إلغاء شخصية الفرد

تحرير شخصية الإنسان الفرد، وإنقاذه من طغيان هيمنة المجتمع على فكره وسلوكه، كانت مهمة محورية لرسالات الأنبياء، ذلك أن الفرد في المجتمعات البدائية والإقطاعية والمجتمعات التي يحكمها الاستبداد، يكون مسحوق الشخصية ، مسلوب الإرادة، لا حق له في التفكير، فهناك فكر سائد شمولي يمثل الحقيقة المطلقة، ولا حرية له في التعبير عن رأي آخر، فذلك كفر وزندقة وضلال وابتداع، ولا فرصة أمامه للاختيار في نمط السلوك وأسلوب العيش، فهو فرد في قطيع، ونسخة مكررة عن شخصية المجتمع لا تغاير فيها. إنه ذوبان كامل ينعدم فيه أي شعور بالذاتية والخصوصية.

وحين يأتي نبي إلى مجتمعه يدعو الناس إلى الله، فإن دعوته تصطدم بهذا الواقع الذي لا يجرأ فيه الأفراد على الإصغاء لرأي آخر، أو نقاش فكرة جديدة، وهنا يتجه النبي لمعالجة جذور المشكلة، وهي انسحاق شخصية الفرد، وتبعيته المطلقة للجماعة، وتجميده لعقله وإرادته.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن نضال الأنبياء لتحرير الإنسان من هيمنة الجماعة التي تلغي شخصيته وتصادر إرادته.

فالنبي محمد يوجه دعوة مباشرة للأفراد بأن يعطوا لأنفسهم فرصة التفكير خارج الهيمنة الجماعية، وأن ذلك كفيل بتغيير مسار حياتهم.

يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سورة سـبأ، الآية: 46]، وجميع الأنبياء كانوا يرفضون منطق تقليد السالفين وإتباعهم دون إعمال للفكر والنظر ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية:22].

ويحذِّر الله سبحانه أبناء المجتمعات البشرية من الطاعة العمياء للزعماء ومراكز القوى في المجتمع، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا[سورة الأحزاب، الآية:67].

إن هذه الآيات الكريمة ليست مجرد تشهير بأقوام سابقين، بل هي بيان لمنهج إلهي في تقرير حرية الإنسان، وتحفيزه لممارسة إرادته، واستعمال عقله، حتى لا يقع تحت هيمنة الآخرين، واستلابهم لشخصيته.

وما كان يستجيب لدعوة الأنبياء إلا من امتلك شجاعة التمرد والرفض لتلك الهيمنة، وقرر ممارسة حقه في التفكير والاختيار.

هكذا كان الدين في حقيقته وجوهره، دعوة تحرير لعقل الإنسان وإرادته، وسبيل خلاص من الخضوع والخنوع لغير الله تعالى.

لكن المفارقة المثيرة في تاريخ الأديان هي تراجع الأمم والمجتمعات عن انجازات عهود الأنبياء، ليعود الإنسان إلى أحضان الهيمنة الاجتماعية، ويقع في قبضة الاستبداد من جديد، تحت عباءة الدين، وتوظيف شعاراته وعناوينه، فيتحول الدين من حافز تحرر، ونهج نضال، إلى مبرر خنوع، وأداة قمع.

كما يحكي ذلك تاريخ أوربا في العصور الوسطى، ومعظم تاريخ المسلمين بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة.

فحينما عارض (اريوس 336م) القول بإلوهية المسيح أُدين، وأحرقت كتبه، وحرّم اقتناؤها، وخلع أنصاره من وظائفهم، وحكم بإعدام من أخفى شيئاً من كتبه، أو آوى أحداً من أتباعه.

وفظائع محاكم التفتيش التي أقامتها الكنيسة في تلك العصور أشهر من أن تذكر، فقد كانت تحاسب الأفراد ليس على آرائهم الدينية المخالفة فحسب، بل على أي رأي يتبنونه في قضايا الطبيعة والحياة، فغاليلو حكم عليه لأنه قال بحركة الأرض، وبلغ عدد من صدرت ضدهم أحكام عقوبات بسبب آرائهم أكثر من 300.000 ألف شخص، منهم 32.000 ألفاً أعدموا حرقاً.

كما عانت المجتمعات الإسلامية في كثير من عهودها أوضاعاً شبيهة بممارسات محاكم التفتيش.

وهذا هو الحال العام في المجتمعات التقليدية التي لا تعترف للفرد باستقلال شخصيته، ولا تسمح له بالتمتع بالحريات الشخصية، وتريده جزءاً من قطيع لا يشذ عنه في رأي أو سلوك. فلا توجد شخصية مميزة للفرد، ولا خصائص يتميز بها عن الآخرين.

وكانت أنماط الحياة الاقتصادية المحدودة في المجتمعات التقليدية تكرّس واقع الانصهار، حيث كان الاعتماد على الصيد أو الرعي أو الزراعة، وجميع أفراد القبيلة يمارسون نفس الأعمال ويعيشون شكلاً واحداً من الحياة الرتيبة.

ويمكن وصف حالة الذوبان وسحق شخصية الفرد في تلك المجتمعات بالسمات التالية:

◄ ليس للفرد تطلع أو هدف يصبو إليه، لأنه لا يرى لنفسه وجوداً مستقلاً، يدفعه للتطلع والطموح، فهو جزء عضوي في جماعة تسيّره دون وعي أو إرادة منه.

كما قال شاعر قبيلة (غُزيّة):

وهل أنا إلا من غُزيّة إن غوت غويت  وأن ترشد غُزيّة iiأرشد

◄ فكرياً: لا يحق له أن يفكر خارج إطار التفكير السائد في مجتمعه، ولا يجوز له أن يتبنى رأيّاً مخالفاً.

إن عليه أن يثق بفكر الجماعة ويعتقد بصوابيته، فهو الحق المطلق، وما عداه ضلال وابتداع. وحتى في إطار التشريع الإسلامي، ومع الإقرار بمرجعية الكتاب والسنة، فإن عقلية القطيع والتبعية وروح التعصب للجماعة، قد تسللت إلى الوسط العلمي الديني، حتى نقل عن أبي الحسن الكرخي قوله: «كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول ومنسوخ»[1] .

◄ سلوكياً: يلتزم الفرد بالعادات والأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع، وإن كانت كلفتها باهظة، أو لم يكن مقتنعاً بها، لأن استخفافه بشيء منها يعرضه للازدراء.

◄ ليست أمامه خيارات في بناء حياته، فقد يسلب حق اختيار شريك حياته الزوج مثلاً، ويكون القرار بيد العائلة. وهكذا سائر مجالات الحياة.

ورغم أن تطور الحياة في المجتمعات البشرية قد فرض واقعاً جديداً يتمتع فيه الفرد بقدر كبير من الحريات الشخصية، إلا أن بعض المجتمعات لا زالت تصهر أفرادها بقسوة، عبر أنظمة الاستبداد السياسي، واتجاهات التزمّت الديني وصرامة الأعراف والتقاليد الاجتماعية.

* خطبة الجمعة بتاريخ 20 شوال 1430هـ الموافق 9 أكتوبر 2009م.
[1]  السيد سابق. فقه السنة ج1 ص13.