النظام والآداب في اجتماعات الشعائر الدينية

افتتاح

الحمد لله الذي تجلى لخلقه بآياته، وتفرد بكمال صفاته، وتنزه عن مشابهة مخلوقاته.

نحمده سبحانه على ما أفاض علينا من ضروب الإحسان، وأسداه لنا من صنوف الامتنان.

ونشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له إذعانا له بالالوهية، واعترافا له بالربوبية.

ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، ارفع الخلائق لديه قدرا، وأعظم الرسل مجاهدة وصبرا، وأقربهم إليه منزلة وذكرا.

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما بلغ رسالتك، وصدع بأمرك، ونصح لعبادك، وعلى آله الأئمة الدعاة والقادة الهداة.

أوصيكم عباد الله ونفسي قبلكم بتقوى الله سبحانه في السر والعلن، والابتعاد عن الآثام ما ظهر منها وما بطن.

فإن الذنوب والمعاصي تغير النعم وتنزل النقم وتحبس الدعاء و تقطع الرجاء.

اللهم صل على محمد و آل محمد وأحي قلوبنا بذكرك, و اجعل ذنوبنا مغفورة وعيوبنا مستورة وفرائضنا مشكورة ونوافلنا مبرورة, وقلوبنا بذكرك معمورة ونفوسنا بطاعتك مسرورة.

الخطبة الأولى: التراجع والاعتذار عن الخطأ

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد [البقرة - آية 206].

الخطأ أمر متوقع من الإنسان، وصدوره من بني البشر أمر طبيعي، فالإنسان بطبيعته ليس معصومًا: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم). ووقوع الإنسان في الخطأ له أسباب من أهمها:

الجهل: إذ تشتبه عليه الأمور.

والغفلة: فيقع في الخطأ غير ملتفت لذلك.

والضعف: ففي لحظة من لحظات الهوى والشهوة قد يضعف ويقع في الخطأ.

وحيث إن الله تعالى ميزّ الإنسان بالوعي والإرادة، فعليه أن يتراجع عن خطئه إذا أدركه، وأن لا يتردد في ذلك. يقول رسول الله : «كل بني آدم خطاء وخيرهم التوابون».

قد ينتبه الإنسان إلى خطئه بنفسه وهي من أفضل الحالات، وقد ينتبه له عن طريق الغير، فيجد من ينصحه ويرشده، وهذا من موارد توفيق الله تعالى، فعليه أن يحمد الله تعالى لذلك. أرأيت لو أن إنسانًا يقصد مكانًا معينًا، وكان يمشي في طريق لا يوصله إلى المكان الذي يريد، وحصل له من أرشده إلى الطريق الصحيح، فوفر عليه الوقت والجهد، الا يفرح بذلك ويشكر من أرشده.

لكن بعض الناس يزعجه نصح الآخرين، ويعتبره تدخلًا في شؤونه، حتى لو أدرك الخطأ، فتنتابه حالة من الأنفة والتكبر، فيصر على خطئه ويستمر فيه! ويزداد الأمر سوءًا في العلاقات البينية، فلا يرى من السهل أن يعتذر لغيره، وهذه حالة كانت مألوفة في الجاهلية حيث أن الرجل يعتبر الاعتذار لغيره ضعفاً وهزيمة.

القرآن الكريم يبين لنا حقيقة هذا الأمر، فإذا قيل للمخطئ: ﴿اتق الله فإنه لا يقبل بذلك وقد يتصرف بما يزيد خطأه سوءًا ﴿أخذته العزة بالإثم. والعزة هنا للعهد، أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها قبول اللوم، أو التغيير عليه.

وهذه الحالة تصيب الإنسان أكثر عندما يكون خصمه أقل منه شأنًا وقدرًا، إذ أنه إذا أخطأ على من هو أعلى منه فسيجد نفسه مضطرًا للاعتذار حتى يقي نفسه ردة فعل ذلك القوي، أما مع خصمه الضعيف فإنه لا يتوقع منه أي ردة فعل، فيحجم عن الاعتذار، وهذا مصداق لقوله تعالى: ﴿أخذته العزة بالإثم.

نماذج كثيرة في حياتنا نرى فيها تجليات هذا المرض:

ـ حين يخطأ الزوج على زوجته ومع أن الزوج قد يدرك خطأه من نفسه، أو بتنبيه الآخرين له، لكنه يرفض الاعتذار، ويرى أن اعتذاره يقلل من رجولته، ويضعف شخصيته.

ـ وكذلك مع الأبناء: يظن البعض أن اعتذار الأب لابنه يذهب بهيبته، ويقلل من شأنه عند ولده، وهذا غير صحيح، فلا تترد في أن تعتذر لابنك إذا أخطأت في حقه.

ـ ومع الموظفين: قد يكون تحت إشرافك موظف أقل منك شأنًا، وقد يكون في بيتك سائق أو خادمة، فلا تشعر بأن اعتذارك لهم ـ لو أدركت أنك أخطأت في حق أحدهم ـ ينقص من كبريائك وهيبتك.

