الإنسان مكلف بإعمار الأرض

حين نتأمل في آيات القران الحكيم، نرى مجموعة كبيرة من الآيات الكريمة قد تصل إلى العشرات، تتحدث عن مهمة أساسية للإنسان في هذه الحياة، وهي مهمة اعمار الأرض، واستثمار الخيرات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في هذا الكون.

يقول الله سبحانه وتعالى ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها – هود، آية 61 فالإنسان مخلوق من تراب الأرض، أما لماذا أنشأنا الله منها؟ وما هي مهمتنا في هذا الوجود؟ فالله تعالى يقول: ﴿استعمركم فيها، يشير المفسرون، وتصرح بعض النصوص الواردة في هذا المجال أن المعنى "طلب منكم عمارة الأرض"، أي أن "تعمروها".

وهنا نقف مع ملاحظة مهمة وهي أن الله سبحانه وتعالى لم يقل انه عمر الأرض  لكم، بل أنه سبحانه خلق هذا الكون وأودع فيه الثروات والخيرات والإمكانات، ثم فوض إلى الإنسان أن يستغل هذه الثروات والإمكانات من اجل اعمار الأرض.

أرأيت كيف أن المالك يأتي بمواد البناء، ويطلب من البناء أن يبني أرضه؟ يقول له تفضل، هذه الأرض، وهذه مواد البناء، وهذه أدوات التعمير جاهزة، وكل ما تحتاجه موجود، هيا قم ببناء مسكن أو عمارة.

هذا ما فعله الخالق سبحانه وله المثل الأعلى، فقد خلق الإنسان، وخلق له هذا الكون، ثم قال له: أيها الإنسان اعمر هذه الأرض بما مكناك من ثروات الكون وطاقاته.

بالعقل تستثمر ثروات الكون

الله سبحانه عندما طلب من الإنسان أن يعمر الأرض لم يتركه تائها، بل وفر له أهم المقومات وتتمثل في أمرين:

الأول: الإمكانات والوسائل التي يتمكن بها من عمارة الأرض.

الثاني: القدرة العقلية التي تجعله قادرا على الاستفادة من هذه الثروات، وهذه الإمكانات.

هناك كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يتحدث فيها عن المقصود بقوله تعالى: ﴿واستعمركم فيها قال : (أما وجه العمارة فقوله ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فأعلمنا سبحانه انه قد أمرهم بالعمارة)[1] ، يعني أنت مطلوب منك عمارة الأرض، وهذا ليس مسالة كمالية إضافية، بل هو أمر صادر من قبل الله تعالى.

ومما يدل على ذلك وجود عشرات الآيات الكريمة التي تتحدث عن تسخير الكون للإنسان، لماذا يقول الله تعالى: ﴿سخر لكم ما في السموات وما في الأرض؟ إنما يقول ذلك ليبين للإنسان أن كل الإمكانيات تحت تصرفه، فيا أيها الإنسان استفد منها، اشتغل فيها، استخدمها من أجل إعمار الأرض.

في أكثر من عشرين آية القران الكريم يتحدث بهذا اللفظ (التسخير) وفي آيات أخرى يتحدث عن خلق الله لهذه الخيرات، ولهذا الوجود من اجل الإنسان، ﴿خلق لكم ماذا خلق؟ خلق سبحانه ما تستفيدون منه، بأن تستثمروه، وأن تسخروه لمصلحتكم، الله سبحانه يقول: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ – إبراهيم، آية 33)

وفي آيات أخرى الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ – لقمان، آية 20؟. كل ما في السموات وما في الأرض سخره الله تعالى لكم ﴿وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا – البقرة، آية 296، هذه الآيات جاءت موجهة للإنسان إلى هذه المهمة المطلوبة منه في هذه الحياة.

أين موقع المسلمين؟

لكن مما يؤسف له أن المسلمين غفلوا عن هذه الآيات، وخاصة في هذه العصور المتأخرة، ما عاد المسلم ملتفتاً ولا مهتما بعمارة الأرض، وكأنها أصبحت مهمة الأمم الأخرى، والأقوام الآخرين، وإما هو فكأن الله خلقه في هذه الأرض لكي يؤدي طقوسا عبادية فقط.

