قبس من سيرة الإمام الجواد (ع)

مكتب الشيخ حسن الصفار

الخطبة الأولى: قبس من سيرة الإمام الجواد

ان الاحتفال بمناسبات ذكريات أئمة آل البيت وعظماء الإسلام ليس عملا ترفيا. وإنما هو نشاط قيم أخلاقي، يستهدف توثيق علاقة أبناء الأمة بسيرة قادتها الربانيين, والاستفادة من مدرستهم. فمن فوائد الاحتفاء بذكرياتهم هو استحضار سيرتهم واستذكار توجيهاتهم وتعاليمهم.

إننا حينما نحتفي بهذه الذكريات فإن علينا أن نحسن الاستفادة, فلا يكون التفاعل معها عاطفيا, أو مجرد عادة اجتماعية, وإنما ينبغي أن يسأل كل واحد منا نفسه في هذه المناسبات والذكريات عن مدى معرفته بحياة هذا الإمام؟ وماذا استفاد من احياء المناسبة المتعلقة به؟. من هذا المنطلق فإننا حينما تمر علينا هذه الأيام ذكرى وفاة الإمام محمد الجواد تاسع أئمة أهل البيت، فإن علينا أول ما نتذكر هو أن هذا الإمام كان أقصر الأئمة عمرا، اذ لم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، وفي هذا درس بليغ علينا استحضاره، يتمثل في أن حياة الإنسان لا تقاس بطول أو قصر حياته، وإنما بكفاءاته وانجازاته، فلربما عاش الانسان عقودا طويلة من الزمان، فيما يعيش آخر عمرا أقصر، وعند المقارنة بين ما قدمه كلا الشخصين فإنك قد تجد الفارق كبيرا لصالح ما قدمه الثاني من انجازات.

لقد عاش الإمام الجواد عقدين ونصف من الزمن كانت مليئة بالعطاء، ولا يزال عطاؤها مستمرا لأبناء الأمة حتى الوقت الراهن، وتمثل هذا العطاء  في تراث الإمام الفكري والكوادر والطاقات البشرية التي رباها من أبناء الأمة في حياته، علما بأن هذا الإمام ابتلي بلون من الابتلاء مغاير في طبيعته عن غيره من الأئمة  الذين ابتلوا بألوان أخرى من البلاء، من الحبس في السجون والتعرض للقهر والإيذاء، فبعد وفاة أبيه الإمام الرضا جلبه المأمون العباسي وزوجه ابنته, وفرض عليه الإقامة بالقرب منه، فلم يكن الامام يتعرض للإيذاء الجسدي والظاهري، غير أن الخليفة المعتصم فرض عليه لأسباب سياسية مغادرة المدينة المنورة والاقامة في بغداد تحت رقابته.

ان في حياة الإمام الجواد درساً عظيماً يتمثل في إمكان تعرض الإنسان المؤمن في هذه الحياة لأنواع الابتلاءات، وعليه تبعا لذلك أن يختار أفضل الطرق لخدمة دينه ورسالته ضمن الظروف التي يعيش فيها. فكما ان هناك إماما كالكاظم قضى جل حياته  في السجون، فإن إماما آخر كالجواد اضطر للإقامة قريبا من بلاط الحاكمين، لكن الهدف في كلتا الحالين كان واحدا والمسيرة واحدة. وتكمن العبرة هنا في ان اختلاف الظروف هو الذي يفرض اختلاف أساليب العمل.

لا شك أن رضوان الله هو الهدف الأكبر للمؤمن وما عدا ذلك يعد من الجزئيات. يقول الإمام الجواد في جملة ارشاداته (ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة).