ـ وقد يخطئ الحاكم وهو صاحب سلطة على مواطنيه، ويدرك بأنه مخطئ، ولكن كبرياء السلطة تمنعه من الاعتذار.

قد يبدو التراجع عن الخطأ، والاعتذار، لأول وهلة حالة ضعف وهزيمة، لكنه في الواقع يكشف عن ثقة بالنفس، وشجاعة في الموقف، وهو انتشال للنفس من ضعف الخطأ.

والاعتذار نوع من أنواع التعويض المعنوي، يشعر الطرف الآخر بكرامته، وعادة ما يقبل العذر لأن في ذلك رداً لاعتباره.

جرّب أن تقول لمن أخطأت في حقه: آسف، أعتذر إليك عما بذر مني. قد يصعب الأمر بداية، ولكنك ستجد ذلك سهلًا إذا اعتدت عليه، بل سوف يساعدك على التأني قبل أن تخطئ في حق غيرك، أما إذا أخذتك العزة بالإثم فإنك ستدفع الثمن باهظًا يوم القيامة، فهناك تجتمع مع خصمك أما رب رحيم، وسوف تجد نفسك مضطرًا للاعتذار على رؤوس الأشهاد، وقد لا يقبل منك عذرك، لأن خصمك يكون في أشد الحاجة للحسنات، فيؤخذ من رصيدك لصالحه، أو يوضع شيء من سيئاته عليك، فهل تحتمل ذلك؟

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو في موقع الحاكم، يطلب من رعيته قائلاً: «فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل, ولا تظنوا بي استثقالًا في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه».

أين تجد حاكمًا يجهر بهذا، ويطالب شعبه بتنبيهه، ويرجع عن خطئه إذا أدركه؟ كل عام نقرأ التقارير الدولية حول ضعف حقوق الإنسان، وتأخر التنمية، ولكن الحكام ـ وهم لا شك يدركون ذلك ـ يعيرون تلك التقارير آذانًا صماء، ولا يريدون أن يعترفوا بالخطأ، وتغيير الوضع إلى الأحسن، يشعرون بحالة من الكبرياء الزائفة.

الإمام علي يقول: «اسمعوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم». ويقول: «طوبى لمن أطاع ناصحًا يهديه، وتجنب غاويًا يرديه» وعنه : «من أكبر التوفيق الأخذ بالنصيحة» وعنه أيضًا : «مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش». قد يزعجك النصح ولكن فيه نفعك، وقد يروق لك تصفيق الآخرين لك على خطئك ولكن في ذلك هلاكك.

نحن بحاجة ماسة إلى التناصح سيما في العلاقات البينية، نحتاج إلى أن نرسخ في نفوسنا لغة الاعتذار، وأن تكون مفردة نلهج بها كلما أخطأنا. من يعيش في المجتمعات الغربية يرى أن الشخص منهم يبادر للاعتذار (I am sorry) أنا آسف، عبارة دارجة على ألسنتهم الكبير منهم والصغير، أما نحن فنعجز عن تلفظ هذه العبارة، بل نوبخ من أخطأنا في حقه!

صور مضيئة

على الإنسان أن يعود نفسه التراجع عن الخطأ، وأن يشكر من ينصحه، وأن يعتذر إذا اخطأ.

في تاريخنا الإسلامي وسير العلماء والأولياء صور مضيئة، ونماذج مشرقة للالتزام بهذا الخلق الكريم، فقد بعث رسول الله  احد القادة العسكريين من أصحابه، وهو خالد بن الوليد، في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة على رأس فرقة من الجيش صوب إحدى القبائل للدعوة إلى الإسلام، ولم يأمره بقتالهم، بعثه داعيا ولم يبعثه مقاتلا لكنه أساء التصرف، وارتكب خطأً كبيراً بقتلهم وسلبهم.

قال ابن الأثير: فلما انتهى الخبر إلى النبي، رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد!».

ثم أرسل عليا ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فودى لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب، وبقي معه من المال فضلة، فقال لهم علي: «هل بقي لكم مال أو دم لم يودّ؟» قالوا: لا، قال: «فإني أعطيكم هذه البقيّة احتياطا لرسول الله (ص»، ففعل. ثم رجع إلى رسول الله  فأخبره، فقال:« أصبت وأحسنت». وفي رواية قال  لعلي: «أعطيتهم ليرضوا عني رضي الله عنك».

وجاء في سيرة الإمام السيد محمد حسن الشيرازي المعروف بالمجدد (1230هـ- 1312هـ) والذي كان المرجع الديني والزعيم البارز أنه في درسه العلمي، طرح مسألة ذات يوم فأشكل عليه تلميذه الشيخ محمد كاظم الخرساني صاحب كفاية الأصول، ودار بينهما نقاش سكت التلميذ في نهايته، وفي اليوم التالي بدأ الميرزا الشيرازي درسه بالاعتذار من تلميذه والاقرار بأن الحق في المسألة كان معه.

