخالفة والخطأ في أعمالهم، وإنما يتقربون بها إلى الله تعالى، ولذا ينبغي أن يكون هناك تفهمٌ لوجهة نظرهم. فليس مطلوباً مِن مَن يرى عدم صحة الاحتفاء بالمولد النبوي أن يقبل كلام بقية المسلمين، ولكن المطلوب أن ينظر إلى رأيهم نظرة احترام، ويقبله ضمن دائرة الخلاف العلمي؛ ولا يحق اتهام بقية المسلمين بالشرك والضلال والبدعة لأن ذلك يتنافى مع أخلاق وآداب الإسلام.

منهجية الخلق النبوي


ينبغي أن تتحول الأخلاق النبوية التي كان يُمارسها رسول الله في سيرته وحياته إلى منهج حياة يسير في خطاها جميع المسلمين وخصوصاً مَن هم في مستوى القيادة كالحكام والعلماء، وليس صحيحاً أن تبقى هذه الأخلاق في حدود الفضائل والكرامات التي نستأنس بذكرها، ونُعجب بشخصية رسول الله عند الحديث عنها.

فرسول الله صاحب دورٍ قياديٍّ لا مثيل له في تاريخ البشرية، حيث نقل مجتمعه من حضيض الشرك والتمزق إلى ساحة الإسلام، وصنع منه مجتمعاً موحداً ونموذجياً؛ ولذا فهو أفضل شخصيةٍ قيادية في الجانب الديني والسياسي والاجتماعي.

وقد اعترف بذلك غير المسلمين فضلاً عن المسلمين الذي يُقدّسون شخصية رسول الله ، ولذا نجد الدكتور (مايكل هارت) من أمريكا، عند تأليفه لكتاب عن المئة الأوائل في تاريخ البشرية، يضع شخصية النبي محمد على رأس القائمة كأهم شخصية في تاريخ البشر، وكتب عن هذا الاختيار قائلاً: ((إن اختيار المؤلف لمحمد ليكون على رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات، إن هذا الاختيار ربما أدهش كثيراً من القراء، إلى حد أنه قد يثير بعض التساؤلات، ولكن في اعتقاد المؤلف: أن محمداً كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي)).

وقد استطاع رسول الله أن يُحقق ذلك من خلال المنهج الذي اعتمده، والذي يتجلى في أخلاقه وأسلوب تعامله.
وأي قيادةٍ، سياسية أو دينية، تريد أن تنجح، عليها أن تستلهم من منهج رسول الله ما يحقق لها ذلك.

شرح الصدر


إن أول منّةٍ يمتنها الله تعالى على نبيه هي قوله تعالى: ﴿ألم نشرح لك صدرك. وشرح الصدر يعني: انفتاح قلب الإنسان، واستيعابه للمواقف وللناس، وهذا أهم ما يحتاجه أي قائد سياسياً كان أم دينياً. ذلك لأنه يقود مجتمعاً تتنوع فيه توجهات الناس وآراؤهم وأفكارهم، ولا يُمكن للقائد أن يطلب مجتمعاً أفراده ضمن قالبٍ واحد، لأن ذلك من المحال. ولذا فإن التعامل مع الناس من أصعب الأمور بخلاف التعامل مع الجمادات والنباتات وسائر المخلوقات.

وسعة الصدر أهم سمةٍ ينبغي أن يتحلى بها القائد، ولذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «آلة الرياسة سعة الصدر »نهج البلاغة، ج: 4، خطبة: 176. وكذلك في عهد الإمام لمالك الأشتر الذي يقول فيه: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويُؤتى على أيديهم من العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تُحب أن يُعطيك الله تعالى من عفوه وصفحه. فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك» نهج البلاغة، ج: 3، خطبة: 52.

جوانب من سيرة الرسول



في المجال الديني


فيما يلي نذكر نماذج من السيرة النبوية تتجلى فيها عظمة الخلق النبوي في المجال الديني:

- بينما رسول الله جالس مع جماعةٍ من أصحابه، إذ دخل أعرابي، وقال: يا رسول الله هلكتُ! فالتفت إليه رسول الله وقال له: ما بالك؟ قال: وقعت على زوجتي وأنا صائم! فقال له –دون أن يزجره أو ينهره-: أعتق رقبة. فأشار الأعرابي إلى رقبته وقال: اللهم إني لا أمتلك غيرها! فقال له : فصم شهرين متتابعين. قال: يا رسول الله وهل أصبت ما أصبت إلا من الصيام؟ فقال : فأطعم ستين مسكيناً. قال: يا رسول الله وهل هناك أكثر مسكنةٍ مني؟ فسكت رسول الله ثم جاء شخصٌ بزكاةٍ إلى رسول الله ، فنادى رسول الله الأعرابي وأعطاه الزكاة وقال له أطعم بها ستين مسكيناً. فأخذها وقال: يا رسول الله والله ما بين لابتيها (يقصد المدينة المنورة) من هو أكثر فقراً مني. فضحك رسول الله حتى بدت نواجده، وقال له: أطعم بها أهلك، واستغفر الله.

