المسؤولية تجاه الفقراء

الخطبة الأولى

قال الله العظيم في كتابه الحكيم بسم الله الرحمن الرحيم:"وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" وقال تعالى:"والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم".

إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وتكفل بأرزاقهم كما يقول الله تعالى:"وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" هذا بشكل عام، أما بالنسبة للبشر، فإن الله سبحانه وتعالى أودع لهم في حنايا الكون وثناياه كنوز الخيرات والثروات، ومنحهم العقول والقدرات التي يتمكنون بها من السعي لأرزاقهم، وتحصيل ما تتقوم به حياتهم، لكن بعض البشر قد يتكاسلون عن السعي لأرزاقهم فيعيشون حياة الفقر بسبب كسلهم وتقاعسهم عن البحث عن أرزاقهم وعن السعي من أجل حاجاتهم، وفي كثير من الأحيان يعيش البشر وضعا غير عادل، لا يستطيع فيه بعضهم الوصول إلى رزقه، لأن هناك خللا في النظام الاجتماعي، فلا تكون الفرص متاحة أو لا تكون متكافئة، لذا لا يصل هؤلاء الناس إلى أرزاقهم، بسبب الخلل الموجود في النظام الاجتماعي. وفي بعض الأحيان يكون الإنسان عاجزا عن السعي لرزقه لنقص في قدراته أو لمرض، أو لتعب أو لأي ظرف آخر، فيعجز عن الوصول إلى حصته من الرزق المقدر له.

إن الحالة السوية أن يسعى كل إنسان إلى رزقه، والرزق والخير موجودان ولكن هناك حالات استثنائية، أبرزها الحالات الثلاث:

1/ كسل الإنسان عن السعي إلى رزقه
2/ الخلل في النظام الاجتماعي
3/ وجود عجز عند الإنسان لخلل في جسمه أو في وضعه لسبب أو لآخر

ولهذه الأسباب الثلاثة تتكون مساحة من أبناء المجتمع تعيش الفقر والحاجة لأنه لا يتوفر لها ما تتقوم به حياتها.

إن وجود مساحة من الفقر في أي مجتمع لها مضاعفات على حياة ذلك المجتمع، فالفقر ينتج الانحراف والإجرام، وينتج عدم الانسجام في العلاقات بين فئات المجتمع، وهذا أمر واضح لذلك فإن الإسلام جاء ليعالج هذه المشكلة.

ففي الجانب الأول يشجع الناس ويدفعهم، ويحرضهم على العمل والسعي لكسب الرزق ويعتبره جهادا، فيقول القرآن الكريم : ﴿فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضله.

وعن أبي عبد الله الصادق : "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله". وهناك آيات ونصوص كثيرة، تشجع الإنسان على العمل والسعي من أجل الرزق، وتعتبر السعي عبادة من العبادات.

وفي الجانب الثاني حينما يكون هناك خلل في النظام الاجتماعي، فإن الإسلام يحمل قادة المجتمع وأهل الرأي والنفوذ بأن يسعوا لإقرار العدالة حتى تكون الفرص متاحة ومتكافئة أمام الجميع، ومعروف الآن أن من حقوق الإنسان حق العمل.

وفي الجانب الثالث حينما يكون هناك أشخاص عاجزون عن السعي والعمل، فإن الإسلام له تشريعات فيما يرتبط بهذه الشريحة الثالثة والثانية، يأتي الشرع لكي يدفع القادرين من أبناء المجتمع على أن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه هؤلاء العاجزين، والآية المباركة توضح ذلك حيث تقول:"وفي أموالهم حق للسائل والمحروم".

فالإنسان القادر الذي يكسب المال يجب عليه أن يعرف أن المال الذي يكسبه ليس كله له وإنما فيه حصة للمحتاجين والفقراء، حيث جعل الله سبحانه وتعالى حصة للفقراء والمحتاجين في أموال القادرين.

ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، إن هذا الحق كما تشير بعض الروايات هو غير الواجب، الحقوق المفروضة من الزكاة والخمس، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق في تفسير هذه الآية الكريمة قال: "لكن الله عز وجل فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقال عز وجل والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" فالحق المعلوم كما تشير هذه الرواية غير الزكاة، وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه إن شاء في كل يوم وإن شاء في كل جمعة وإن شاء في كل شهر.

