السيطرة على ثورة الغضب

مكتب الشيخ حسن الصفار

الخطبة الأولى: السيطرة على ثورة الغضب

عن رسول الله : (ليس الشديد بالصرعة انما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

لقد أودع الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان مجموعة من الغرائز والانفعالات المختلفة التي يغلب على كثير منها جانب الجموح، وكلفه بإدارة هذه الانفعالات وضبط هذه القوى داخل نفسه. ومن تلك الانفعالات ما ينتاب الإنسان من حالات الرضا، الغضب، الخوف، الرجاء، الحزن، الفرح، وحالة الحب والكراهية. ان جميع هذه الحالات التي تعبر عن غرائز وانفعالات ومشاعر في نفس الإنسان، تمثل بجموحها في أحيان كثيرة عوامل ضغط هائلة على النفس، ولذلك استدعى الأمر أن يضبطها ويحسن إداراتها، وهذا هو جوهر التحدي والامتحان. فالإنسان أمام كل حالة انفعال وطغيان غريزي يقف في حقيقية الأمر وسط ميدان اختبار وامتحان. ولعل إحدى أكثر الانفعالات ضغطا على نفس المرء هي حالة الغضب، فقد جعل لله تعالى في نفس الإنسان حالة الانفعال والغضب إذا واجه ما يزعجه ويخالف رغبته، فالإنسان هنا أمام امتحان فعلي، حول إمكانية السيطرة على حالة الغضب في نفسه أم الاسترسال معها. يتمنى كل أحد أن لا يوضع في موقف يثير غضبه، لكن ذلك يكاد يكون محالا ما دمنا نعيش وسط الناس، فالناس كأفراد لا يعيشون في جزر منفصلة، وعليه لا تسير الحياة الاجتماعية للأفراد وفق ما يشاءون, وبحسب ما يرغبون في كل مفردة من المفردات، فهذا أمر غير متحقق البتة، وبالتالي فالإنسان يرى نفسه أحيانا أمام مواقف مزعجة ومؤذية، نتيجة كلام من هنا وموقف هناك مما يثير غضبه. ولذا كان التحدي الحقيقي في أن يضبط الواحد انفعالاته وأن لا ينساق وراءها كيفما اتفق.

ان حالة الغضب تعد من القوى الكامنة التي لو تيسر لها الانفلات من السيطرة فلربما تجاوز المرء بسببها كل حدود. فهذه القوة الكامنة قد تأخذ الإنسان إلى مهاوي الردى فيما لو أطلق لها العنان، فقد يتصرف الغاضب تصرفات خطيرة تجاه المحيطين به فيتجاوز بذلك كل الحدود حتى إزاء أقرب الناس إليه، زوجته وأولاده، وقد يكون هذا التجاوز لفظيا، جارحا وعدوانيا، والأسوأ من ذلك ما يمكن أن يدفع الغضب للتصرف على نحو خطر من خلال الاعتداء الجسدي على الآخرين، ونحن سمعنا وقرأنا عن حالات كثيرة، اندفع خلالها آباء غاضبون نحو الاعتداء جسديا على أبنائهم فتسببوا لهم بعاهات مستديمة، وكذلك ينسحب الأمر على مستوى الأزواج والزملاء، فقد بتنا نسمع بين الفينة والأخرى وقوع المصادمات العدوانية المسلحة بين الشباب والتي لا يعدو منشأها المزاح أحيانا، فيدفعهم انفلات الغضب فيما بعد للمشاجرات العنيفة باستخدام الآلات الحادة والأسلحة.

وبالتتبع للعديد من حالات الحوادث والخلافات المدمرة للعلاقات الأسرية الاجتماعية، نجد بان منشأها الحقيقي هي حالات الغضب غير المبرر في جزء كبير منها. لقد وجدنا بعض الأحيان أن مصير عائلة بأكملها يكون في مهب الريح لا لشيء إلا عدم الرضا عن الطعام الذي أعدته الزوجة، وما شابه ذلك من أمور تافهة وصغيرة، وكم من علاقات وصداقات وثيقة انقطعت بسبب كلمة صدرت من أحدهما فينسف كل ذلك الود بسبب لحظة الغضب.

إن اشتعال حالة الغضب في نفس الإنسان يشبه تماما اشتعال النيران حين تلتهم بيتا أعده صاحبه وتعب فيه وأنفق عليه  الكثير، ولكن هذه النار تنسف ذلك البيت خلال وقت وجيز!. ذلك يذكرنا بما نحن بصدده من حالة قتل جرت في إحدى المناطق القريبة حين أقدم شخص على قتل شاب وجرح أخيه في الطريق العام، لا لشيء سوى لأن الشاب المقتول الذي كان يقف عند إشارة المرور أعطي إنذارا بالتزمير بشكل مزعج حتى تتحرك السيارة التي أمامه، فلم يتمالك قائد السيارة الأخرى نفسه وأعصابه فنزل وتشاجر معهما وقتل السائق وجرح من معه!، هذا هو حصاد انفلات حالة الغضب. فقد يفقد المرء مكاسب كثيرة تعب في تحصيلها طويلا، ولكن لحظة واحدة من الغضب قد تنسف كل تلك المكاسب في لمح البصر.

