كلمة الشيخ الصفار في تكريم الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه في الاثنينية

مكتب الشيخ حسن الصفار

صدر الجزء الخامس والعشرون من سلسلة (الاثنينية) التي ينشرها الشيخ عبد المقصود خوجة في جدة في مجلدين.

ضم الإصدار أعمال (الاثنينية) لعام 1429هـ / 2008م، وتوثيق لاثنين وعشرين جلسة من جلسات حفلات التكريم التي أقيمت فيها.

وقد ضم المجلد الأول (ص278) كلمة سماحة الشيخ حسن موسى الصفار في حفل تكريم العلامة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، التي أقيمت في 19/1/1429هـ الموافق 28/1/2008م.

هذا نص كلمة سماحة الشيخ الصفار:

أيها السيدات والسادة السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.

في هذا الحفل البهيج الذي يضم نخبة من رجالات المجتمع، وذوي الرأي والعلم والفضل، الذي ينعقد لتكريم عالم من علماء الأمة الذين أبلوا بلاءً حسنًا في الدفاع عن قيم الإسلام، وتبيين معالمه وأحكامه، ورعاية مصالح الأمة.

بداية لا يسعني إلا التقدم بوافر الشكر والامتنان، لمؤسس هذه الاثنينية، معالي الشيخ عبد المقصود خوجه، هذا الرجل الذي طوق الأعناق بفضله وكرمه، واهتمامه بتكريم العلماء والفضلاء وأصحاب الرأي، والمؤثرين في ساحة الأمة، فجزاه اللّه خير الجزاء، وأمد في عمره ومتعه بالصحة والعافية.

في الحديث عن فارس هذه الاثنينية، معالي الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجه «حفظه اللّه» أود التركيز على نقطتين:

الأولى: ترتبط بتكوين فكر ونهج هذا الشيخ الجليل.

الثانية: تتعلق بمجمع الفقه الإسلامي، هذا الصرح الشامخ الذي كان للشيخ دور أساس في إشادته وإقامته، من خلال مثابرته، وعمله الدؤوب.

النقطة الأولى: المدرسة المقاصدية

من أجل أن نتعرف أكثر إلى شخصية شيخنا الجليل الذي نجتمع هذه الليلة في رحاب تكريمه، والإشادة بجهاده ودوره، ينبغي أن نعود إلى المدرسة التي نشأ في أحضانها ونهل منها، إنها المدرسة المقاصدية.

تتلمذ شيخنا على رجل من أبرز رجالات هذه المدرسة وروادها في هذا العصر، وهو الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور «رحمه اللّه»، هذا الفقيه الأصولي المفسر، الذي اهتم أيما اهتمام بهذا الموضوع الكبير الخطير (مقاصد الشريعة) الذي يعني: أن ننظر إلى أحكام الدين، ومسائل الشرع الشريف، من خلال إدراك الأهداف العظيمة والكبيرة التي أراد الدين تحقيقها في المجتمع الإسلامي والإنساني، في مقابل مدرسة أخرى، دأبت على الاهتمام بفروع المسائل الفقهية، وتناولها في بعض الأحيان، وكأنها مقطوعة عن استهدافاتها الإسلامية الكبرى.

المدرسة المقصادية تذكر الأمة، وتذكر الفقهاء وطلاب العلوم الدينية بأن للإسلام أهدافًا، وأن له رسالة، وأن أحكامه وتشريعاته تخدم تلك الرسالة والأهداف، وكما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ»[1] ، والقرآن الكريم حينما يتحدث عن كثير من الأحكام، فإنه يردف ذكرها بذكر أهدافها وغاياتها، وهكذا ما ورد في النصوص الدينية الأخرى، لكن النظرة التجزيئية السطحية التي ابتعدت عن دراسة مقاصد الشريعة، غفلت عن هذا الموضوع، ومن المثير للتأمل أن المدرسة المقاصدية انبثقت وتبلورت في المغرب، فكانت هذه الإرث المهم الذي أودعته وأبقته لنا الأندلس الضائعة، وكأنها ـ كما قال أحد الباحثين ـ مصداقًا للحديث الشريف الوارد عن رسول اللّه حيث قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به»[2] ، وقد تركت الأندلس لنا هذه الأشياء الثلاثة، ومن أبرز ما تركته لنا (علم المقاصد)، الذي كان من أبرز رواده الإمام الشاطبي رحمة اللّه عليه (توفي 790 ﻫ)، وكتابه الموافقات، هذا الكتاب الذي كان الكتاب التأسيسي لعلم المقاصد، وجاء بعده الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة، وفي نفس الوقت علال الفاسي «رحمه اللّه» لكي يجددا طرح هذا العلم، ويعمقانه في الأمة.

هذه المدرسة لم تأخذ مداها بالمستوى المطلوب في المشرق العربي الإسلامي، ونحن نشعر الآن بالحاجة إلى التأكيد على أهمية هذه المدرسة، نحن بحاجة إلى تطوير علم مقاصد الشريعة، المقاصد الخمسة، أو الضرورات الخمس تحتاج إلى تفريع وتفصيل وتطوير، وربما إضافة مقاصد أخرى من وحي الحاجات، التحديات القائمة التي تعيشها الأمة والإنسانية، نحن بحاجة إلى تطوير علم مقاصد الشريعة، وبحاجة إلى تدريسه لأبنائنا، بدل أن يستغرق أبناؤنا في مناهج تدريس الدين في دراسة تفاصيل الأحكام الفقهية، نحن بحاجة إلى تذكير أبنائنا بمقاصد الشريعة الكبرى، ولعل ذلك يكون خير صيانة وحماية لهم من أن يخدعوا، أو يضللوا بالانجراف والانزلاق في المهاوي التي وقع فيها بعض أبنائنا، تحت عنوان الاستجابة لهذا النص، أو لهذا الحكم أو ذاك، ونحن بحاجة إلى دراسة فكر علماء هذا العلم، أعني (مقاصد الشريعة).