وقد قال أحد المشائخ: "إن الله سبحانه وتعالى سخر للمسلمين أمما أخرى، حتى يكتشفوا ويخترعوا، والمسلمون يستفيدون من ذلك ليتفرغوا لعبادة ربهم"، هكذا يتصور البعض أن الله خلقنا حتى نصلي ونصوم، والأمم الأخرى خلقها الله حتى تعمر الأرض من اجلنا.

هذا فهم سقيم، الله سبحانه وتعالى طلب منا، والقران الكريم موجه إلينا بشكل أساس، طلب منا أن نقوم بهذه المهمة وبمقتضى العبودية لله تعالى علينا أن نستجيب لهذا الأمر، يجب على كل انسان ان يفكر في دوره في عمارة الارض، ويسأل نفسه: ماذا يستطيع أن يعمل في عمارة الحياة، وتنمية الحالة العمرانية والاقتصادية؟ بحيث يكون هناك حراك في هذه الحياة، وهذا ما تؤكد عليه كثير من النصوص.

إن المجتمع الإسلامي مهمته الكبيرة والأساسية هي القيام باعمار الأرض، ولكن ضمن سياق الخضوع لأوامر الله سبحانه وتعالى، واعمار الأرض في طليعة هذه الأوامر، وفي ظلال المبادئ، وفي إطار القيم التي شرعها الله سبحانه وتعالى.

استثمار الثروات

من المؤسف جدا أن لا تستفيد البلدان الإسلامية من الإمكانات الهائلة الموجودة في بيئتها، بينما تجد الأمم الأخرى تستغل كل الثروات التي عندها، إنهم يستفيدون من وجود كل شيء، من وجود الأجواء الطبيعية، والبحر والأراضي الخصبة، والخيرات الموجودة في بيئتهم، وفي الطبيعة التي يعيشون فيها.

وماذا عنا نحن المسلمون؟ إننا ورغم أن الطبيعة في بلداننا زاخرة بالإمكانات والثروات، لكننا مع  الأسف الشديد لا نستثمرها الاستثمار المناسب، ولا نستفيد منها في عمارة بلداننا.

التنمية مقياس أداء الحكومات

حينما نريد أن نقوّم أداء أي حكومة فبأي مقياس نقيّم؟

ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب انه قال: (فضيلة السلطان عمارة البلدان)[2] ، وهذا منهج نقدي يضعه الإمام علي ، يشير فيه إلى أن مقياس التقويم هو انجاز الحكومات في تنمية البلد، فهل استطاعت أن تحقق تقدما في البلد؟

التنمية هي المقياس وهذا هو المعمول به عالميا اليوم، حينما تقاس الحكومات وأداءها يؤخذ بعين الاعتبار مدى التقدم الذي حققته في البلد، ومدى التنمية الذي صنعته، وهذا هو المقياس الصحيح.

وينبغي على المجتمعات المسلمة أن تتفاعل مع برامج التنمية ومشاريع الاعمار، وأن يتوجه كل مواطن للانجاز والفاعلية، من أجل بناء وطنه واعمار بلاده.

قد تفخر بعض المجتمعات الإسلامية بما حققته من إنجازات في الناحية الدينية، ونفخر بأن هذا المجتمع، وهذه البلاد بها كذا من المساجد، فيها كذا من الحسينيات، فيها كذا من الأعمال الدينية، هذه الأمور الدينية العبادية أمر مطلوب يُفخر به، لكن لابد أن يرتبط الفخر بمدى انعكاس هذه الأمور في حياة الناس، وهل تربي الإنسان ليقوم بالمهام التي أوكلها الله سبحانه إليه، اما في غير هذه الحالة فتكون طقوسا فارغة من المضمون، فارغة من المحتوى.

بعض المجتمعات تتباهى بالأنشطة الدينية والشعائرية، ولكن ينبغي أن لا يغيب عن البال أن هذه الأنشطة الدينية ليست مقصودة بذاتها، وإنما هي مقصودة للعطاء الذي تقدمه في حياة الإنسان، لذلك الآيات الكريمة حينما تتحدث عن الصلاة أو الصوم وكذلك عن الحج، فإنها تشير إلى النتائج التي تؤديها هذه العبادات في نفس وسلوك الإنسان، يقول تعالى: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر – العنكبوت، آية 45، ويقول تعالى:﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون – البقرة، آية 21، القرآن الكريم يتحدث عن مردود هذه العبادات، فما هو العطاء؟ وما هو التأثير الذي تتركه هذه العبادة على شخصية الإنسان؟

