الاهتمام بالسلوك الاجتماعي

الخطبة الأولى: الاهتمام بالسلوك الاجتماعي

ان الالتزام بالقيم الأخلاقية وحسن السيرة والسلوك ليس واجبا فرديا يحققه الإنسان في حدود حياته الخاصة، بل هو مهمة اجتماعية لتحقيق الإصلاح العام.

ان من صميم مسئوليات الإنسان المؤمن ذكرا كان أم أنثى, أن يسعى لكي يكون المجتمع كله ملتزما بالقيم, ولكي يكون كل أفراده ملتزمين بحسن السيرة والسلوك. صحيح  أن الفرد المسلم مسئول بالدرجة الأولى عن نفسه، لكن ذلك لا يعني الوقوف ضمن حدوده الذاتية، وبمعنى آخر لا يصح أن يكون لا مباليًا أو غير مهتم بالسلوك العام في مجتمعه، بل عليه أيضا السعي لإصلاح غيره. ضمن هذا السياق جائت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هي سائر الفرائض الدينية، بل تشير النصوص بأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها أولويتها على سائر الفرائض، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي)، وورد في رواية عن الإمام محمد الباقر : (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة تقام بها الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر).

والمعروف لغة هو كل ما دعا إليه الشرع وأمر به، واجبا كان أو مستحبا، وكل ما كان مفيدا لبني البشر على مستوى الأفراد أو المجتمع، وأما المنكر فهو كل ما نهى عنه الشرع سواء على مستوى التحريم أو الكراهية، وكل ما كان سيئا في حياة الفرد أو المجتمع. وبهذا فكل فرد في المجتمع مسئول عن التبشير بسلوك الخير والصلاح, وأن يدعو له, ولا يكتفي بالالتزام والتطبيق ضمن حدوده الشخصية.

هناك ثمة خط رفيع بين مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة وبين حرية الإنسان في التصرف ضمن حياته الخاصة. لقد تعمق في عصرنا الراهن مفهوم احترام الخصوصيات الفردية، وأن لكل إنسان الحرية في التصرف ضمن حياته الخاصة وعدم أحقية أحد في التدخل في شئونه الشخصية. من المهم في هذا الاطار أن نرفع اللبس القائم لدى البعض بين احترام خصوصية الافراد، وبين واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع الإقرار التام بحرية الانسان في التصرف ضمن اطار حياته الخاصة، لكن دعوة الآخرين إلى ما فيه مصلحتهم يبقى أمرا محبذا عقلا وشرعا. ولعل ذلك هو سبب الدعوات المستمرة لأن يحترم عامة الناس القوانين العامة وأن يلتزموا بها، كما تدخل في ذات السياق قضايا الصحة العامة ونظافة البيئة، ذلك لأن هناك تداخلا جوهريا بين الخاص والعام في حياة الناس، كذلك الأمر يمكن القول ان إرتكاب السيئات لا يؤثر على مرتكبيها وحسب وإنما يترك اثره كذلك على المحيط الاجتماعي. وعلاوة على ما سبق تتسم العلاقة بين الأفراد في المجتمع المسلم بخصوصية مهمة، فالإسلام يرى أن هناك علاقة وطيدة بين أبناء هذه الأمة بصريح الآية الكريمة: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والولي هنا هو المحب والناصر، وكأن هذا المقطع من الآية يؤسس لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمسلم عندما يأمر أخاه المسلم بالمعروف وينهاه عن المنكر، فإنما ينطلق من أرضية المحبة لأخيه، انه يحب أخاه المسلم وهو ناصره ومعينه على تجاوز الجوانب السيئة في شخصيته، ولذلك فهو ينبهه لتجنب الوقوع في الأخطاء. ذلك يشبه تماما حينما ترى إنسانا يوشك أن يقع في حفرة فتحرص على تنبيهه حتى لا يقع فيها، فهذا لا يعد تدخلا في شؤونه الخاصة بأي صورة من الصور، بل هو تدخل فيه مصلحة وفائدة له. من هنا لابد من نشر ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق الأساليب المحببة والمناسبة, التي تجعل الطرف الآخر يستجيب للأمر ويرتدع بالنهي.

