من أجل النهوض

يُخطئ الإنسان مع نفسه وإخوته في الدين ونظرائه في الخلق عندما يغضب الغضب اللاواعي أو ينفعل الإنفعال غير المسؤول، غالبا يصدر هذا الغضب بالقصور عن فهم الواقع وحركته وقلة الخبرة في التعامل مع التحديات، ومن ثمَّ يخطو هذا الإنسان خطواتٍ يحسبُها حقا ومسؤولية لكنها في العمق قد تكون جهلاً أو تهوّراً أو هرطقةً.. وفي الغالب الأعم ينطلق الغضب من اتصاف شخصية هذا الإنسان بالعصبيّة المنغلقة عن تلمّس مواقع النور في الحياة، فينكفئ إلى الذاتية والجهوية ولا يسمح للرأي الآخر أو التجربة الأخرى أو الموقف الآخر، أن يقترب من فكره وتصوره للأمور وللواقع، كبدائل أو مكملات لرؤيته وموقفه، فلا يعطي الحاضر أي دفع نحو المستقبل.. شيء من هذا الغضب، أصابني قبل أيام مضت، حيث تفاعلت مع بعض أحداث الواقع الإسلامي، ومستجدات العلاقات بين المسلمين، وجذبتني تيارات التشنج الفكري، فقاربت سلوك التراشق، ولولا عناية الله تعالى لانجررت وراء مروجي الفكر التعصبي وأعداء المداراة والتعاون من أجل الأمن الاجتماعي والاصلاح، لكنني كعادتي لا أنشر مقالاتي قبل مشاروة الأصدقاء والأحبة من المفكرين والعلماء حول أفكار مقالاتي، فجاءني الرّد من صديق -يعرف جيدا العمل بحكمة إسلامية إمامية- وبمعنى عميق المعرفة بوديان وسفوح الواقع الإسلامي الموحشة قائلا: "إن الساحة تمر بمخاض لإنضاج الخيارات السياسية والثقافية, وأرى عدم الانجرار وراء المعارك الجانبية, ولنشجع الناس على التعبير عن آرائهم, وعليك أن لا تنزعج من وجود رأي مخالف أو نقد لاذع. لتكن كتابتك كتابة إيجابية تدافع عن الفكرة أو تطرحها وتناقش الأفكار الأخرى لكن ليس في صيغة الردّ على أحد"، هكذا شعرت بنباهة كنت قد فقدتها بعد سقوطي في سكرة من خمر الهوى والعجب بالرأي، وتذكرت حينها أن الغضب جمرة من الشيطان، وعدت لمياه سيرة المصطفى وأمير المؤمنين والأئمة الأطهار حتى تطفئ لهيب الغضب، وتوقفت عند ثقافة القرآن الرحيبة في التعامل مع المتغيرات الطارئة على المجتمعات الإسلامية والمشاكل والتحديات الخطيرة المهددة لأمنها وتقدمها، استذكرت الحكمة ومن يؤتاها فقد أوتي خيرا كثيرا وأبصرت طيب الأخلاق ، وروح الإسلام... هذه السطور كتبتها لأبلغ كل الأحبة من الكتاب والناشطين وأصحاب الرأي: كفــانا الغضب الجـاهلي! إننا بحاجة لوعي كبير وروحية بليغة من خلال ممارسة ذلك النقد البناء المفعم بالأخلاق الإسلامية العالية، والبعيد عن الأسلوب الاستفزازي والساخر من الآخر أيا كان، ونحن هذه الأيام برحاب حكيم الإسلام نفس النبي الأكرم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام القائل:

