الغنى والثراء النفسي

الخطبة الأولى: الغنى والثراء النفسي

ورد عن رسول الله أنه قال: ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس. وورد عن أمير المؤمنين ع أنه قال: فقر النفس شر الفقر.

لا يقتصر مفهوما الغنى والفقر على الجانب المادي والاقتصادي في حياة الأفراد، وإنما يرتبطان على نحو وثيق بالجانب المعنوي والروحي للأشخاص كما تشير لذلك النصوص الإسلامية.

الغنى والفقر في الأصل مصطلحان اقتصاديان يرتبطان بمدى امتلاك الإنسان للثروات والإمكانات المادية، فإذا كان الفرد يمتلك مستوى من الإمكانات المادية فيوصف حينها بالغنى، أما إذا لم يكن يمتلك تلك الإمكانات فسينعت بالفقر، ذلك هو المعنى اللغوي والاقتصادي للغنى والفقر، إلا ان الثقافة الإسلامية نقلت هذين المصطلحين إلى ميدان التربية والأخلاق فتحدثت عن غنى وفقر النفوس لا فقر المال فحسب. فهذه النصوص توجهنا وترشدنا إلى أن هناك ثروات روحية معنوية يمتلكها بعض الناس ويفتقر لها آخرون. من هنا ينبغي أن يحرص الإنسان على امتلاك الثروات المعنوية أكثر من أي شي آخر، فهي الأهم بالنسبة لشخصية الإنسان.

لا تناقض هنا بين غني النفس وغنى المال، فليس معنى الثراء المعنوي الروحي أن يكون الإنسان فقيرا معدما، ولكن المقصود أن تكون الأولوية عند الإنسان لاكتساب الثروات الروحية والإمكانات المعنوية، وإذا ما حصل على الإمكانات المادية فلا ينبغي أن تشغله عن اكتساب الإمكانات الروحية. من هنا ورد الحديث عن النبي (ليس الغنى من كثرة العرض) وهي الإمكانات المادية - (ولكن الغنى غنى النفس) أن تكون نفس الإنسان ثرية روحية.

إن امتلاك الفرد لإمكانات مادية كبيرة سيظل غير ذي جدوى ما دام خاوي الوفاض معنويا وروحيا، بل سيكون حقيقة في أشد أنواع الفقر وشره. إن غنى النفس هو ثراؤها بالملكات الفاضلة والسمات النبيلة، فيما الفقر الفعلي ليس سوى انعدام تلك الملكات أو ضعفها في نفس الإنسان، فامتلاك الفرد لخصال المروءة والعزة والبذل والعطاء والصبر والقناعة وحسن الخلق وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة هو الثراء الحقيقي, وإن كان معدما من الناحية المادية، ومن افتقد هذه الخصال فهو فقير مهما كانت إمكاناته المادية. ورد عن أبي ذر الغفاري قال رسول الله (يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت نعم يا رسول الله، قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقال : إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب). وجاء عن الإمام علي قال (فقر النفس شر الفقر).

ليس هناك من تعارض في اجتماع الثراء المعنوي الروحي من جهة والثراء المادي من جهة أخرى، فالسعيد من اجتمع له الأمران. غير إننا عند المفاضلة بين الأمرين سنجد سلسلة عناصر تجعل من الثراء المعنوي أكثر قيمة بمراحل من الثراء المادي بمفرده، وذلك للأسباب التالية:

أولا: الثراء المعنوي باق مع الإنسان، بينما الثراء المادي معرض للزوال في أي لحظة. فالإنسان الذي يمتلك صفات نبيلة فإنها تبقى معه ما بقي الدهر، ولكن من يمتلك عقارًا أو منصبًا، فلا يضمن بالتأكيد بقاء المال أو المنصب بحوزته، ولذا فالثروات المعنوية هي الأبقى والأكثر دواما.

ثانيا: الثراء المعنوي مصدر رضا وسعادة، بينما الثراء المادي قد لا يحقق ذلك بالضرورة. فالشخص الذي تكون نفسه ثرية معنويا، سيعيش على نحو تلقائي في راحة وسعادة، بينما قد يعيش الآخر الذي يمتلك الثروات المادية وهو مفتقر إلى الثروات الروحية حالة من الاضطراب النفسي وعدم الاستقرار، وهذا ما نسمع عنه ونلحظه عند كثير من الأثرياء. فالناظر من بعيد للواحد من هؤلاء يراه يتقلب في الثراء المادي، فيخيل للآخرين تبعا لذلك بأن هذا الثري في غاية الراحة والسعادة لوسع داره، وفخامة سيارته، وتعدد إمكاناته، لكن وبقليل من الاطلاع على تفاصيل حياة هذا الثري وعلى حقيقة واقعه, فقد تكتشف بأنه يعيش الاضطراب الروحي, وعدم الانسجام النفسي, ضمن تعاطيه مع مختلف الأمور.

كتبوا مرة خلال مشكلة انهيار سوق الأسهم التي مرت على المملكة قبل سنوات، أن إنسانًا محدود الدخل جمع كل ما عنده وأضاف عليها بعض القروض المالية التي بلغت بمجملها ما يقارب 400 ألف ريال واستثمرها في سوق الأسهم. وشخص آخر كان عنده ثروة مالية شخصية قدرت بـ 100 مليون ريال، فاقتطع نصفها ليستثمرها في سوق الأسهم، وحين وقعت الخسارة وانهار السوق، خسر الاثنان، ولكن من خلال ردة فعل الاثنين على مسألة الخسارة ظهر المعدن الروحي لكليهما، فالشخص محدود الدخل تأثر بالخسارة نفسيا على نحو محدود، ذلك لأنه يمتلك ثراء روحيا دفعه لتسليم أمره لله تعالى والتوكل عليه، فواجه المشكلة حتى تغلب عليها. لكن الآخر الثري ماديا، والخاوي روحيا، لم يتحمل الأمر فأصيب بالاكتئاب وعانى أمراضًا ومعاناة شديدة، مع أنه لا يزال يحتفظ بخمسين مليونا هي النصف الآخر لثروته.