- كان رسول الله جالساً في المسجد ومعه جماعة من الأصحاب، إذ دخل أعرابي، وبعد أن سلّم رفع يديه قائلاً: اللهم اغفر لي ولمحمدٍ ولا تغفر لأحدٍ معنا. فقال له : لقد احتضرت واسعاً. وبعد هنيئة ذهب هذا الرجل إلى جانبٍ من المسجد وجلس يبول. فغضب المسلمون وزجروه. فقال رسول الله : دعوه حتى يُكمل، ثم طلب دلواً من الماء وأراقه على مكان بوله، ثم قال لأصحابه: إنما بُعثتم ميسّرين لا معسّرين، والتفت إلى الرجال وقال له: يا هذا إن هذا المسجد لا يُبال فيه، إنما أقيم لذكر الله وللصلاة.

في المجال السياسي

كل حاكمٍ أو قائد ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار مسألة الاختلاف بين أتباعه، وأنه من المحتمل أن يكون هناك مَن يُخالفه في الرأي، إما لأنهم يرون خطأ الحاكم أو القائد، وإما بدافعٍ مصلحي. وقد يُعلنون عن مخالفتهم، أو يُمارسون ما يُعرقل أوامر الحاكم أو القائد. فكيف يجب أن يكون التعامل في هذه الحالات؟ بالطبع ينبغي للحاكم أن يحتمل أن الرأي المعارض قد يكون صحيحاً، ولا يصح أن يُشكك في نوايا الناس، وإنما يتعامل معها بموضوعية.

ولكن إذا تأكد الحاكم من خطأ الرأي المعارض أو أن خلفه نوايا سيئة، فكيف ينبغي أن يكون التعامل؟ سيرة رسول الله تضعنا أمام التعامل النموذجي في مثل هذه المواقف.

وفيما يلي بعض النماذج من سيرة المصطفى التي تكشف عظمة الدور القيادي الذي اعتمده :

- هناك من بين المسلمين جماعة أُطلق عليهم مصطلح (المنافقين)، وهناك سورة في القرآن باسمهم، كما أن مجموعة كبيرة من آيات القرآن تتحدث عنهم. ولكننا إذا درسنا تاريخ المنافقين وممارساتهم في العهد النبوي، ورأينا كيف كانوا يُمارسون مخالفتهم ومعارضتهم لرسول الله ؛ ورسول الله يعلم حقيقة نواياهم وتوجهاتهم السيئة عبر الوحي الإلهي: ﴿إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون.

وإذا علمنا أن المنافقين كانوا يحاولون عرقلة أوامر رسول الله في مختلف المجالات، وكانوا يتحالفون مع الأعداء الخارجيين (اليهود والمشركين). فكيف تعامل معهم رسول الله ؟

هل استعمل معهم العنف والقسوة والقوة؟ هل حرمهم من بعض امتيازاتهم؟ هل ميّز بينهم وبين سائر المواطنين؟ كلا!

السيرة النبوية وعلماء المسلمين مجمعون على أن رسول الله مع تحذره من النفاق والمنافقين، وشدّة الآيات التي تتحدث عن المنافقين، ولكن رسول الله من الناحية العملية:

1- لم يُمارس تجاههم أي تمييز في التعامل عن بقية المسلمين. فقد كانوا يدخلون المسجد ويصلون مع المسلمين ويجلسون في مجلس رسول الله ، ويأخذون نصيبهم من الغنائم وعطاء بيت المال.

2- لم يستخدم رسول الله القسوة والشدة معهم، مع شدّة إساءتهم له .

وينقل القرآن بعض موارد المخالفات التي مارسها المنافقون، يقول تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ، وهذه مخالفة صريحة من رأس النفاق عبد الله بن أبي، ولما وصل هذا الأمر إلى رسول الله ، فقال له بعض المسلمين، ومنهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لنا أن نضرب عنقه. قال : كلا! إني لا أريد أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه (بمعنى الصحبة العامة).