وتجنب الفحشاء لا تنطق بها=مادمت في جد الكلام وهزله

بهذا أيها الأحبة: الاعتراف سيد الأدلة والحكمة ضالة المؤمن وليس الانتفاخ الشخصي والعنفوان المزاجي، فلنكن طلاب حكمة ودعاة إصلاح على نهج الأنبياء والأوصياء والمصلحين عبر التاريخ الإسلامي كله، لسنا بحاجة للصخب الطائفي أو الخطاب الواهن كبيت العنكبوت، ولكننا بأمس الحاجة للكلمة الطيبة والحكمة الإسلامية الرائدة، لنفوت الفرصة على المتربصين بالواقع الإسلامي، فنعطي الصورة السمحة والرائعة للإسلام الأصيل، بالتسامح والتعاون والرفق ببعض ولنحرك ثقافة كظم الغيظ والعفو والاحسان ونهج الحوار في كل مواقع حراكنا العام، لأننا كما عبر مؤخرا سماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله عند زيارته للمدينة المنورة : السعودية ومعها كل المجتمعات العربية والإسلامية بحاجة لثلاثية قاعدية لهرم النهوض وهي:

ترسيخ مفهوم المواطنة لدى أفراد المجتمع والتعامل من خلالها كأساس لبناء الاستقرار السياسي والاجتماعي مع الاستفادة من التنوعات الاجتماعية الاثنية والدينية...

تركيز الاهتمام بمشروع الإصلاح والتنمية، كمعامل أساسي في بعث ثقافة البناء والتطوير والاتقان في مجالات الاقتصاد والاجتماع والسياسة ، وهذا الاهتمام يعني عدم الانجرار وراء النزاعات والجدالات التي تهدم مروءة إنساننا وتهدد أمننا الاجتماعي عامة.

التنافس على ترويج ثقافة التسامح بدلا عن ثقافة الخصام، حتى نحترم أنفسنا وإخواننا بالوطن وبالدين وبالمذهب وبالإنسانية، وبذلك نسهل حركة الاصلاح والتنمية ونحمي المواطنة من التفسخ بأخلاق ذميمة تعبث بواقعنا وتزيد الحرائق الاجتماعية، حيث يروى عن أمير الكلام :

وإذا الصديق أسى عليك بجهله=فاصفح لأجل الود ليس لأجله

بكلمة: يُمكن أي واحد منا أن يجعل من نفسه نجماً عالياً في سماء الفكر والحركة الإنسانيّة والإسلاميّة، تضيء للمجتمع دُروب الإصلاح والتنمية، وتسدّد ثقافات التسامح والحوار والتعايش..ويمكننا أن نجعل التدافع الاجتماعي منطلقا نحو المستقبل، وهذا ما يجب أن نفكر ونعمل من أجله اليوم بإلحاح، علينا أن نركز في المشاركة لرسم صورةٍ إجتماعية بيضاء ناصعة، تنور لنا مسيرتنا الإسلاميّة...صحيح أن البشر ليسوا على درجةٍ واحدةٍ من البصر والبصيرة، وكلٌّ يغرف بمقدار ما يحمل، وينقل بمقدار ما يستوعب، لكن هناك نماذج خالدة يمكننا أن نستلهم من سيرهم المشرقة تفاصيل وأركان بناء الذات الرشيدة المسؤولة والحكيمة في مشوار الإصلاح والتجديد والتنمية، يكفينا أن نتهم أنفسنا على طول المسيرة ولا نخرج أنفسنا من حد التقصير كما أوصانا الإمام علي عليه السلام، ولنبقى رواد مدرسة الطهر والصفاء والوعي الإسلامي ألا وهي الثقلين، لنجعل الواقع الإسلامي الجنة الخضراء المعطرة للروح والفكر والحياة بمسك التقوى والرفق والجد والاجتهاد...هي تأمّلاتٌ ومراجعات فرضتها على ذاتي، حتى أتعلم كيف أغضب الغضب الذي يبقيني مسلما مسؤولا بحكمة وأدب لا هوى ومنكر، حيث الإسلام يحتاج منا الرفق والدقة والنباهة، على كلّ الصُعد والمستويات،حتى لا نقتل أنفسنا وندمر واقعنا من حيث تصورنا أننا نسعفه... ويبقى شعارنا: ﴿وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة/105).. والله المستعان.

29/6/2010م
باحث و كاتب إسلامي جزائري