وهناك نصوص كثيرة تتحدث عن هذا الجانب وتؤكد على أن رزق الفقراء مقرر في كسب القادرين والأغنياء، ورد عن أمير المؤمنين قوله: "عياله الخلق ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم"، ويقول : "إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك".

إن السؤال ليس فقط عن الصلاة، هل صليت؟ أم لم تصل؟ صمت أم لم تصم؟ وإنما السؤال أيضا لماذا كان هناك فقراء جائعون ولماذا لم تتحمل المسؤولية تجاههم؟.

وهنا يجب أن نعرف أن مفهوم وتعريف الفقر يختلف من زمن إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، فالفقير هو الذي لا يملك مؤونة سنته مثل سائر الناس، ضمن مستوى المعيشة العادي، حتى وإن كان له دخل وكان دخله أقل من مستوى ومتوسط المعيشة في المجتمع، فإنه يعتبر فقيرا إلى الحد الذي يصل به إلى مستوى تلبية احتياجاته، ففي العروة الوثقى للسيد اليزدي رحمه الله، وهو الكتاب الفقهي المعتمد عند أكثر المراجع والفقهاء في التعليق عليه بآرائهم وفتاواهم، يعرّف الفقير بقوله: «الفقير هو الذي لا يملك مؤونة السنة له ولعياله فعلا أو قدرة.

والمؤونة شاملة لكل احتياجاته من دار السكن والخادم إذا كانت طبيعة الحياة تستلزم أن يكون له خادم، ودار السكن وفرس الركوب، والمحتاج إليه بحسب حاله ولو كانت متعددة، كما لو احتاج أكثر من فرس أو أكثر من سيارة في عصرنا الحالي.، والذي لا يستطيع شراء سيارة له أو لأحد أولاده مع الحاجة إليها حتى وإن كانت متعددة فهذا يعد فقيرا أيضا.

وكذلك الثياب والألبسة الصيفية والشتوية السفرية والحضرية ولو كانت للتجمل فليس مطلوبا من الإنسان الفقير أن يلبس ثيابا رثة وإنما ينبغي أن تكون ثيابه ضمن الحال المقبول، وكذلك أثاث البيت من الفرش والظروف وسائر ما يحتاج إليه».

إذن لا ينبغي أن يكون هناك فقير في المجتمع، فالحالة السوية والعادلة أن لا يكون هناك فقير، ووجود فقراء يدل على وجود خلل في النظام الاجتماعي وخلل في تحمل الناس لمسؤولياتهم.

إن وجود الفقراء قد يسلب المجتمع أمنه واستقراره.. أمنه الأخلاقي وأمنه العام ولذلك على الناس في كل مجتمع أن يتحملوا مسئوليتهم تجاه الفقراء في مجتمعاتهم. ونحن نعيش الآن عصرا يرتفع فيه عدد الفقراء والجياع على مستوى العالم، حيث تشير التقارير الواردة على المستوى العالمي إلى أن عدد الجياع في العالم زاد على المليار نسمة مهددون بالجوع، ويشير تقرير الأمم المتحدة على أنه أخطر مشكلة تهدد الوجود البشري في الألفية الجديدة.

وفي عالمنا العربي أيضا والذي يبلغ تعداده أكثر من 140مليون تشير الإحصاءات إلى وجود أكثر من 43 مليون عربي يعانون من فقر مدقع غير الفقر العادي.