وبعد ذلك جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى رسول الله وقال: يا رسول الله لقد ساءني ما قاله أبي في حقك، فإذا كنت تريد قتله، فأمرني بقتله. قال : ولماذا؟ قال: لو قتله غيري أخشى أن تثور نفسي، لأنني أكره أن أرى قاتلاً لأبي، فأنتقم من قاتله فأدخل النار. قال : لا بل نعفو عنه ونصبر عليه.

وورد في السيرة أنه لما مرض عبد الله بن أبي مرضه الأخير جاء ولده إلى رسول الله ، وقال: يا رسول الله إن أبي يحتضر، وأنت تعود المرضى من أصحابك، وعارٌ علينا أن لا تعود أبي، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فقال لأصحابه: قوموا بنا إلى عيادته. وفي عيادة عبد الله بن أبي، قال ابنه لرسول الله : يا رسول الله استغفر لأبي؛ فطلب له رسول الله المغفرة. فلم يتحمل ذلك الصحابة، وقالوا: يا رسول الله كيف تستغفر له وهو منافق؟! فقال : لقد خيرني ربي في الاستغفار: ﴿استغفر لهم أو لا تستغفر لهم.

وهناك رواية في بحار الأنوار تقول: لما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه لرسول الله وطلب منه قميصه ليُكفن به أباه، فأعطاه رسول الله قميصه حتى يُكفن به أباه. فاستغرب الصحابة من فعل رسول الله ، ولكنه قال لهم: والله إني لأعلم أنه لا يُغني عنه من عذاب الله شيئاً، ولكني أحبب أن أتألف بذلك قومه.

- يدخل أعرابيٌّ على رسول الله ويطلب منه عطاءً، فأعطاه رسول الله ، فسكت الأعرابي، ولكن رسول الله رأى في وجهه عدم الرضا، فقال له: أما أحست إليك؟ قال: ما أحسنت ولا أجملت. فغضب الأصحاب وأرادوا أن يتناولوه، فأشار إليهم رسول الله ، وقال لهم: دعوه. ثم دخل إلى بيته وأرسل له مزيداً من العطاء، ثم التفت إليه، وقال: هل أحسنت إليك الآن؟ قال: نعم، لقد أحسنت، جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيراً. فالتفت رسول الله إلى أصحابه قائلاً لهم: هل هذا أحسن أم ذاك.

- لما ذهب المسلمون إلى بدر، قال رسول الله إلى أصحابه: بلغني أن قريشاً أجبرت مجموعةً من بني هاشم على الخروج معها في جيشها، وقد خرجوا وهم كارهون للخروج، فمن رأى منكم أحداً من بني هاشم في جيش المشركين فلا يقتله. وأضاف : من رأى منكم عمي العباس فلا يقتله فإنه مستكرهٌ على الخروج.

وإذا بأبي حذيفة يلتفت إلى جمعٍ من المسلمين قائلاً: يأمرنا أن نقتل آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وأن نكف سيوفنا عن أسرته، والله لإن رأيت العباس عمَّ رسول الله لألحمنَّ وجهه بالسيف. فوصلت مقالته إلى رسول الله ، وقال بعض المسلمين: تأمرنا أن نضرب عنقه. قال : لا، بل نعفو عنه. وبعد ذلك جاء أبو حذيفة إلى رسول الله واعتذر عن الكلمة التي سبقت منه.

هذه هي أخلاق رسول الله والتي يؤكد عليها بقوله: «أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض».

من هنا ينبغي أن يكون صدر الحاكم أو القائد واسعاً، سواءً كان حاكماً سياسياً أو عالماً دينياً أو قائداً اجتماعياً.

كما ينبغي أن لا تُطرح هذه المسألة كمسألة أخلاقية، وإنما يجب أن تتحول إلى منهجٍ سياسي. وهذا ما قامت به الدول الغربية المتقدمة، إذ من قوانينها أن يفسح الحاكم المجال للمعارضة سياسية أو إعلامية.

ولكن المسلمين لا يزالون يقرؤون سيرة رسول الله في حدود الإعجاب بشخصيته العظيمة، والمسألة ليست فقط أن نعجب بشخصية رسول الله ، ولكن يجب أن تتحول هذه الأخلاق العظيمة التي كان يتحلى بها رسول الله إلى منهجٍ في الحكم السياسي، والتعامل الاجتماعي، والإرشاد والتوجيه الديني.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.


وبإمكانك الاستماع إليها عبر الوصلة التالية:

media/ent_friday/1425/14250310.asf