هذه المجازر .. وهذه الثقافة التي خلفها


أصبحت أخبار القتل والفتك وسفك الدماء، وانتهاك حقوق الإنسان، عناوين ثابتة في أخبار العالم الإسلامي، ففي العراق ترتكب مجازر فظيعة كل يوم تستهدف المدنيين والأبرياء، وآخرها ما حصل في مدينة الحلة في العراق يوم الثلاثاء 1 مارس الحالي، حيث فجر إرهابي سيارة ملغومة أوثقت يداه بمقودها في جمع من المواطنين العراقيين، فوقع منهم أكثر من 130 قتيلاً و150 جريحاً، وقبل ذلك بأيام استهدف إرهابي طابوراً من المواطنين في بغداد أمام مخبز، فاختلطت دماؤهم وأشلاؤهم بطحين الخبز وعجينه.
إن الأسوأ من هذه الحوادث تبنيها من قبل مجموعات تنسب نفسها إلى الإسلام والجهاد، وعدم مقابلتها بالمستوى المطلوب من الإدانة والرفض، من قبل كافة الجهات الدينية الإسلامية، إن ذلك يضع علامات استفهام حقيقية على ثقافتنا السائدة في كثير من الأوساط، التي تحتضن أفكاراً وتوجهات تؤسس لانتهاك حقوق الإنسان، والاستهانة بحياته وقيمته بسبب اختلافه السياسي أو العرقي أو الديني.
وما كان الجدل والسجال الذي دار عن زلزال تسونامي، من قبل بعض المحسوبين على الدعاة والخط الديني ببعيد عن هذه الأجواء، حيث قابلوا تلك المأساة الإنسانية بموقف سلبي سيئ، واعتبروها عقوبة وغضباً من الله بحق من وقعت عليهم..! ويفرض علينا ذلك المراجعة النقدية لهذه الثقافة السائدة، لنتعرف على رؤية الإسلام الحقيقية لكرامة الإنسان وحماية حقوقه.
فمن مناطق الخلل الرئيسية في مساحة واسعة من الخطاب الإسلامي، القول بتجزئة الكرامة الإنسانية، وأنها خاصة بالمسلمين، فغير المسلم بفريق معين من المسلمين.
مع أن القرآن نصّ على منح الكرامة من الله تعالى لعموم بني آدم، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.
والآية الكريمة صريحة واضحة في شمولية تكريم الله لبني البشر جميعا، وهذا ما أكده بعض المفسرين للآية الكريمة.
جاء في تفسير الميزان: «يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر، مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية، والقرب والفضيلة الروحية المحضة، فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق». وجاء في تفسير روح المعاني: «ولقد كرمنا بني آدم»: أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم، أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر».
هذا البيان الواضح الصريح كان ينبغي أن يكون أصلاً يرجع إليه في فهم بعض النصوص، واستنباط بعض التشريعات المتعلقة بالموقف تجاه الآخر المخالف في الدين أو المذهب، وأسلوب التعامل معه.
إن القول بالجهاد الابتدائي وهو رأي مشهور الفقهاء، والذي يعني قتال الكفار لا لعدوان حصل منهم على المسلمين، وإنما لمجرد كونهم كفاراً، وتخييرهم بين الإسلام أو القتل، إلا أن يكونوا كتابيين فأمامهم خيار ثالث هو الجزية، هذا القول يحتاج إلى إعادة بحث ودراسة.
وقد أنجز بعض العلماء المعاصرين أبحاثاً قيمة على هذا الصعيد، ومنهم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه «جهاد الأمة»، والذي انتهى به البحث فيه إلى نفي مشروعية الجهاد الابتدائي، بعد محاكمته للأدلة التي اعتمدها مشهور العلماء.
وكذلك القول بنجاسة الكافر ذاتاً، وهو ما يذهب إليه فقهاء الشيعة، وبعضهم يستثني أهل الكتاب، أما فقهاء السنة فالمشهور عندهم «أن الكافر الحي طاهر لأنه آدمي، والآدمي طاهر سواء أكان مسلماً أم كافرا، لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وليس المراد من قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» نجاسة الأبدان، وإنما المراد نجاسة ما يعتقدونه، وقد ربط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأسير في المسجد».
وبعض فقهاء الشيعة المعاصرين ذهب إلى هذا الرأي بالقول بعدم نجاسة الكافر ذاتاً كتابياً وغير كتابي، كالشيخ مكارم الشيرازي والسيد فضل الله والشيخ يوسف الصانعي.