ودار نقاش مرة بين عالمين أحدهما يدعى الملا خليل القزويني والآخر الفيض محسن الكاشاني المعروف، واحتدم بينهما الجدال، وكان القزويني حادا في نقاشه وردوده، وانتهى الجدال دون نتيجة، وذهب الشيخ القزويني إلى بلده قزوين، وبحث المسألة أكثر وراجع نفسه، وتبين له أنه كان مخطئا في رأيه وموقفه، فبادر للسفر إلى كاشان منتصف الليل وطرق باب الشيخ محسن الكاشاني عند الفجر، وحينما سأل الشيخ محسن من الطارق؟ قال الملا خليل: يا محسن قد أتاك المسيء، ثم اعتذر إليه واعترف له بالحق فيما دار بينهما من نقاش. فقال له الفيض: ولماذا كلّفت نفسك عناء السفر في هذا الوقت؟ فأجاب: ما دمت اكتشفت خطأي فإن ضميري لا يرتاح ونفسي لا تستقر قبل أن أقر لك بالخطأ وأتقدم إليك بالاعتذار.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا للتحلي بمكارم الأخلاق، وقبول النصيحة، وأن لا تأخذنا العزة بالإثم، إنه سميع الدعاء قريب مجيب.

الخطبة الثانية: النظام والآداب في اجتماعات الشعائر الدينية

جاء عن رسول الله انه قال في حديث له حول صلاة الجمعة: «ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدًا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل يقول: ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها».

في الدين الإسلامي برامج دينية كثيرة تؤدى بشكل جمعي، وهو أكثر الأديان في برامجه الجماهيرية، حيث شرّع الصلاة جماعة وجمعة، وكذلك حج بيت الله الحرام في أيام معدودات، والحضور في المناسبات الدينية، هذه الاجتماعات المكثفة والمنتظمة، من شانها أن تجعل المجتمع الإسلامي أكثر انتظامًا لأنها حالة متكررة وكثيرة، فيفترض من المسلمين أن يتقنوا فن إدارة الحشود وتنظيم الاجتماعات الشعبية.

المجتمع المسلم ينبغي أن يكون نموذجيًا على هذا الصعيد. الغربيون يجتمعون في برامج دينية وغير دينية مع التزام بالنظام، لكننا مع الأسف الشديد لازلنا نعيش حالة من التزاحم والفوضى، لعدم التقيّد بالنظام. مع أن الدين الحنيف الذي شرع لنا هذه العبادات الجماعية وضع لنا تعاليم من شأنها أن تربينا على النظام وتوفر لنا الأجواء المناسبة. فحين نقرأ في أدب صلاة الجماعة تجد تفاصيل كثيرة وضعت للتنظيم: فيحدد مكانًا للإمام بأن يكون متقدمًا عن المأمومين وفي المنتصف، ويكره للإنسان أن يبدأ صفًا جديدًا مع وجود صف لم يكتمل. ويحق له المشي لسدّ فرجة في الصف الذي أمامه، والرجوع للصف الخلفي إذا كان في ذلك مزاحمة وضيق للصف الذي هو فيه. وينهى عن تخطي الرقاب ما دام المسلمون قد انتظموا في أمرهم. رسول الله يقول: «من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرًا إلى جهنم».

أي مسلم يؤدي نسك الحج وصلاة الجماعة إنما يقوم بذلك طمعًا في ثواب الله عز وجل، وتحقيقًا لشكره، ولكن لا يصح أن يكون ذلك على حساب الآخرين، بإيذائهم، فذلك يغضب الله تعالى، ولا يطاع الله من حيث يعصى.

لا يصح لأحد أن يسد طريق غيره بسيارته طمعًا في إدراك الجماعة، ولا يصح رفع الصوت عبر مكبرات الصوت إلى حد إزعاج الآخرين وإيذائهم، ولا يصح التزاحم المؤذي للآخرين عند الحجر الأسود لتقبيله، وعند مقام إبراهيم للصلاة، ولا التزاحم المؤذي عند الأضرحة والمقامات، ولا عذر في ذلك، بل إنه موجب للإثم وسخط الله تعالى. الله عز وجل لا يريد عبادة فيها إيذاء لخلقه.

في صحيح الترمذي ورد انه: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ورسول الله يخطب، فقال : اجلس فقد آذيت وآنيت.

نتمنى أن تصل اجتماعاتنا الدينية إلى مستوى يليق بنا كمسلمين، ففي ديننا كثير من الآداب والإرشادات التي تعزز الانتظام ومراعاة حقوق ومشاعر الآخرين.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لنظم أمرنا، وأن لا يجعل في رقابنا حقًا علينا لغيرنا إنه سميع الدعاء قريب مجيب.

* خطبة الجمعة بتاريخ 13 ذو الحجة 1431هـ الموافق 19 نوفمبر 2010م.