حينما لا يكون هناك ثراء روحي وثقة بما في يد الله سبحانه فإن الثراء المادي قد يجلب الشقاء على الفرد، هنا يكمن الفارق الجوهري بين الثراء المادي والثراء المعنوي، ورد عن رسول (من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن ما في يد الله أوثق منه مما في يد غيره).

ثالثا: الثراء المعنوي يدفع الإنسان إلى حسن التعامل مع محيطه الاجتماعي، بينما الثراء المادي الأجوف روحيا قد يجعل الإنسان غير منسجم مع محيطه. فمن يتمتع بالغنى الروحي سيصل رحمه, ويحسن إلى الآخرين, ويبذل من ماله في سبيل المجتمع, ويتواضع للناس، ولكن حينما لا يكون كذلك فإن رغبته في الثروة تقوده لسوء التعامل مع الآخرين، وقد رأينا وسمعنا عن أشخاص دخلوا في مشاكل لا تنتهي حتى مع آبائهم وامهاتهم ووصلوا إلى أروقة المحاكم لخلافات لا تعدو عن نزاع على قطعة أرض أو مبلغ من المال!. إنما يقع في هذا الأمر من يكون نهمه وراء المادة على نحو صرف، مفرغا جوانحه من أدنى ثراء روحي ومعنوي.

جاء في أحد التقارير أن أختين كانت إحداهما متزوجة من رجل محدود الدخل, فيما الثانية متزوجة من ثري مقتدر، فكانت زوجة الرجل محدود الدخل تنظر إلى أختها وتتمنى لو كانت مثلها, وتغبطها على ما هي عليه من الثراء، لكن حين تكشفت الأمور أمامها, ظهر أن أختها التي تعيش تحت ظل الزوج الثري لم تكن تشعر بالسعادة، لأن زوجها غير مهتم بها, ولا يؤدي الحقوق تجاهها، فعينه مفتوحة على أعراض الناس، بينما كانت الأولى تنعم بالراحة مع زوجها, حيث يمنحها كل محبته واهتمامه, ويحسن معاملتها، وهنا يظهر بلا شك جانبا الفرق بين الثروات المادية والثروات المعنوية. لذلك ورد ضمن أحاديث التزويج أن لا يعتمد معيار المال في أهلية الشخص المتقدم في طلب الزواج بل يعتمد معيار الخلق والدين، وفي الحديث (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه)، ولم يتناول الحديث مقدار ثروة الشخص وإمكاناته المادية، كما ورد عن الإمام الصادق (أتدري ما الصعلوك؟ فقلنا القليل المال. فقال لا وإنما هو الذي لا يتقرب إلى الله بشيء من ماله). فما قيمة المال ونفعه إذا لم يجد به على الناس ووجوه الخير.

وورد عن امير المؤمنين (جود الفقير أفضل جود)، ونحن نرى من وحي الواقع أن غالب الذين يدفعون الحقوق الشرعية من يكون الفائض المالي السنوي عندهم أقل من 50 ألف ريال إلى 100 ألف ريال، ولكن من يكون الفائض السنوي عنده يزيد على عشرين مليون ريال فليس من السهل على بعضهم أن يخرج خُمس وزكاة أمواله، ولا نريد التعميم هنا، فهناك الكثير من أهل الخير ممن يوفقهم الله تعالى فيبذلون باستمرار ما بوسعهم في أوجه البر.

رابعا: الثراء الروحي ضمان للمستقبل الأخروي. فالإنسان في هذه الحياة مهما امتلك من وسائل الثروة، لكن مآله الموت في نهاية المطاف. ولنضرب مثلا بسيطا لتوضيح الفكرة بين الدنيا والآخرة؛ فلو أن إنسانًا ذهب إلى بلد ليقيم فيها مدة مؤقتة، وعرض عليه شخص أن يقيم هذا الشهر منعمًا مكرمًا كعيشة الملوك ولكن بشرط أن تتنازل عن كل ممتلكاتك في بلدك، فهل هناك عاقل يقبل بذلك؟ بالطبع لا! فهي إقامة مؤقتة وهو بحاجة إلى سكن دائم وإمكانات دائمة. كذلك الإنسان في هذه الدنيا فهو يعيش حياة وإقامة مؤقتة قد يحرص خلالها على امتلاك الثروات ولكن ماذا عن الحياة الآخرة؟ من هنا وصف ربنا الحياة الدنيا بقوله عز وجل ﴿وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ان من يمتلك الثراء الروحي والمعنوي يجهد في التفكير في دار مستقره في الآخرة, ويسعى من أجل أن يصبح هناك في أحسن حال. فكما ينبغي على المرء ترتيب أوضاعه في الحياة الدنيا، ينبغي عليه في الوقت نفسه ترتيب وضعه في الآخرة، فالمقياس الحقيقي للغنى والفقر يكون في يوم القيامة وفي الدار الآخرة، ورد عن أمير المؤمنين (الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى).

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من الأثرياء في معنوياتهم ومادياتهم.

 

وللاستماع:

«الخطبة الأولى: الغنى والثراء النفسي»

 

* خطبة الجمعة بتاريخ 16 ذو القعدة 1432هـ الموافق 14 أكتوبر 2011م.