الشيخ الصفّار في الليلة الثانية عشرة: مراجع الشيعة نموذج مشرق، ويتصرفون بمسؤولية تجاه مجتمعاتهم

مكتب الشيخ حسن الصفار حسين الشيخ

بعد افتتاحه حديثه العاشورائي في ليلته الثانية عشرة بالآية الكريمة: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[1] ، حدّد سماحة الشيخ حسن الصفار عنوان المحاضرة بأنها حول «المرجعية الدينية في المجتمع الشيعي»، حيث حدّد ـ بدءًا ـ الأصل اللغوي والمعنى المراد فقهيًّا ﺑ (المرجعية الدينية)، عادًّا هذه الحالة في المجتمعات المتدينة ضمن السيرة الاجتماعية في أي مجموع بشري يرجع فيه غير المتخصّص إلى المتخصص، معتبرًا هذه الحالة غير مقتصرة على المجتمعات الشيعية، غير أن الحالة السنية غالبًا ما يكون منصب المرجعية الدينية تابعًا لحالة التنظيم الذي ترعاه السلطة الحاكمة، بينما هي في الحالة الشيعية قائمة على أساس الاختيار الشعبي وفق الضوابط الشرعية، وهي حالة تنظيمية مرت بمراحل أربع إلى أن وصلت إلى حالتها الحالية، نافيًا أي نوع من التعارض بين المرجعية الدينية عند الشيعة والولاء الوطني، معتبرًا ترديد مثل هذه الأمور بأنه نوع من التهريج الذي يطلقه البعض بغرض جعل المواطنين الشيعة في موقع الدفاع عن وطنيتهم دائمًا، وإلهاءً لهم لعدم المطالبة بحقوقهم المشروعة، متهمًا المدرسة السلفية بأنها من تمارس التدخل في شؤون الدول عبر فتاوى الجهاد والتكفير والتبديع، ومستنكرًا في ختام حديثه ما ظهر من إساءة للسيد السيستاني من قبل الشيخ محمد العريفي، عادًّا هذه الاتهامات في سياق ما يثار ضدّ الشيعة ورموزهم بين الفينة والأخرى.

المحور الأول: المرجعية قوّة واستقامة

استهلّ حديثه في هذا المحور بتعريف المرجعية، إذ ذكر بأنها من الرجوع، الذي يعني العَود، حيث تعني الجهة التي يُرجَع إليها في مورد الحاجة، معرّفًا المرجعية الدينية بأنها: «الجهة التي يرجع ويعود الناس إليها لمعرفة أحكام الدين»، وهي حالة تندرج ضمن الشأن الاجتماعي المتعارف عليه في كل مجتمع، حيث يرجع غير المتخصصين فيه إلى المتخصصين، كما يرجع الناس إلى المستشفى للعلاج، وللمهندس للبناء، وللمعلم للتعلّم، وهكذا...، مذكّرًا بأن الدين شأنه في ذلك شأن بقية احتياجات الإنسان، حيث هو حاجة وموضع تطبيق لدى المسلم، إذ يجد كل مسلم نفسه ملزمًا بتطبيق أحكام الشرع، فإن كان قادرًا على الاجتهاد واستنباط الأحكام، بحيث يعرف كيف يعالج النصوص الشرعية ومسألة الاختلافات التي قد يجدها بينها ليصل إلى الحكم الشرعي، فذلك هو الأفضل، وفي هذه النقطة أشار إلى أن المدرسة الحلبية الإمامية تذهب إلى وجوب الاجتهاد على كل مكلّف، خلاف بقية علماء الشيعة الذين لا يذهبون إلى مثل هذا الرأي، بل يرون صعوبة ذلك، وهو مضمون الآية الكريمة: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[2] ، كما أشار الشيخ الصفار إلى الحالة المرجعية الدينية في المجتمع الشيعي بأنها انتخاب حرّ، ينتخب فيه من توفرت لديه ضوابط وشروط محدّدة، أبرزها شرطان، هما: الفقاهة ـ أي القدرة العلمية على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ـ، وكثير من العلماء يشترطون القدرة الفقهية العالية، وهو ما يعبّر عنه بشرط الأعلمية، وبالإضافة إلى ذلك يشترطون العدالة والاستقامة في مرجع التقليد.

معتبرًا هذه الحالة ميزة مهمّة في التجربة الشيعية، فلا يكون هناك أي نوع من الفرض السلطوي في اختيار أو عزل المرجع، وكذلك لا يكون هناك أي نوع من الضغوط في إصدار الأحكام الفقهية والفتاوى، حتى في الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي يقودها مجموعة من الفقهاء والعلماء، حيث يمارس الفقهاء في الحوزة القمّية مطلق الحرية في إصدار الأحكام والفتاوى، وكذلك في اختيار الشعب لمرجع التقليد، فهذا أمر أوجد نوعًا من القوّة للطائفة الشيعية، وحمى الجمهور الشيعي من الوقوع في الانحرافات التي قد يقع فيها جماهير بقية الطوائف الأخرى، ممثلاً بما يعيشه العالم الإسلامي من فوضى الفتاوى التكفيرية والجهادية غير المنضبطة والمغرِّرة بشبابه وفتيانه، ما سبب العديد من المآسي التي نعيشها بصورة يومية.

وفي التأريخ لحركة تنظيم مسألة المرجعية الدينية، أشار سماحة الشيخ إلى أنها مرت بمراحل أربع، هي:

1. مرحلة الاتصال الفردي، وذلك في عهد الأئمة الممتدّ إلى عهد العلامة الحلي (توفي 726هـ).

