النشاط الأهلي وتقدم المجتمع

مكتب الشيخ حسن الصفار

الخطبة الأولى: التعليم ومسئولية العائلة

إن حصول الأبوين على أبناء صالحين ليس محض صدفة, ولا ضربة حظ, بقدر ما هو ثمرة لتربية سليمة, ورعاية مستمرة, وتخطيط دائم.

لاشك بأن وجود الولد الصالح أمنية لكل أب وأم، ذلك لأن الولد الصالح يكون عونا لوالديه في مواجهة تقلبات الزمان، وفخرا لهما أمام الناس، كما أنه مدعاة لانهمار ثواب الله ورضوانه على المرء في حياته الدنيا وبعد رحيله عن هذه الحياة. من هنا جاء تطلع الإنسان المؤمن ودأبه واجتهاده إلى أن يكون له أولاد صالحون.

لابد من الإشارة هنا إلى أن مفهوم الصلاح لا يقتصر على التزام الأبناء بالعبادات والفرائض الدينية فحسب بل هو  مفهوم شامل، يتضمن أيضا النجاح في الحياة والاستقامة في السيرة والأخلاق العامة. وقد ورد عن الرسول الأكرم جملة من الأحاديث والروايات التي تربط بين سعادة المرء واكتسابه الولد الصالح، ومن ذلك قوله : «من سعادة الرجل الولد الصالح»، وورد عن الامام الصادق : «ميراث الله من عبده المؤمن ولد صالح يستغفر له»، وفي رواية أخرى عن النبي أن نبي الله عيسى بن مريم مرّ على قبر يعذب صاحبه ثم مر به من قابل فإذا هو ليس يعذب، فقال يا رب مررت بهذا القبر عام أول وهو يعذب، ومررت به العام وهو ليس يعذب، فأوحى الله عز وجل إليه: يا روح الله قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقا وآوى يتيما فغفرت له بما عمل ابنه.

غير أن ما يجدر التشديد عليه هنا هو أن الحصول على الولد الصالح، ليس مرهونا بعوامل غيبية أو أنه حدث اعتباطي ناتج عن ضربة حظ!. إن وجود الأبناء الصالحين في حياة أي أبوين ليس من قبيل الصدفة المحضة، بقدر ما هو مرتبط بتخطيط وإعداد وعمل على المرء أن يقوم به, ويجتهد فيه, حتى يحصل لاحقا على النتيجة المتوخاة. قد يقول قائل أن هناك من عمل على إصلاح أولاده لكنه لم ينجح، ان هذا القول من قبيل الاستثناء لا القاعدة، فهناك أنبياء وأئمة كان لهم أولاد غير صالحين، وقد يكون هناك أشخاص سيؤن وأشرار خلفهم أولاد صالحون.  ان القاعدة الأصل والنظام الطبيعي هو أن التربية الصالحة تنتج الولد الصالح، والتربية الفاسدة تنتج الولد الفاسد، وما عدا ذلك فهو أمر استثنائي نتيجة تداخل عوامل وأسباب أخرى.

إن على الوالدين أن يخططا لإنجاب وتربية أولاد صالحين، فهذا أفضل ما يقدماه في هذه الحياة حتى يجري لهما النفع في الدنيا والآخرة. وما يفيد الإنسان لو كان يمتلك ثروة هائلة لكنه لم يحض بولد صالح، بل كان مجرمًا فاسدًا؟ فهل يرتاح الوالد وابنه عاق له؟ أو سيء السلوك وتائه في طرق الفساد والرذيلة؟ ما ذا تنفع الثروة والمنصب حينئذ؟ بينما يعوض الولد الصالح أباه الكثير من نقاط الضعف التي يمكن أن يعيشها في حياته، وبذلك يحتاج المرء إلى أن يحمل هم التربية وإنتاج الولد الصالح، وأن يصرف جهدًا لتحقيق هذا الأمر.

ان نجاح الأبناء الدراسي سبب رئيس في صلاحهم في هذه الحياة. ففي غالب الأحيان يعاني الأبناء الذين يحملون سلوكًا سيئا من تعثر في دراستهم، ويكونون بذلك طعمة للتوجهات السيئة. ونحن على أعتاب عام دراسي جديد ينبغي أن نذكر العوائل والآباء بالاهتمام بأبنائهم على هذا الصعيد، فقد ورد في النصوص الدينية أن من حقوق الولد على أبيه أن يعلمه، عن أبي رافع عن رسول الله أنه قال: «حق الولد على والده أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية وأن لا يرزقه إلا طيبا». من حق الولد على أبويه أن يتعلم المهارات التي يحتاجها في حياته تبعا لظروف الزمن الذي يعيشه.