في مثل هذه الظروف ينبغي على كل إنسان واع أن يتحمل مسئوليته تجاه المحتاجين والفقراء في مجتمعه، أولا بمكافحة الظروف التي تنتج الفقر بتوفير فرص العمل ودفع أبناء المجتمع للتأهل من أجل العمل والسعي. وثانيا معالجة الحالات القائمة للفقراء والمحتاجين ونحن على أعتاب عيد الفطر المبارك فإن من الواجبات الأساسية في يوم العيد أداء زكاة الفطرة، فهي وجه من وجوه القيام بهذه المسؤولية تجاه الفقراء، لأن على كل إنسان مكلف أن يدفع الفطرة عن نفسه وعمن يعوله، وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة التنظيم في أداء هذه الفريضة، فالمبالغ التي يدفعها المسلمون في يوم عيد الفطر إذا افترضنا أن المسلمين مليار ونصف أو ما يقارب ذلك، وافترضنا أن ثلثهم قادر أن يؤدي هذه الفريضة فهذا يعني أن نصف مليار من البشر يدفعون الفطرة، وهذه الفطرة تتراوح قيمتها الآن بين دولارين وثلاثة دولارات حسب اختلاف المناطق والبيئات وهذا يعني ما يزيد على مليار أو مليار ونصف دولار تبذل في صبيحة يوم واحد، فلو كان لها تنظيم في مختلف المجتمعات الإسلامية لكانت أقدر على تلبية الكثير من الاحتياجات، وفي مجتمعنا المحلي في المملكة السعوديون ينفقون 250مليون ريال على زكاة الفطرة، يمكنها أن تصنع شيئا في حياة الفقراء والمحتاجين, وأن تعالج عددا من مشكلات هؤلاء الفقراء بشكل أفضل.

الخطبة الثانية

ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على رسول الله ص في آخر جمعة من شهر رمضان فلما بصر بي قال لي يا جابر:"هذا آخر جمعة من شهر رمضان فودعه وقل اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه فإن جعلته فاجعلني مرحوما ولا تجعلني محروما".

حينما يصحب الإنسان إنسانا يحبه ويأنس له فإنه يستوحش عند مفارقته، أرأيت حينما يودع الإنسان مسافرا عزيزا عليه كيف يشعر بالحزن والكآبة عند فراقه خاصة إذا كان لا يدري هل سيلتقي معه فيما بعد أم لا، مثلا إذا كان يعيش في بلد يواجه حالة حرب وابنه جندي يذهب إلى معارك القتال فإنه يودعه وهو لا يدري أيعود إليه أم لا يعود، فكيف ستكون ساعة الوداع ولحظاته بالنسبة إليه؟!

 إننا ونحن نودع شهر رمضان إذا كنا نعرف قدر شهر رمضان وقيمته، وإذا كنا قد أنسنا به، فإن المؤمنين يأنسون بهذا الشهر لأنه يمثل أفضل فرصة لهم للقاء الله ولمناجاة الله ولحط الذنوب ولتجاوز العيوب وللقرب من الله سبحانه وتعالى وللفوز برضا الله وجنته.

فشهر رمضان بالنسبة للمؤمنين يعتبر ربيعا فهو زمن الأنس وزمن العشق، زمن الارتياح النفسي والقلبي ولذلك يشعرون بمضاضة وكآبة وهم يودعون الشهر الكريم، فالأدعية الواردة عندنا في توديع شهر رمضان كدعاء الإمام زين العابدين توجه الإنسان المؤمن وتوقظ هذا الشعور في نفسه.. أيها المؤمن إنك تفارق زمنا هو أعظم وأفضل الأزمنة، ولا يدري الإنسان هل سيلتقي مرة أخرى بشهر رمضان أم لا؟ إن الآجال والأعمار والأمور بيد الله، والإنسان لا يدري هل سيلتقيه مرة أخرى أم لا؟

لهذا ينبغي أن نشعر من أعماق قلوبنا ونفوسنا بوحشة فراق هذا الشهر العظيم، يقول الإمام زين العابدين في دعائه الطويل الذي يودع به شهر رمضان المبارك: "وقد أقام فينا هذا الشهر مقام حمد وصحبنا صحبة مبرور وأربحنا أفضل أرباح العالمين ثم قد فارقنا عند تمام وقته وانقطاع مدته ووفاء عدده فنحن مودعوه وداع من عز فراقه علينا وغمنا وأوحشنا انصرافه عنا ولزمنا له الزمام المحفوظ والرعية والحرمة المرعية والحق المقضي فنحن قائلون السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات ويا خير شهر في الأيام والساعات السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال ونشرت فيه الأعمال السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك وما أسعد من رعى حرمتك بك السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب وأسترك لأنواع العيوب السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين وأهيبك في صدور المؤمنين السلام عليك من شهر لا تنافسه الأيام السلام عليك غير كريه المصاحبة ولا ذميم الملابسة السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عنا دنس الخطيئات.." إلى آخر الدعاء الذي لا ينبغي أن يفوت المؤمن.

