رعاية المرضى ومساندتهم

مكتب الشيخ حسن الصفار أديب أبو المكارم

قال الشيخ حسن الصفار في خطبة الجمعة 21/11/1431هـ في القطيف، أن الإنسان يواجه امتحاناً دائماً طوال حياته حيث يعيش ثنائية المادة والروح، والعقل والشهوة. وطبيعة الحياة فيها ما يستثير الدَافعَين أمام الإنسان.

وقال بأن المعركة والصراع الذي يواجه الإنسان يبدأ من هواجس وخواطر تختلج في نفسه، وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بـ ﴿طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ. مؤكداً بأن الإنسان عليه أن يواجه الأمر بحذر منذ البداية وإلا فقد يقع أسير قبضة الشيطان. وعن كيفية المواجهة أجاب سماحته: يكون بذكر الله عز وجل في كل حين، مشيرًا إلى أن هناك مواطن تزداد فيها أهمية ذكر الله تعالى ومنها مواقف الغضب، وعند اغراء الشهوات والاهواء.

وكان حديث سماحة الشيخ الصفار في الخطبة الثانية حول أهمية رعاية المرضى ومساندتهم. حيث أشار إلى إن طبيعة جسم الإنسان تجعله عرضة للعلل والأسقام مهما كانت قوة جسمه، ومهما كانت البيئة الصحية التي يعيش فيها. وأضاف بأنه ليس هناك من يعفى من المرض حتى الأنبياء والرسل وكذلك الأطباء.

وقال سماحته بأنه مهما قاوم المريض المرض بالعلاج، لكن هذا وحده لا يكفي، هناك أمر هام وهو تمتعه بقدر كاف من المعنويات، وهنا يأتي دور المجتمع في توفير الأجواء المعنوية لمرضاه.

ثم تحدث سماحته عن ما لاحظه من تعامل المجتمع الأمريكي مع المرضى، وكيف يهتمون بإنشاء المؤسسات والجمعيات لرعاية المرضى. مستعرضًا سماحته بعض المواقف التي شاهدها بنفسه في رحلته العلاجية الأخيرة إلى أميركا، وما رواه له بعض الأخوة هناك. وقال متأسفًا: كلما سمعت قصة قلت: سبحان الله! هذا ما يدعو إليه ديننا الحنيف، ونحن أولى بتطبيقه من غيرنا، ولكن هناك غفلة عن هذا الأمر في مجتمعاتنا! وقال متسائلًا: لماذا تغيب هذه الثقافة عن مجتمعاتنا؟ داعيًا إلى مضاعفة الجهد في هذا الجانب، وزيادة عدد اللجان الأهلية المختصة برعاية المرضى.

الخطبة الأولى: الخواطر السيئة والحذر من الانزلاق

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ.

مسيرة الإنسان في هذه الحياة تتطلب منه أن يؤدي امتحانًا دائمًا وأبدًا، ويظل ينتقل من امتحان إلى آخر حتى يلقى ربه الكريم. وهذه هي العلة من خلق الإنسان في الحياة أن يمتحن، وهذا ما يبينه عز وجل: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ, ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. كل إنسان معرض للامتحان، ويبقى في مواجهة هذا التحدي الدائم، فهو يعيش ثنائية المادة والروح، والعقل والشهوة. وطبيعة الحياة فيها ما يستثير الدَافعَين أمام الإنسان. كما أن طبيعة خلق الإنسان تجعله عرضة لتحد دائم حيث يتكون من نفحة من روح تشده إلى السمو والرفعة، وقبضة من تراب تشده إلى الانحطاط والسقوط. في أعماقه شهوات تدفعه للانحراف، وعنده عقل يدعوه إلى الصمود والمقاومة والثبات. هذا صراع حتمي بين سمو الروح وانحطاط المادة، وبين إرادة العقل وإغراءات الشهوة، يظل الإنسان يواجهه دائمًا وأبدًا. والإمام زين العابدين يذكرنا بهذا الصراع الذي يعيشه الإنسان يقول في مناجاته: «إلهي أشكو إليك عدوًا يضلني، وشيطانًا يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى، ويزين لي حبًّ الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى».