2. مرحلة الجهاز المرجعي، وهي المرحلة التي بدأت منذ عهد الشهيد الأول (ت 786ﻫ)، حيث قام الشهيد الأول بعمل شبكة من الوكلاء لمرجعيته في المناطق البعيدة.

3. مرحلة التمركز والاستقطاب، وهي المرحلة التي قامت فيها المرجعية الدينية بعملية التمركز في الحوزة العلمية بالنجف الاشرف في عهد الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء المتوفى سنة 1227هـ.

4. مرحلة القيادة، وهي المرحلة التي بدأت في بداية القرن العشرين، حيث بدأت المرجعية مرحلة القيادة لمواجهة الاستعمار والنفوذ البريطاني في العراق وايران.

المحور الثاني: بين المرجعية والانتماء الوطني

يشير الشيخ الصفار في هذا المحور إلى أنه بعد تقاسم إرث الدولة العثمانية، تشكلت الدول الوطنية والأقطار العربية والإسلامية، وبدأ الحديث عن تكوين الدولة والولاء للوطن في قبال الولاء للأفكار والمعتقدات، وفي هذه النقطة غالبًا ما تثار مسألة انتماء الشيعة إلى أوطانهم أو إلى مرجعياتهم الدينية، وهي المرجعيات التي لا تكون بالضرورة مرجعيات محلية، وبخاصّة في الوقت الراهن، مذكّرًا بأن هذه الحالة حديثة في كثير من مناطق تواجد الشيعة، فشيعة الخليج كانوا يرجعون إلى مرجعياتهم المحلية، ومثلهم شيعة لبنان وباكستان وأفغانستان، وغيرها من المناطق، ولكن مع اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد، بدأت تظهر مسألة المركزية في التقليد، التي قد يطرحها البعض في قبال الولاء للوطن، نافيًا أي رابط بين هذين الأمرين، إذ المرجعية الدينية منحصرة في الفتاوى واستقائها من الفقيه، وسرد الشيخ الصفار في هذا السياق تجربة المعارضة السعودية التي كان يقودها وموقف المرجعيات الدينية الذي ترك للمعارضة حرية اتخاذ القرار المناسب لها ولظروف بلدها من مسألة التفاوض والاتفاق مع الحكومة، وتابع بأن الأمر نفسه تكرر مع المعارضة البحرينية بحيث نأت المرجعيات الدينية العليا بنفسها عن التدخل في الشأن الداخلي. وفي مقابل ذلك، اتهم سماحته التيار الديني السلفي بالتورط في الشئون الداخلية للدول الأخرى بإصدار فتاوى الجهاد والتكفير والتبديع المحرضة على الإرهاب في الجزائر والمغرب العربي وأفغانستان والعراق حاليًّا. معتبرًا أن إثارة مثل هذه التهم هو بغرض التهريج، ولجعل الشيعة دائمًا في معرض الدفاع ورفع التهم عن أنفسهم، وإشغالاً لهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة والتي يجب أن تقرّ لهم في أوطانهم قانونيًّا وعمليًّا.

المحور الثالث: النموذج المشرق

يختم الشيخ الصفار حديثه بالإشارة إلى أن المجتمعات الشيعية تفخر بنماذج مشرقة في مرجعياتهم الدينية فيما يملكونه من وعي وتقدير للظروف التي تعيشها الأمّة، ممثلاً بالمرجعية الأبرز على مستوى الساحة الشيعية السيد علي السيستاني، وهي المرجعية التي يشهد لها الجميع بأن مواقفها الحكيمة حمت العراق ـ مع ما يعيشه هذا البلد من تعقيدات سياسية وأمنية ودينية صعبة ـ من الوقوع في الفتن والاقتتال أو الاحتراب الداخلي بين أطيافه وطوائفه، مذكرًا ببعض المواقف التي اتخذها سماحة المرجع السيستاني، وببعض المواقف التي ظهرت كردات فعل تقديرية لهذه المواقف، ممثلاً بما دعا إليه بعض الكتاب السعوديين من منح جائزة نوبل للسلام للسيد السيستاني، ومستنكرًا بعض المواقف الشاذّة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، والتي نالت من هذه المرجعية الحكيمة الواعية، حيث طالب الشيخ الصفار المسئولين بتوضيح إزاء الإساءات التي تضمنت «كلامًا نابيًا ودنيئًا» أطلقه رجل الدين المتشدد محمد العريفي وجهه خلال خطبة الجمعة في العاصمة الرياض، فيه إساءات فاضحة للسيد السيستاني تضمنت وصفه بالفاجر والزنديق، داعيًا إلى تقديم «اعتذار ورد وتوضيح، لأن في ذلك إساءة لمشاعر طائفة كبيرة من المواطنين والمسلمين»، متسائلاً: «لمصلحة مَنْ جرح مشاعر ملايين المواطنين في بلادنا والدول المجاورة بالإساءة لمرجعيتهم الدينية عبر هذا الكلام النابي والدنيء، وهو الوصف الذي لا يجرأ أن يصف به زعيمًا للمسيحيين أو زعيمًا لليهود فضلاً عن زعيم لطائفة كبيرة من المسلمين، مع استنكار الإساءة إلى أي زعامة دينية أو غير دينية؟».

مدرجًا مثل هذه الإساءات ضمن الظلم والعدوان والافتراءات التي دائمًا ما تُكال إلى الشيعة ورموزها وقادتها عبر التاريخ، وأنها تسيء بالدرجة الأولى إلى من يطلقها، وتسيء إلى البلد الذي تنطلق منه وتشوّه سمعته إسلاميًّا وعالميًّا.