ومن الموارد التي تحتاج إلى تجديد بحث ما ذهب إليه مشهور الفقهاء من جواز غيبة المسلم المخالف في المذهب، وذلك يعني انتهاك حرمته المعنوية، وقد ردّ هذا الرأي بعض الفقهاء، وقرروا حرمة الغيبة لكل مسلم، وإن كان مخالفاً في المذهب، ومن هؤلاء الفقهاء المحقق الأردبيلي والشيخ الآخوند الخراساني في كفاية الأصول، ويقول الفقيه الشيخ محمد آصف المحسني: «ثم إن ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن فيجوز اغتياب المخالف. وأقول: ظاهر الآية ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا هو العموم، فإن المؤمن في عصر نزول القرآن أعم من المصطلح عليه اليوم، والأخوة في ذيل الآية غير مخصصة، لصدق الأخ الديني على المخالف أيضاً.
ومثل ذلك ما يتناقله الفقهاء من استحباب التضييق على الذميين والكتابيين في ظل الدولة الإسلامية في الطريق، واضطرارهم إلى أضيق الطرق، وسائر ما ذكروه في أحكام التعامل مع أهل الذمة من هذا القبيل. إن مثل هذا الخطاب وهو كثير في الساحة الإسلامية، ومنه ما يأتي في صيغة الدعاء في خطبة الجمعة بالهلاك لجميع اليهود والنصارى والكفار والمخالفين، وترميل نسائهم وتيتيم أطفالهم، نعم إن مثل هذا الخطاب هو الذي خلق أرضية توجهات العنف والإرهاب التي تعاني منها الآن بلاد المسلمين وبلاد العالم، مما شوه سمعة الإسلام والمسلمين وأوصلها إلى الحضيض.
إن استباحة دماء غير المسلمين، والتمثيل بجثثهم، وقطع رؤوسهم، ثم التفاخر بتصوير تلك المشاهد القاسية تحت لافتات وشعارات إسلامية، وبثها للرأي العام العالمي، هو ثمرة مرّة لمثل هذه الطروحات والخطابات، وفي أكثر من حادث إرهابي، كان الإرهابيون يسألون من يقعون في قبضتهم عن أديانهم، فمن كان مسلماً قد يطلقون سراحه، ومن كان غير مسلم يعاجلونه بالقتل.
ومن أواخر النماذج ما نقلته جريدة «الحياة» عن حادث اقتحام القنصلية الأمريكية في جدة بتاريخ 7/12/2004: حيث وصف نائب رئيس قسم الحركة المناوب في القنصلية الأمريكية في جدة صلاح عبد القوي عبد المحسن لـ«الحياة»، لحظات رعب عاشها، عندما سأله المهاجمون عن ديانته، فقال لهم: «مسلم.. مسلم» فطلبوا منه أن يتلو سورة الفاتحة فوراً «قرأتها متلعثماً، ولم أصدق أنهم توجهوا بالسؤال للذي بعدي في الصف، ونحن وقوف، رافعين أيدينا في وضعية استسلام» وأضاف: «بعد ما قرأ الفاتحة اثنان ممن استخدموا كدروع بشرية، جاء دور فلبيني غير مسلم، ولم يتل الفاتحة واعترف بأنه غير مسلم فقتلوه مباشرة برصاصة في رأسه».
إن التأمل في الآية الكريمة ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ينبغي أن يؤدي إلى تقرير أصل التكريم للإنسان كمبدأ فكري، وقاعدة فقهية، لا يصح تجاوزها إلا بمبرر مشروع ودليل واضح صحيح. الإنسان محترم بذاته عند الله، وهذا صريح معنى الآية. ويقول علي في عهده لمالك الأشتر: «الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، وبالتالي فإن للإنسان حرمته بما هو إنسان.
وفي حرمة السبّ يمكن كذلك اعتماد الآية ﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ، وليس فيها قيد المؤمن والمسلم. يقول الله إنه يكره اختلاق الألقاب السيئة. ويقول أيضاً ﴿لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ، ولا يقيد ذلك باعتناقهم الإسلام، لأن الله أراد أساساً أن تكون العلاقات الاجتماعية سليمة، ولا يخاطب الناس بعضهم بعضا بالسوء. إنه حكم يشمل غير المسلمين أيضاً. وعلى الأقل فإنه يشمل المسلمين سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين. إذا آمنتم فلا يحق لكم إهانة مؤمن آخر أو إهانة شخص غير مؤمن، مقتضى الإيمان أن يكون الإنسان رصيناً ولا يتكلم بالترهات.
السب مذموم عند الله في نفسه، سواء كان ضد مؤمن أو ضد غير مؤمن، ثمة رواية تقول: «لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة»، وليس في هذه الرواية أيضاً قيد المؤمن أو المسلم، فهي مطلقة تشجب سبّ الإنسان على نحو العموم. غاية ما يمكن أن يقال هو أن سبّ المؤمن أسوأ من سبّ غير المؤمن.
نحن بحاجة إلى جرأة في المراجعة لإنقاذ واقعنا من براثن الإرهاب، ولتصحيح صورة الإسلام أمام العالم.

جريدة الشرق الأوسط عدد رقم (9601) الصادر يوم السبت 2 صفر 1426هـ الموافق 12 مارس 2005م