وكون الإنسان مؤمنًا بالله تعالى، لا يعفيه من الامتحان، بل قد يكون أكثر بلاء. الإنسان الذي ينتمي إلى السلك التعليمي حتى لو كان متفوقًا إلا أن ذلك لا يعفيه من خوض الامتحان كبقية الطلاب. الإمام الصادق عليه السلام يقول: «إن الشياطين أكثر على المؤمنين من الزنابير على اللحم» [بحار الأنوار ج 78 ص 211]. بل إن المؤمن هو الشغل الشاغل للشياطين، وقد ورد عن الإمام الصادق أيضًا قوله: «لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور فما يقصد فيها إلا أولياءنا» [تحف العقول ص 221].

طائف من الشيطان:

والسؤال هنا، من أين تبدأ المعركة؟ إنها تبدأ من هواجس وخواطر تختلج في نفس الإنسان. الآية الكريمة تقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان) وهذا تأكيد على أن المؤمن معرض للامتحان وتربص الشياطين به. ومعنى قوله: (طائف من الشيطان) الطائف أصله ما يطوف حول الشيء، وكأن الهواجس تدور حول الإنسان المتقي وتتربص به الدوائر. فماذا يعمل المؤمن في هذه اللحظة؟

عليه أن ينتبه لها من بداية الأمر ويقاومها، وإلا فسيكون أسير قبضة الشيطان. وكيف ينتبه لها؟ تجيب الآية الكريمة، بذكر الله تعالى: ﴿تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ. وذكر الله تعالى لا يكون باللسان فحسب، بل بتذكر أن الله عز وجل عليم بكل شيء، وأنه يرى ويسمع كل شيء، وأننا منه وإليه، وسوف يحاسبنا. وإذا تذكر الإنسان ربه أبصر أمره ودربه: ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ. الهوى والرغبة تمنع الرؤية الصحيحة، فلا يرى الإنسان عندها الجوانب السلبية فيما يهوي ويرغب، لكنه إذا تذكر الله عز وجل تزول عنه هذه الغشاوة، فيعي أمره قبل أن يقع في المحذور.

فلابد للإنسان أن يواظب على ذكر الله في كل لحظة حتى لا يركن إلى وساوس الشيطان. الروايات عن أهل البيت تشير إلى مواطن مهمة ينبغي التركيز على ذكر الله تعالى فيها, منها:

عند الغضب: ففي حالة الغضب ينفعل الإنسان وتشتد حركة طائف الشيطان حول نفسه, لتدفعه نحو تصرفات ارتجالية، وقد يندم عليها لاحقًا. فقد يقوم بعمل إجرامي أو شيء يشينه.

في الرواية «لما دعا نوح ربه عز وجل على قومه أتاه ابليس فقال: يا نوح إن لك عندي يداً أريد أن أكافيك عليها, فقال له نوح : إنه يبغض إليِّ ان يكون لك عندي يد فما هي؟ قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم فلم يبق أحد أغويه فأنا مستريح حتى ينشق قرن آخر وأغويهم فقال له نوح : ما الذي تريد أن تكافئني به قال: اذكرني في ثلاث مواطن فإني أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في احداهن: اذكرني إذا غضبت واذكرني إذا حكمت بين اثنين واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد» [بحار الأنوار ج 11 ص 318].

وكذلك الحال عند ثورة الرغبة والشهوة, على الإنسان ان يذكر الله وانه رقيب عليه وان عذابه شديد, حتى لا يقع تحت اسر الهوى والشهوة وهو ما أشارت إليه الفقرة الأخيرة من الرواية.

عندما يهم بعمل الخير:

إذا أراد الإنسان أن يعمل خيرًا فعليه أن يبادر لعمله، فإن الشيطان يحول بينه وبين ذلك الأمر. جاء في الرواية «أن إبليس أوصى نبي الله موسى : إذا هممت بصدقة فامضها، فإذا همّ العبد بصدقة كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبينها» [بحار الأنوار ج 69 ص 197]. قد يتشجع شخص ما تزوره لتعرض عليه عملًا خيريًا، ولكنه إذا لم يعط منذ البداية فإنه سيكون عرضة لطائف الشيطان، فقد يقلل من عطائه، ولربما امتنع عن العطاء.