ولذلك وردت نصوص كثيرة تذكر الإنسان بضرورة التعقل وعدم الاستسلام للحظات الانفعال. فقد يشعر الغاضب في لحظة ما برغبة في استرداد كرامته من خلال تصرف أخرق طائش، لكن ما أن تنجلي الغبرة إلا ويرى نفسه أمام أثمان باهظة يجب أن يدفعها نتيجة ذلك التصرف، فمثل هذا الشخص في حقيقة الأمر لم يسترد كرامته عبر تصرفه الأخرق بقدر ما سبب لها جروحا إضافية.

من هنا على الإنسان أن يكون واعيا حذرا أمام لحظات الغضب. ومن جملة ما ورد من النصوص الدينية في شأن الغضب، قال أمير المؤمنين (الغضب شر إن أطلقته دمر)، فالغضب يدمر المكاسب والمصالح، ويقول (إنكم إن أطعتم سورة الغضب أوردتكم نهاية العطب)، وفي رواية ثالثة قال (احترسوا من سورة الغضب وأعدوا له ما تجاهدونه من الكظم).

إن عامل الجهل وقلة الوعي هما من محفزات سيطرة الغضب على الإنسان. وقلة الوعي قد تجعل المظلوم ظالما في بعض الأحيان، فكم رأينا مظلوما تحول إلى ظالم بسبب لحظة غضب، فقد جاءني قبل مدة أشخاص يعرضون قضية ابنهم، الذي كان موظفا دفعه غضبه للشجار مع احد المراجعين فبصق في وجهه، فأحيل للتحقيق اثر ذلك، وأصبحت قضية كبيرة ، فكلف هذا الشخص أفراد عائلته بأن يبذلوا ماء وجوههم لتخليصه من الموقف الذي وضع نفسه فيه. مثل هذا الموظف حين اندفع في لحظة انفعال للبصق في وجه ذلك المراجع الذي أساء إليه وأثار غضبه، كان هدفه الثأر لكرامته، ولكن ما النتيجة، فقد أذل نفسه وعائلته. ويروى في هذا السياق عن علي (من طبائع الجهال التسرع إلى الغضب في كل حال). وفي كلمة تنطبق إلى حد بعيد مع القصة الأنفة، روي عنه أيضا (لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار).

كما وردت نصوص أخرى كثيرة تنبه الإنسان إلى تجنب حالات الغضب، وهو في حاجة دائمة إلى هذا التنبيه، يقول (إياك والغضب فأوله جنون وآخره ندم)، فالجنون يعني عدم استخدام العقل، فالإنسان الغاضب يعطل عقله عمليا، ويترك الأمر لمشاعره وانفعالاته لتقوده أين ما كان، وقال (أعظم الناس سلطانا على نفسه من قمع غضبه)، فالشجاعة لا تتأتى بالضرورة وقت الرضا، بل الشجاعة الحقيقة تتبدى عند التحكم في الأعصاب ساعة الغضب وفي غمرة المشاحنات البينية. ويقول (الغضب عدو فلا تملكه نفسك).

إن تذكر قدرة  الله علينا هي أهم عامل من عوامل سيطرة الإنسان على أعصابه وعدم استسلامه لفورة الغضب. اذ تورد النصوص أن على المرء في حالة الغضب أن يتذكر قدرة الله تعالى عليه، خاصة عندما يغضب على من هم أضعف منه  كالزوجة والأبناء والعمال، فقد جاء في حديث قدسي عن الله عز وجل (أمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي). وسأل رجل رسول الله (أحب أن أكون آمنا من غضب الله وسخطه، قال لا تغضب على أحد تأمن غضب الله وسخطه). وقال (من كف غضبه كف الله عنه عذابه). وقال لأمير المؤمنين (لا تغضب فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد وحلمه عنهم). وهناك روايات تنصح الإنسان في حالة الغضب بأن يغير من وضعه، فيقعد إذا كان قائما أو العكس أو يضجع، حتى ينفس عن نفسه. عن أبي ذر الغفاري عن رسول الله (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضجع). كما ان هناك روايات تنصح بإسباغ الوضوء حال الغضب، فلعل لحظات الانشغال بالوضوء تكون كافية لتهدئة انفعالات الغضب وتعود بالمرء إلى رشده. ورد عنه (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفئ النار بالماء وإذا غضب أحدكم فليتوضأ). إن علينا أن نتحكم في انفعالاتنا بأن نتذكر قوة الله علينا، خاصة مع من هم أضعف منا وتحت هيمنتنا.

 

وللاستماع:

«الخطبة الأولى: السيطرة على ثورة الغصب»

 

خطبة الجمعة بتاريخ 23 ذو القعدة 1432هـ الموافق 21 أكتوبر 2011م.