ان تخير الأسلوب المناسب من حيث الطريقة والطرح هو أمر أساس في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا صحة لأي اسلوب فظ ينال من كرامة أو شخصية الآخرين لمجرد خطأ ارتكبوه، حتى لو كان ذلك الأسلوب بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك ما يأتي بنتائج عكسية. ان عماد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على الكلمة الطيبة، وكما ورد في الحديث عنه (الكلمة الطيبة صدقة)، فإذا كان عند إنسان خطأ معين, ورأى عددا ممن حوله يوجهونه لخطئه بالحسنى والكلمة الطيبة فذلك مما سيؤثر فيه حتما، وبعبارة أخرى يصنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جوا يتنبه فيه الإنسان المخطئ إلى خطئه دون أدنى شعور بخدش في شخصيته أو جرح لكرامته. ولنا أن نتذكر في هذا المقام ما ورد في الرواية حينما رأى الحسنان عليهما السلام شيخًا يتوضأ وضوء خاطئًا فاحتكماه في وضوئهما حتى يتنبه لخطئه. ان مسلكا على هذا النحو يشبه تماما كما لو رأينا قائد سيارة يقود في الاتجاه المعاكس للطريق، فسنستنكر كما يستنكر الآخرون، فيتنبه بذلك السائق إلى خطئه، فلعله كان مشتبها، فالإسلام يريد من الناس أن يمارسوا ذات الأسلوب في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فمن يخطئ ويتهاون في واجب فجميع من حوله معنيون بلفت نظره إلى ذلك الخطأ. وورد عن رسول الله (والذي نفسي بيده ما أنفق الناس من نفقة أحب من قول الخير).

إن بعض موارد تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط بالسلوك الاجتماعي العام, سواء كان ذلك الأمر واجبا أم مستحبا أم محرمًا أم مكروهًا. فلو تحمل كل واحد منا مسئولية تشجيع من حوله على حضور صلاة الجماعة مثلا لكانت المساجد عامرة بالهدى كما هي عامرة بالبناء. من هنا فنحن بحاجة إلى حملة دائمة لتشجيع الناس على حضور صلاة الجماعة, ولتجاوز حالة التهاون والتكاسل التي تمنع الكثيرين من حضور الجماعة، فليس من المقبول أن نجد مسجدا يتسع لألف مصل ثم لا نرى فيه إلا العشرات من المصلين، ان هذه المسألة تدخل في صميم المسئولية الاجتماعية التي تقع على عاتق الجميع.

كما ان من تطبيقات الأمر بالمعروف الاهتمام بالحقوق الشرعية، فنحن نعرف بعض الأشخاص يأتون ليدفعوا الحقوق الشرعية مدفوعين بتشجيع من بعض أقربائهم أو أصدقائهم، ان الأسلوب اللبق والحسن، هو ما يجعل منا شركاء في فعل الخير، فنكون سببا في تطهير مالنا ونمائه. نحن نتحدث مع أصدقائنا في أمور جانبية كثيرة, ونشجع بعضنا بعضا على أمور هامشية كالسفر سوية مثلا، فلماذا لا نشجع بعضنا بعضا على أمور هي أهم من ذلك بكثير، فلا يجب إن نستهين بذلك حتى لو كانت استجابة بعض الأطراف متواضعة في بعض الأحيان.

وعلى غرار ما سبق يتساوق النهي عن العنف الأسري, وسوء المعاملة داخل الأسرة مع النهي عن المنكر. ان قضايا العنف الأسري يفترض أن تنال قسطا وافرا من اهتمامنا، فإذا ما بلغ أحدنا أن هناك من يسيء معاملة زوجته أو عائلته، فلا يجوز أن نقف مكتوفي الأيدي، بل المطلوب المسارعة في الحديث معه ولو على نحو غير مباشر، كأن ترشده لقراءة موضوع يتناول هذه القضية, كما تبين له اشمئزازك من هذا التصرف، حتى يتنبه لخطئه، ذلك لأن كثيراً من النفوس مجبولة على الطيبة بطبعها ولا تحتاج سوى إلى تذكير فقط، فلا يجوز ان نتكاسل ونبخل على أنفسنا وغيرنا بقول كلمة الخير، يقول تعالى ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

وينطبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك على مسألة الاهتمام بالذوق العام ونظافة البيئة.  ان مما يدعو للاسف أن تجد شخصًا يفتح نافذة سيارته ويلقي ببعض الأوساخ في الطريق العام!، ذلك منتهى الاستهتار وقلة الذوق، كما انه خلاف نظافة البيئة، اضف إلى ذلك استمرار كتابة العبارات السيئة والبذيئة على جدران المدارس والمنازل من قبل العابثين، يأتي جميع ذلك مع شديد الأسف في ظل ازدياد مفترض في ثقافة الناس، ومعرفتهم بالسلوكيات غير الحضارية، فمن واجبنا أن نتصدى لهذه الظواهر وأمثالها.

ان من واجبنا أن نولي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قسطا وافرا من اهتمامنا، وأن نبعد عن أذهاننا بأنها فريضة عديمة الجدوى والتأثير، فالأفكار التي تروج على نحو ايجابي تترك أثرها حتما في الواقع الاجتماعي.

 

وللاستماع:

«الخطبة الأولى: الاهتمام بالسلوك الاجتماعي»

 

خطبة الجمعة بتاريخ 9 ذو القعدة 1432هـ الموافق 7 أكتوبر 2011م.