النقطة الثانية: مجمع الفقه الإسلامي

مجمع الفقه الإسلامي هذا الصرح الشامخ الذي يمثل آلية عملية للوحدة التي تنشدها الأمة، كل المسلمين والحمد للّه يتطلعون إلى وحدة هذه الأمة، ويتحدثون عن ضرورتها، لكن طرح شعار الوحدة، والتطلع إلى الوحدة، لا يحققها ما لم تكن هناك آليات تساعد على تحقيقها عمليًا في حياة الأمة.

مجمع الفقه الإسلامي وأمثاله هي الآليات العملية التي بإمكانها أن تساعد الأمة على تحقيق هذا التطلع العظيم، من ناحية أخرى فإن مجمع الفقه الإسلامي حيث يجمع علماء، وفقهاء من مختلف المذاهب والاتجاهات والبلدان ليتيح أمامهم الفرصة ليتعرفوا إلى بعضهم بعضًا، وكما قال أحد العلماء: المسلمون إذا تعارفوا تآلفوا، التباعد بينهم هو الذي يعطي الفرصة للتشويه، ولسوء الظن، وللإعلام المغرض فيما بينهم، لكنهم إذا ما التقوا وتعرفوا إلى بعضهم بعضصا عن قرب وتداولوا الرأي، فإن ذلك يساعدهم كثيرًا على التقارب، وعلى إنجاز الوحدة بينهم، وإذا اتحد العلماء وتقاربوا فهي الخطوة الأساس في وحدة الأمة وتقاربها.

وشيء أخير أحب أن أشير إليه؛ وهو أن مجمع الفقه الإسلامي يهتم بدراسة النوازل، والتحديات الجديدة، والمسائل التي تحيط بالأمة في هذا العصر، وبالتالي تنشغل الأمة، وينشغل علماؤها بقضايا عصرهم، وبلاء الأمة في التفرق والاختلاف إنما جاء من الانشغال بالماضين، وانشغالهم بأحداث التاريخ الماضي ولجاجته، هذا الانشغال هو الذي سبب الكثير من النزاعات والخلافات.

حينما ينشغل العلماء بعصرهم وبهمومهم الحاضرة يكونون قد ساهموا في الاتجاه الصحيح، وتجاوزوا أسباب الفرقة والاختلاف، لا مشكلة أن تتنوع وتتعدد الآراء، أو أن تختلف في تقويم أحداث تاريخية سابقة، أو رجالات من رجالات الأمة السابقين من سلفها، مع حفظ الاحترام، وعدم الإساءة فيما بينهم، فهذا أمر لا إشكال فيه، لكن لا ينبغي لنا أن ننشغل بذلك عن واقعنا المعاصر، وأن نترك التحديات والمشاكل، والهموم في ساحتنا، ونهرب عنها إلى الماضي، مجمع الفقه الإسلامي يعالج هذه المشكلة العلاج الصحيح، لأنه في الأساس متجه لمعالجة المشكلات الحاضرة.

في الختام، لقد قرأت عددًا من أبحاث شيخنا الجليل الذي نحتفي هذه الليلة بتكريمه، ورأيت أثر مدرسته المقاصدية على بحوثه، وعلى تناوله للموضوعات، كما تابعت سيرته، وعلاقته بعلماء المسلمين من مختلف المذاهب، وتشرفت بحضور بعض مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران تحت رئاسته، وكذلك جلسات الجمعية العمومية تحت رئاسة فضيلته، ورأيت في سعة صدره وأخلاقه وفضله ما يجسد مقصدًا من مقاصد الشريعة، وهو الحفاظ على وحدة الأمة، لا شك أنه مقصد من أهم المقاصد، يتميز شيخنا الجليل في علاقاته، وفي ترفعه عن الانشغال بالخلافات الجانبية، ودعوته لمن حوله من العلماء، ولجماهير الأمة أن يترفعوا عنها، وأن يعالجوها بروح علمية موضوعية دون استغراق، ودون إساءة، ودون أن ينشغلوا بها عن واقع عصرهم.

إنه نموذج لعالم الدين الواعي لمقاصد دينه، والواعي للتحديات التي تحيط بأمته، والجاد المثابر في حمل هذه المسؤولية والأمانة، جزاه اللّه خير الجزاء ونفعنا بعلومه وجعله ذخرًا لهذه الأمة، ولهذا الدين فيما يعتزم القيام به من مشاريع علمية واسعة.

أشكر لمعالي الشيخ عبدالمقصود خوجة تشريفي بهذه المشاركة، وأشكر لكم إصغاءكم، والحمد للّه رب العالمين وصل اللّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

* ألقيت الكلمة في اثنينية عبدالمقصود خوجة بجدة بتاريخ 19 محرم 1429ﻫ الموافق 28 يناير 2008م.
[1]  نهج البلاغة. خطبة 176، وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
[2]   جامع أحاديث الشيعة. ج14، ص28، حديث1932.