الوسوسة وضررها على الإنسان

مكتب الشيخ حسن الصفار تحرير: أديب أبو المكارم

الخطبة الأولى: الوسوسة وضررها على الإنسان

﴿قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس.

لحب الإنسان لذاته واهتمامه بحمايتها والدفاع عنها، فإنه عند الشعور بخطر يبحث عن ملجأ ينجيه منه. ومن الأخطار التي يوجهها الإنسان ـ وهذا من عجيب خلقته ـ تلك الأخطار التي من داخل نفسه، وهي حالات تحصل في نفسه تخيفه وتؤذيه فيبحث عن مأمن وملجأ يحميه منها مع أنها في داخله. ومن تلك الحالات المخيفة التي تحدث داخل نفس الإنسان حالة الوسوسة، وهي حالة نفسية مزعجة يطلق عليه علماء النفس مصطلح: (العصاب القهري) أو (الاضطراب الوسواسي الجبري). وقد وضع فرويد أول وصف متكامل للعصاب القهري في كتابه (مقدمة عامة للتحليل النفسي) عام 1917م، بقوله: (ينشغل عقل المريض بأفكار غير سارة، ويشعر باندفاعات تبدو غريبة بالنسبة إليه، وأنه مدفوع ليؤدي أعمالًا لا تسره، وليس لديه القدرة على الامتناع عنها، وقد لا يكون للأفكار والوسواس معنى في ذاتها، لكنها مع ذلك، أفكار مثابرة ومسيطرة على عقل المريض دائمًا).

فما هو السبيل لمقاومة هذه الحالة المزعجة، وإلى من يلجأ الإنسان؟

في الآيات التي تبركنا بتلاوتها، وهي سورة الناس، يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه المصطفى وجميع الناس أن من أراد اللجوء إلى جهة تحميه من حالة الوسوسة فعليه أن يلجأ إلى الله تعالى: ﴿قل أعوذ برب الناس.

العوذ يعني اللجوء والقصد، وإنما توجه الأمر لرسول الله وهو أكمل خلق الله عز وجل، ليشعرنا بأن أي إنسان في أي مقام كان فهو في حاجة للجوء إلى الله تعالى، هذا اللجوء يستطبن أمرين: الأول هو الشعور بالحاجة فهو يواجه خطرًا أمامه ويحتاج من يحميه منه، والأمر الآخر الشعور بالثقة للجهة التي يلجأ إليها وأنها قادرة على حمايته، ولا شك أن القدرة المطلقة بيد الله تعالى. الإنسان إنما يلجأ إلى الرب المدبر لشؤون الناس ﴿ربِّ الناس إلى من يملك أزمة حياة الناس والكون ﴿ملك الناس إلى الذي يجب أن يخضع لها جميع الخلق بالعبادة والطاعة ﴿إله الناس. من ماذا يلجأ إلى هذه القوة الربانية؟ ﴿من شر الوسواس الخناس.

الوسواس: كما يعبر عنه في اللغة هو الصوت الخفي، وهو يطلق على حديث النفس، كالخواطر والأفكار التي تعتمل في النفس.

 

 
الأفكار إذا كانت سوية فعلى الإنسان أن يبحث ويتعلم، ولكنها إذا كانت مجرد هواجس وخواطر تزعج ذهنه فعليه أن لا يكترث بها
 

الخناس: من الخنس أي الاختفاء، كما في قوله تعالى: ﴿فلا أقسم بالخنس أي النجوم التي تختفي بعد أن تظهر للناس في الليل. والواضح أن حالة (الوسواس) هو ظهورها فترة في نفس الإنسان واختفاؤها عنه أوقات أخرى، فهي ليست حالة ثابتة في أغلب حالاتها ولهذا عبر عنها عز وجل ﴿الوسواس الخناس.

هذه الحالة المرضية والتي تعني في معناها الأعم الأفكار المزعجة وغير السوية، تأتي من جهات غير واضحة، ومن أناس يعيشون حول الإنسان ﴿من الجنة والناس.

حالة الوسوسة هذه التي تحدث داخل نفس الإنسان وعمقه لا يمكن التخلص منها إلا باللجوء إلى الخالق عز وجل فهو موجِد الإنسان والعالم بخفاياه: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). يعوذ بالله تعالى من شر هذه الأفكار وهذه الهواجس التي تسيطر عليه.

والاستعاذة لا تعني التلفظ بقول أعوذ بالله فقط، وإنما هي حالة فكرية ونفسية وسلوكية، وعلى الإنسان أن يتجه بكل ذلك إلى الله تعالى مؤتمرًا بأوامره، منتهيًا عن نواهيه حتى يتغلب على هذه الحالة.