ان أقل ما يجب أن تهتم به العائلة على الصعيد الدراسي للأولاد هو متابعة سيرهم التعليمي في المدرسة، وممارسة الدور الرقابي لسد الثغرات التربوية في المدارس, وأخيرا التواصل والتعاون مع إدارات المدارس. ينبغي أن تتحمل العائلة مسؤولية متابعة سير الولد في المدرسة، فتعليم الأولاد لا يتأتي بوضع الولد على مقعد الدراسة فحسب، بل يحتاج الأمر إلى متابعة السيرة الدراسية للإبن وخاصة من قبل الأب، فصحيح أن الأم تشارك في هذه المسؤولية لكن العبء الأكبر موكول إلى الأب. ينبغي أن يتفقد الأب وضع ابنه على نحو دوري ودائم. كما إن على الآباء متابعة سير العملية التعليمية لتلافي  الثغرات والنواقص ونقاط الضعف، من هنا كان على المجتمع أن يتنبه، ويراقب وضع المدرسة، وسير الدراسة فيها، ولا يسكت عن أي خلل. وأخيرا التواصل والتعاون مع إدارات المدارس من خلال المشاركة والحضور في الاجتماعات الدورية لمجالس الآباء وغيرها. فإذا تم ذلك إضافة إلى جوانب تربوية أخرى تخص الأبناء نستطيع أن نضمن تنشئة صالحة وأولادًا صالحين، يكونون زينة المجتمع وصلاحه.

الخطبة الثانية: النشاط الأهلي وتقدم المجتمع

يعد النشاط الأهلي التعاوني أحد معايير القوة في أي مجتمع من المجتمعات. فبقدر ما يحتوى المجتمع من الأنشطة الأهلية التعاونية يكون مجتمعا قويا، متماسكا متقدما، ذلك لأن طبيعة النشاط الأهلي ترفع معنويات أبناء المجتمع, كما أنها تزيد من تلاحمهم, وتفسح المجال أمام تفجر الطاقات والكفاءات في أوساطهم.

من هنا درجت المجتمعات المتقدمة على تشجيع النشاط الأهلي التطوعي، وأتاحت بذلك مساحة واسعة لإدارة شؤون المجتمع عبر الأنشطة الأهلية المدنية التطوعية، في مقابل ذلك يبقى الناس في المجتمعات غير الفاعلة في مجال العمل المدني، ضعفاء غير مكترثين بشؤونهم، سيما في ظل احتكار الدولة للفضاء الرسمي والأهلي العام على حد سواء.

ان النشاط الأهلي التعاوني هو مصداق للآية الكريمة ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى، فالتعاون إنما يتمظهر ويتجسد في أفضل صوره في العمل الأهلي التطوعي. وفيما يعرف العلماء واللغويون مفهوم (البر) بأنه اسم جامع لأعمال الخير في كافة مجالاتها، درجت مجتمعاتنا الدينية على ربط عمل البر بالمشاريع الدينية المحضة، من بناء المساجد أو الحسينيات..، فالناس يقبلون على دعم هذه المشاريع، ويبذلون فيها الأموال. غير أننا بالعودة إلى النصوص الدينية نجد أنها أوسع أفقا من ذلك، فأعمال البر ليست محصورة في الشأن الديني وحده كبناء المساجد، فهذه وسائل لغايات أكبر وهي القيم النافعة في المجتمع، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، فالبر تبعا لذلك هو مفهوم واسع، يشمل العقيدة الصحيحة والسلوك الصالح والأخلاق المستقيمة وكل ما يفيد ويبني ويساهم في إنجاح المجتمع.

تحتاج المشاريع الأهلية الاجتماعية إلى روافع مهمة لابد من توفرها لتطوير أي عمل تعاوني؛ منها الدعم الرسمي ومساندة رجال الأعمال, وخطاب ديني مشجع. نحن نلحظ الآن أن هناك مشاريع أهلية اجتماعية متنوعة في المنطقة، ونرى بوضوح منافعها على المجتمع, لكنها بحاجة إلى مزيد من الدعم والمساندة. وأول ما تحتاجه هذه المشاريع هو الدعم الرسمي عبر تذليل العقبات وتسهيل القوانين والأنظمة وجعلها مشجعة على العمل الأهلي. إن تكبيل العمل الأهلي بسلسلة من الإجراءات والعوائق والتصاريح المعقدة، سيفضي إلى إبطاء وتعطيل النشاط الأهلي. وذلك بخلاف ما يجري في المجتمعات المتقدمة حيث تشجع الحكومات على تأسيس منظمات المجتمع المدني بمختلف ألوانها وأشكالها، من خلال القوانين والتشريعات المساعدة إلى جانب الدعم المادي والمعنوي.