على الإنسان أن يبادر لعمل الخيرات. وأن يتذكر الله عز وجل في كل حين. نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق والصلاح والسداد إنه سيميع مجيب.

الخطبة الثانية: رعاية المرضى ومساندتهم

جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «ليس للأجسام نجاة من الأسقام» [غرر الحكم ودرر الكلم].

طبيعة جسم الإنسان تجعله عرضة للعلل والأسقام مهما كانت قوته، ومهما كانت البيئة الصحية التي يعيش فيها، فهناك أمراض وراثية تولد مع الإنسان، وأمراض تنتج عن الحوادث التي تعترض الإنسان، وأمراض تأتي عن طريق العدوى بانتقال الميكروبات والجراثيم، وأمراض تحدث نتيجة خلل وخطأ في السلوك الغذائي والصحي، إلى أسباب أخرى.

لا ينجو إنسان من الأمراض حتى الرسل والأنبياء، وحتى الأطباء وهم من يعالجون أمراض الغير. ولكن تبقى مسؤولية الإنسان في حماية جسمه من المرض ما استطاع، وكما قيل: الوقاية خير من العلاج. وإذا ما وقع المرض فإن الشرع والعقل يوجبان على المريض أن يسعى لعلاج نفسه.

المجتمع والمريض:

كيف يتعامل المجتمع مع المريض؟ قد يقاوم المريض المرض بالعلاج، ولكن هذا وحده لا يكفي، هناك أمر هام وهو تمتعه بقدر كاف من المعنويات، وهنا يأتي دور المجتمع في توفير الأجواء المعنوية لمرضاه. نحن نقرأ في الاحاديث والروايات حول أهمية عيادة المريض لما لذلك من أثر معنوي كبير في نفس المريض. جاء عن رسول الله : «عائد المريض يخوض في الرحمة» [كنز العمال ج 9 ص 95 ح 25141]. وعنه : «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني؟ قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده» [وسائل الشيعة ج 2 ص 418].

لقد دعاني لهذا الحديث بعض المشاهد الجميلة التي شاهدتها خلال رحلتي العلاجية الأخيرة إلى أمريكا، حيث وجدت جمعيات ومؤسسات لخدمة المرضى الذين هم من مختلف الشعوب والبلدان. وكلما سمعت قصة قلت: سبحان الله! هذا ما يدعو إليه ديننا الحنيف، ونحن أولى بتطبيقه من غيرنا، ولكن هناك غفلة عن هذا الأمر في مجتمعاتنا! يوجد بعض اللجان تهتم بهذا الجانب عندنا في المملكة، ففي الغرفة التجارية هناك لجنة أصدقاء المرضى تقوم بزيارة المرضى وتفقد أوضاعهم سنوياً، وتقديم المعونة للمستشفيات. وفي الأوجام هناك لجنة فاعلة في هذا الجانب حسب ما رأيت وقرأت من تقاريرهم، ولكنا نحتاج إلى أكثر من هذا، إلى عدد من اللجان والمبادرات الفردية والجمعية في كل مدينة وقرية.

بعض القصص والمشاهد:

التقيت في أمريكا أحد المؤمنين من دولة الكويت، كان ذهابه لعلاج طفله المصاب بالورم الخبيث (السرطان). كان يتحدث لي منبهرًا عن المشاهد والمواقف الطيبة التي لقيها من المتطوعين لمساندة المرضى. فهناك فندق خاص أنشأه متبرعون للاطفال الذين يتعالجون عن الاورام الخبيثة يقيمون فيه بأسعار رمزية، وشركات تتنافس في تقديم الوجبات لهم، وشخصيات المنطقة يتسابقون لحجز موعد لتخصيص وقت لقراءة قصص للأطفال المصابين، ومؤسسات تخصص وقتًا ترفيهيًا لهم بتنظيم الرحلات.

وقد رأيت في المستشفى الذي كنت اتردد عليه عدة افراد من المتطوعين بزي معين شغلهم الشاغل توجيه المرضى الجدد لأقسام المستشفى أو تقديم ما يحتاجونه من خدمات معلوماتية، وهم أشخاص متقاعدون يقضون وقت فراغهم تطوعًا لخدمة المرضى. لماذا تغيب هذه الثقافة عن مجتمعاتنا؟ أوليس عندنا متقاعدون، وأناس يقضون فراغهم في ما لا ينفع ولا يفيد؟

بعض الكنائس هناك لها ميزانيات لمساعدة المرضى من مختلف الأديان والبلدان، لا يصنفون ولا يميزون، ويسعون للتبشير بدينهم بهذا الأسلوب.