أشكال الوسوسة:

ـ الوسوسة الفكرية: في بعض الأحيان قد يواجه الإنسان وسوسة فكرية فتكون عنده تساؤلات حول العقيدة، والدين، حول الله عز وجل، وعلى الإنسان أن لا يهتم بمثل هذه الأفكار كما تشير إلى ذلك النصوص الدينية، جاء عن محمد بن حمران قال: سألت أبا عبدالله جعفر الصادق عن الوسوسة ـ والقصد هنا الوسوسة الفكرية ـ وإن كثرت؟ فقال : (لا شيء فيها، تقول لا اله إلا الله).

البعض ينزعج كثيرًا من هذه الحالة ويتساءل لماذا تأتيني هذه الأفكار التي تشككني في ديني ومعتقدي، أفكار حول الله تعالى، حول المعاد، وحول النبوة أو الإمامة؟

هذه الأفكار إذا كانت سوية فعلى الإنسان أن يبحث ويتعلم ليصل بالدليل والبرهان إلى الحق، ولكنها إذا كانت مجرد هواجس وخواطر تزعج ذهن الإنسان فعليه أن لا يكترث بها، جاء عن جميل بن دراج عن أبي عبدالله قال: قلت له: إنه يقع في قلبي أمر عظيم فقال : (قل لا اله إلا الله). قال جميل: فكلما وقع في نفسي شيء قلت: لا اله إلا الله فيذهب مني.

ـ الوسوسة العبادية: يبتلى الإنسان بعض الأحيان بالشك في الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فيشك في صحة وضوئه، أو غسله، أو صلاته، وعلى الإنسان في مثل هذه الحالات أن يتحصن بالإرادة والتوكل على الله تعالى، وأن لا يهتم لهذا الأمر، فإن الخضوع للوسوسة حرام كما يقول العلماء والفقهاء. ومطلوب من الإنسان الذي يكثر شكه أن يبني على الصحة حتى لا تتكرس عنده هذه الحالة، فهي من الشيطان، كما جاء عن الإمام الصادق : (لا تعودوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فان الشيطان خبيث يعتاد لما عود، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك). وفي رواية أخرى عن زرارة: ثم قال: (إنما يريد الخبيث أن يطاع فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم).

أحد العلماء جاءه شخص كثير الشك في الصلاة وشكى له ذلك، فقال له: إنو أن تصلي هذه الصلاة التي تعتقد بطلانها قربة إلى الله تعالى وأكملها فإن الله تعالى يقبلها منك ولا يقبل منك الإعادة والوسوسة.

الخضوع للوسوسة حرام، حيث يحول الدين إلى عقدة، والدين يسر والصلاة مجال لراحة النفس واطمئنانها بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، رسول الله يقول: (يا بلال أرحنا بالصلاة)، ولكن الشيطان يريد أن يحول هذه الراحة إلى حالة مزعجة مرضية. في بعض الأحيان بسبب أجواء يعيشها الإنسان تصيبه بهذه الحالة المرضية، وقد لاحظت أن بعض من يؤدون الحج تصيبهم حالة الشك بعد عودتهم من أداء مناسكه، ويبدو لي أن ذلك بسبب التشدد في طريقة التعليم حيث يعلّم الحاج هناك طريقة الصلاة والغسل والأعمال الواجبة، وإذا كان هذا التعليم غير واع فقد يكون سببًا لابتلاء المؤمن بهذه الحالة المرضية. وهذا لا يجوز لأن الدين يسر وليس عسرًا.

 

 
على الإنسان أن يلجأ إلى الله تعالى بفكره ومشاعره وسلوكه حتى يأمن من حالة الوسوسة
 

ـ الوسوسة الاجتماعية: وهي الشك في التعامل مع الناس، حتى القريبين، وقد تحصل هذه الحالة بين الزوجين، فتنشأ حالة من التجسس والتدقيق في توافه الأمور بسبب الشك. وهذه حالة مرضية ينبغي الاستعاذة بالله منها، وعلى الإنسان أن يتعامل بحسن الظن مع الناس، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: (سوء الظن يفسد الأمور، ويبعث على الشرور) ويقول: (لا إيمان مع سوء الظن).

الأصل في التعامل هو البناء على الصحة في أعمال الآخرين. حتى في قضايا الأكل، الحلال والحرام، فما يباع في أسواق المسلمين يبنى فيه على الصحة والحلية إلا أن يعلم العكس، عن أبي بصير قال: سألت الإمام جعفر الصادق عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية (أي من جلد حيوان مذكى أم لا) أيصلي فيها؟ فقال : (نعم ليس عليكم المسألة) ويضيف الإمام : (إن أبا جعفر يعني أباه كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك).

إذًا على الإنسان أن يلجأ إلى الله تعالى بفكره ومشاعره وسلوكه حتى يأمن من هذه الحالة التي يعاني منها في داخل نفسه. نسأل الله تعالى أن يمن علينا وعلى الجميع بالصحة والعافية من جميع الأمراض الجسمية والنفسية.

 

خطبة الجمعة بتاريخ 22 ربيع الأول 1432هـ الموافق 25 فبراير 2011م.