كما ينسحب الأمر ذاته على الدعم المرجو للمشاريع الأهلية من لدن رجال الأعمال. إن من المؤسف أن لدى بعض رجال الأعمال مفهوما ملتبسا إزاء دعم المشاريع الأهلية, يربط ذلك على نحو مباشر بالأعمال الدينية وحدها، فالواحد من هؤلاء قد يكون سخيا في بناء المسجد أو المأتم، أو الأعمال ذات الطابع الشعائري، فيما ينأى بنفسه عن دعم المشاريع الاجتماعية ذات النفع العام المرتبطة بالرياضة والثقافة والترفيه ومنها المهرجانات الشعبية التي بدأت تقام في البلد الآن. إن مقابلة بعض رجال الأعمال لهذه المشاريع الاجتماعية الواعدة بالدعم الشحيح ربما نمّ عن ضيق أفق وقلة وعي إن لم نقل التقصير في البذل والعطاء.

ان بعض المشاريع الكبيرة التي يتبناها رجال أعمال في وطننا تبعث على السرور وتستحق الإشادة والاحترام والتقدير. فقد كتبت الصحف السعودية أمس عن رجل أعمال في مدينة حائل هو الدكتور ناصر إبراهيم الرشيد، الذي أنشأ مؤسسة للأيتام تعد الأكبر في العالم، بكلفة بلغت أكثر من مائة مليون ريال تبرع بها من ماله الخاص. أن هذه الأعمال تستحق الإشادة والإطراء، وجديرة بأن تشجع رجال الأعمال الآخرين في إنحاء الوطن إلى المبادرة لدعم العمل الخيري والاجتماعي على نحو فعال.

لقد أخذت المهرجانات الشعبية مكانها في الفضاء الاجتماعي في منطقتنا, وعكست جانبا مشرقا من ثقافة وتراث وكفاءات المنطقة وتستحق بذلك المساندة والتشجيع. فوجود مهرجان شعبي كمهرجان القطيف "واحتنا فرحانة" أو  مهرجان الدوخلة بسنابس أو ومهرجان الوفاء في مدينة سيهات، تمثل كل هذه فرصا ثمينة لتفجر الطاقات والكفاءات، وإبراز شخصيات المجتمع وكفاءاته، خاصة الطاقات الشابة المتحفزة للبذل والعطاء. كما تقدم هذه المهرجانات صورة لمجتمعنا أمام المجتمع المحلي والدولي، وتكرس حالة التلاحم والتعاون داخل المجتمع، وأخيرًا فإنها تعطي فرصة جيدة في مجال الترفيه في داخل البلد، حيث تحتاج العوائل والأبناء إلى مجالات ترفيهية، في ظل محدودية مجالات الترفيه، ما يجنب الأطفال والشباب حالة الكبت والعقد وضمور مواهبهم المختلفة. إن المهرجانات الشعبية في المنطقة لها فوائد جمة أقلها تقديم صورة أكثر إشراقا لمجتمعنا، على النقيض من النظرة الضيقة لدى بعض الناس الذين لا ينظرون لمثل هذه الأنشطة إلا من زاوية كمالية وترفيهية.

نحن بحاجة إلى المزيد من الدعم لهذه المهرجانات التي تستقطب مئات الشباب والشابات المتطوعين. فمهرجان واحد على غرار "واحتنا فرحانة" شارك فيه نحو 500 متطوع ومتطوعة، وشمل أكثر من 50 فعالية مختلفة ثقافية وتراثية وصحية وغيرها وقصده ما يزيد على 170 ألف زائر، ان مهرجانا من هذا القبيل لهو جدير بدعم المجتمع ويستحق القائمون عليه الشكر والتقدير إدارة وكوادر.

ان وجود هذه المهرجانات الأهلية الناجحة ينبغي أن يشجع الجميع على دعمها وعلى رأسهم رجال الأعمال. كما إنها بحاجة إلى دعم الخطاب الديني، فلا ينبغي أن نقف عند بعض الثغرات والأخطاء ونحط من قيمة هذه المهرجانات بذريعة وجود أخطاء هنا أو هناك، فليس ثمة عمل يخلو من الأخطاء، حتى في المجال الديني نفسه، فلا ينبغي أن يكون ذلك مبررًا للتشنيع على العمل والحط من قيمته وتشويه القائمين عليه!. ينبغي أن نتعاون على تلافي الأخطاء، فمجتمعنا يزخر بالطاقات وعلينا أن ندعمها، وأن نبرز هذه الجهود وأن نكثف نشاطنا الأهلي الاجتماعي.

وللاستماع:

«الخطبة الأولى: التعليم ومسئولية العائلة»

«الخطبة الثانية: النشاط الأهلي وتقدم المجتمع»

خطبة الجمعة بتاريخ 11 شوال 1432هـ الموافق 9 سبتمبر 2011م.