والتقيت أحد الأخوة من بلدنا يقيم هناك منذ ثماني سنوات لعلاج زوجته وابنه، حيث تعرضا لحادث مروري مريع أصيبت الزوجة إثره بتشوهات في كامل جسدها، وابنه كذلك، والابن الآخر فارق الحياة. ولشدة الضرر الذي لحق بالأم والولد فقد تكفلت الدولة بنقلهم للعلاج في أمريكا. ذكر لي هذا الرجل قصصًا كثيرة للمواقف الإنسانية التي عاملهم المتطوعون بها. يأتي البعض إليه عندما يرونه يصرف وقتًا كبيرًا مع ابنه ليطلب منه أن يمضي لقضاء شغله ويبقى هو يرعى الطفل. وحين سجّل ابنه في المدرسة اهتم طاقم التدريس والإدارة في المدرسة بالطفل لكونه يعاني من تشوهات في وجهه وشكله، حتى أنهم جمعوا الأطفال وعرضوا لهم فلمًا عن الحوادث حتى يهيئوا ويوضحوا لهم أن هذا الطفل أصيب بمثل هذا الحادث وأصبح بهذه الحالة ليتعاطفوا معه. اهتموا حتى بأموره الدينية فلا يقدمون له طعامًا غير شرعي، وعندما تحين وقت الصلاة يعطونه فرصة لإقامتها، بل هم من يذكرونه بوقتها.

البعض يعتبر أن الحديث حول هذا الأمر هو إشادة بالمجتمع الآخر. نحن نشيد بهم في المواقف والأساليب الصحيحة التي عندهم، «الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها» كما يقول الإمام علي . علينا أن نشير إلى سلوكهم الصحيح ونوجه الناس للأخذ به. كما نحذر من سلوكياتهم المخالفة لديننا. نحن نحتاج إلى مبادرات ولجان ومؤسسات للاهتمام بالمرضى وتعزيز هذا الجانب كما تكونت لجان أخرى وكان لها الأثر الطيب.

ونختم حديثنا بدعاء الإمام زين العابدين عند ما كان يواجه مرضاً أو بلاءً, وهو الدعاء الخامس عشر من أدعية الصحيفة السجادية, جاء في مطلعه: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا لَمْ أَزَلْ أَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ بَدَنِي، ولَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَحْدَثْتَ بِي مِنْ عِلَّةٍ فِي جَسَدِي فَمَا أَدْرِي، يَا إِلَهِي أَيُّ الْحَالَيْنِ أَحَقُّ بِالشُّكْرِ لَكَ، وأَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَوْلَى بِالْحَمْدِ لَكَ؟ أَوَقْتُ الصِّحَّةِ الَّتِي هَنَّأْتَنِي فِيهَا طَيِّبَاتِ رِزْقِكَ، ونَشَّطْتَنِي بِهَا لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِكَ وفَضْلِكَ، وقَوَّيْتَنِي مَعَهَا عَلَى مَا وَفَّقْتَنِي لَهُ مِنْ طَاعَتِكَ أَمْ وَقْتُ الْعِلَّةِ الَّتِي مَحَّصْتَنِي بِهَا، والنِّعَمِ الَّتِي أَتْحَفْتَنِي بِهَا، تَخْفِيفاً لِمَا ثَقُلَ بِهِ عَلَيَّ ظَهْرِي مِنَ الْخَطِيئَاتِ، وتَطْهِيراً لِمَا انْغَمَسْتُ فِيهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ».

نسأل الله تعالى الشفاء والصحة والعافية للجميع، وأن يلبس مرضانا لباس الشفاء، وأن يداويهم بدوائه إنه سميع مجيب.

وللاستماع:

«الخطبة الأولى: الخواطر السيئة والحذر من الانزلاق»

«الخطبة الثانية: رعاية المرضى ومساندتهم»