أولا: كثرة الاستغفار

الاستغفار يعني الندم على ارتكاب الذنب، والعزم على ترك الخطأ، ومعالجة النقص في حياة الانسان. ولا شك أن الإنسان الذي يهتم بتجاوز أخطائه وعثراته يكون أقرب إلى الله ورضوانه، ولهذا وردت في هذا السياق نصوص كثيرة  في فضل الاستغفار، فقد ورد عن رسول الله (من كثرت همومه فعليه بالاستغفار). إن تكالب الهموم على الانسان منشأه غالبا المشاكل والاخطاء، من هنا لزم على الانسان أن يراجع نفسه ويعالج نقاط الضعف عنده. وورد عنه (خير الاستغفار الإقلاع والندم). فالاستغفار ليس مجرد لقلقة لسان، وإن كان التلفظ بالاستغفار مطلوبا لتأكيد المعنى في نفس الإنسان وسلوكه، لكن التلفظ الحرفي بالاستغفار ليس مقصودًا بذاته. وورد عن الإمام الرضا (المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه)، وذلك يشبه إلى حد كبير إذا أغضب شخصٌ شخصا آخر بكلمة مسيئة ثم اعتذر عنها، ثم لم يلبث أن أعاد نفس الكلمة، فإن ذلك سوف يعتبر من قبيل الاستهزاء بالآخر حتما. من هنا فكثرة الاستغفار هي في طليعة الخريطة والطريق إلى بلوغ رضوان الله.

ثانيًا: لين الجانب

يبنغي للإنسان المؤمن أن يتحلى بلين الجانب في علاقاته مع من حوله من الناس, وأن تكون سمعته على هذا الصعيد سمعة طيبة. ان لين الجانب مع الأقربين منا؛ زوجة، أولادًا أو خدمًا وما شابه، هو مما يجلب رضوان الله، وذلك على النقيض من بعض الناس الذين يكونون أشداء مع من حولهم.

ثالثًا: كثرة الصدقة

وذلك بأن يكون الإنسان معطاء لمن حوله من الفقراء والمعوزين وذوي الفاقة وأهل الحاجة. ورد في الحديث (داووا مرضاكم بالصدقة)، وجاء أيضا (استنزلوا الرزق بالصدقة، وادفعوا البلاء بالصدقة)، فكلما أعطى الإنسان وتصدق من ماله فهو الكاسب الأول وهو المستفيد، ومصداق ذلك الرواية الواردة عن الإمام الجواد (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه، لأن لهم أجره، وفخره، وذكره فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبتدئ فيه بنفسه). إذا قصدك أحد لحاجة ما، فتذكر قول الإمام بأنك أنت الأحوج منه لتلك الصدقة، لأنك إذا أعطيته فإنك تنفع نفسك في وقت الحاجة الملحة.

ينبغي أن يعود الإنسان نفسه على التصدق ولو بالشيء القليل, وأن يعود أبناءه على ذلك. إن بعض المؤمنين يحرصون على دفع الصدقة اليومية فيبدؤون نهارهم بالصدقة، فأمثال هؤلاء برمجوا أنفسهم على أن يبدأوا يومهم بالصدقة، فيخرج الواحد منهم من منزله ورعاية الله تحفه، وتوفيق الله يحيط به. ولعل وجود صناديق جمع الصدقات في بعض الأماكن والبيوت يعد محفزا على التذكير والتشجيع على دفع الصدقة، كما ان بعض الناس يحرص على إخراج صدقة مع نهاية يومه, وقبل أن يخلد للنوم، وهكذا أمام أي مشوار أو عمل.

ان كل لحظة من حياة الإنسان هي فضل من الله وخير منه، فعليه أن يشكر هذا العطاء وهذا الخير. وقد ورد عن الإمام الصادق انه قال: (اعطوا الواحد والاثنين والثلاثة ثم انتم بالخيار) وفي نص آخر عنه : (اطعموا ثلاثة ثم انتم اعلم, ان شئتم ان تزدادوا فازدادوا والا فقد اديتم حق يومكم). فالامام يشير إلى أن إخراج الصدقة ثلاث مرات في اليوم على الأقل، بينما في المقابل تجد هناك من ينزعج إذا أتيت له بعد شهر أو سنة للتبرع لمشروع خيري فيقول للتو قد دفعت الشهر الماضي للمشروع الفلاني!، والسؤال؛ ماذا ينقص منك إذا تبرعت ببعض مالك والمعطي هو الله في كل لحظة، فعلى من تمن! إن دوام الشكر والاعتراف بالفضل والشكر على العطاء ينبغي  أن يكون بعدد أنفاس الانسان فذلك هو أعظم معروف يمكن أن يسديه لنفسه.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل المعروف.

 

وللاستماع:

«الخطبة الأولى: قبس من سيرة الإمام الجواد »

 

خطبة الجمعة بتاريخ 1 ذوالحجة 1432هـ الموافق 28 أكتوبر 2011م.