النصوص الدينية منظومة متكاملة

من ناحية أخرى النصوص الدينية تشكل منظومة متكاملة، لا ينبغي لنا أن نركز على النصوص التي توجهنا إلى هذه الأمور الشعائرية، ونغفل عن النصوص التي توجهنا إلى اعمار الأرض، وإلى التنمية، وإلى العمل الجاد في مختلف المجالات والحقول، نحن نجد في النصوص الواردة عن رسول الله وعن الأئمة ما يؤكد هذا الأمر، فالنبي يقول موجها الدعوة للعمل حتى آخر لحظة من لحظات الدنيا: (إن قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة يريد أن يغرسها فليغرسها ولا يقول قد قامت الساعة)[3] ، وورد عنه انه قال: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة)[4] .

إننا مطالبون ببث ثقافة الاعمار والتنمية، لا ينبغي أن يعيش المسلم انفصالا بين الحالة الدنيوية التي يعيشها، والخطاب الديني الذي يسمعه، وبين المهام الموكلة إليه كانسان في هذه الحياة.

حينما نقرأ النصوص التي تأمرنا بالدعاء، وتلاوة القران، والصلاة والزيارة، وسائر العبادات، ينبغي ألا نعرض عن النصوص الأخرى التي تأمرنا بالتجارة، وبالزراعة وبطلب العلم، وباعمار الكون، وتأمرنا بالعمل والتحرك، لماذا نعيش ازدواجية فنغض الطرف عن هذه النصوص ونتمسك بتلك؟ النصوص الدينية منظومة متكاملة، ولا بد من العمل بمجمل النصوص.

إن كل إنسان في أي ارض، وفي أي وطن، ومجتمع ينبغي أن يفتح ذهنه، وان يفكر في استغلال الثروات الموجودة في بلاده، من الأرض والمياه والثروات المعدنية، وهذه الطبيعة التي مكننا الله منها، وأن يتساءل: كيف نستغلها؟ كيف نستفيد منها؟ لا ينبغي لك أن تعزف عن هذا الأمر، بل لابد أن تفكر في ما تضيف إلى مجتمعك، إلى وطنك، في مجال الاعمار، والتنمية الاقتصادية.

لو أن كل إنسان فكر على هذا الصعيد، كيف نقوى الزراعة في بلادنا؟ كيف نقوى الصناعة في بلادنا؟ كيف نقوى التجارة في بلادنا؟ كيف نقوى الحركة الاقتصادية والتنمية في بلادنا؟

لو أن كل إنسان شغل ذهنه بهذا الأمر، لكانت النتيجة بان يكون عندنا اهتمام عام، ونحن نرى في المجتمعات الأخرى كيف أن هذا هو ما يشغل أذهانهم، نحن نأخذ عليهم أن الاهتمامات الروحية ضعيفة عندهم، ولكن في المقابل يؤخذ علينا اهتمامات الاعمار، واهتمامات النشاط والتنمية ضعيفة عندنا، ما أحوجنا أن نستفيد من همتهم في مجال العمل، وان نعطيهم شيئا مما لدينا في مجال التنمية الروحية والمعنوية.

بالطبع إن اعمار الأرض وتنميتها في أي مجتمع يحتاج إلى منظومة متكاملة، الأمر يرتبط بالوضع السياسي، وبالمستوى العلمي المعرفي، ويرتبط بالبيئة المشجعة، ولكن كل إنسان منا يستطيع أن يقوم بدورٍ ما على هذا الصعيد.

نسال الله أن يوفقنا وإياكم لكي نقوم بما أمرنا الله تعالى به في مختلف المجالات والحقول المعنوية والمادية، فالإسلام منظومة متكاملة، وبرنامج واحد لإسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة ﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار- البقرة، آية 201 والحمد لله رب العالمين.. وصل الله على نبينا محمد واله الطاهرين.

* محاضرة ألقيت في مكتب الشيخ حسن الصفار يوم الخميس 2/3/1433هـ الموافق 26/1/2012م.
[1]  بحار الأنوار ج90 ص 47.
[2]  إكمال غرر الحكم ص472 كلمة 120.
[3]  كنز العمال ح 9056.
[4]  جامع أحاديث الشيعة ج 23 ص 500 ح6.