وفيما بقي من شهر رمضان ونحن نودعه لازال أمامنا متسع لمن لم يصف حساباته مع الله، ومن كان يشعر بأنه لم يؤد ما عليه من حق تجاه الله، عليه فيما بقي من شهر رمضان ألا يسمح بخروج هذا الشهر وله قبل الله ذنب أو تبعة، فعليه أن يتخلص من الذنوب والتبعات بأن يتوب ويقرر التوبة وترك ما يقوم به من أخطاء وأن يخرج من حقوق الله التي عليه. ومن حقوق الناس وأن يحسن إلى الناس، فها هو الإمام زين العابدين كما روي عنه في آخر ليلة من ليالي شهر رمضان يجمع خدمه وغلمانه ويقررهم بأخطائهم وذنوبهم ثم يتوجه إلى الله ويقول ما مضمونه إنك قد أمرتني بالعفو عمن أساء وإنني أعفو عمن أساء إلي فاعف عني إساءاتي وذنوبي.

فعلى الإنسان إذا أراد عفو الله سبحانه وتعالى أن يسعى إلى عفوه بالعفو عن الناس، قد يشعر بأن هناك من أساء إليه من قريبين أو بعيدين وخاصة من الأرحام، والأقرباء أو الجيران والزملاء هؤلاء الذين قد يكونون قد أساؤوا إليك وأنت في قلبك عليهم أو على أحدهم موجدة، بادر للعفو عنهم وهناك من الناس حينما تقول له اصفح عن أخيك اغفر لزميلك يقول لا تدري أنت ماذا عمل؟ ولكنك ماذا عملت أنت أيضا تجاه الله! إنك تريد من الله أن يغفر لك كل ذنوبك مهما كانت كبيرة وعظيمة وما قدر هذه الذنوب التي تتعلق بقضايا الحياة أمام الذنوب التي تريد عفو الله تعالى عنها، يقول الله تعالى: ﴿وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم فمن كان يحب ويريد مغفرة الله وعفو الله، فأفضل طريق لذلك هو العفو عمن أساء إليك مهما كانت إساءته، فتقرب إلى الله تعالى بالعفو عنه وبالصفح عن إساءته، وخاصة إذا كان من الأرحام والأقرباء، فهذا أفضل الطرق والمبالغة في الدعاء وحدها لا تكفي، فالإمام زين العابدين ع مع أدعيته في طلب العفو والمغفرة يأتي بخدمه ويغفر لهم ويصفح عنهم ويحسن إليهم طلبا لعفو الله تعالى ورضوانه.

وهذا اليوم آخر جمعة من هذا الشهر الكريم هذه الجمعة التي خصصت كيوم للقدس لكي يتذكر المسلمون هذه المأساة والمعاناة التي يعيشها إخواننا الفلسطينيون، وهذا الانتهاك لمقدس من مقدساتنا الدينية وهو المسجد الأقصى مسرى رسول الله ص وأولى القبلتين لا يزال أسيرا بأيدي الصهاينة.

 وتسمعون الأخبار هذه الأيام كيف أنهم حتى على صعيد التسميات بدئوا ينزعون الأسماء العربية من الأحياء والمناطق العربية وبدئوا يصدرون قرارات أكثر جورا تجاه الفلسطينيين.

إن المسلمين في مثل هذا اليوم عليهم أن يتذكروا الواجب والمسئولية بيت المقدس وتجاه المسجد الأقصى.

نسأل الله تعالى النصر للمجاهدين المقاومين في فلسطين, والعون والثبات للشعب الفلسطيني, وأن تتحمل الأمة مسؤوليتها تجاه هذه القضية المركزية الكبرى.

خطبة الجمعة بتاريخ 28 رمضان 1430هـ الموافق 17 سبتمبر 2009م.