مستوى الجودة والإتقان في العمل

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: مستوى الجودة والإتقان في العمل

روي عن رسول الله أنه قال: «إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»[1]  .

الحياة تفرض على الإنسان العمل والحركة، لتحصيل المكاسب، وتلبية المتطلبات، فلا خيار للإنسان في أن يعمل أو لا يعمل، وأن يتحرك أو لا يتحرك، فالحياة تفرض عليه أن يعمل وأن يتحرك. لكن التفاوت بين الناس، ليس في كونهم يعملون أو لا يعملون، وإنما يكمن التفاوت في مستوى العمل، ومدى الجودة والاتقان فيه، سواء كان على الصعيد الفردي أم العام.

والإتقان يعني أداء العمل في وقته المناسب، وخلوه من الخلل، وإنجازه طبقًا للشروط وضوابط الأداء. إنّ هناك من الناس من يحرصون على إتقان أعمالهم، فيما يتساهل آخرون في أداء أعمالهم إلى حدِّ التسيّب، فأمثال هؤلاء عودوا أنفسهم تلفيق أعمالهم كيفما اتّفق.

إنّ تعاليم الإسلام تحضّ الإنسان المسلم على الإتقان في العمل، فليست المسألة مجرّد أداء العمل كيفما كان، وإنما المهم هو الظهور بالعمل متقنًا وفي غاية الجودة.

الإتقان سمة الوجود

ويمكن رؤية التأكيد المشدّد في تعاليم الشريعة على إتقان العمل ضمن العديد من الأبعاد. ويأتي على رأسها التأكيد الإلهيّ منه سبحانه وتعالى في خلق الإنسان، وتكوين جميع الخلائق في غاية التكامل والإتقان، وكأنّ الغاية من ذلك إخبار البشر أنّ الإتقان هو السمة المطلوبة في الكون والحياة، حيث يقول سبحانه: ﴿صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ[سورة النمل، الآية: 88]، فأين ما يمم الإنسان وجهه، وجد الإتقان الإلهي في آفاق الكون، وأنواع الخلائق، في كلّ جانب ومجال، إن في تكوين الذرّات أم في خلق المجرات.

وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ[سورة السجدة، الآية: 7]، وبذلك يخبرنا تعالى بأنّ كلّ شيء خلقه سبحانه، لا بُدّ وأن يكون على أعلى مستوى من الإتقان والجودة.

وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين، الآية: 4]، وفي آية أخرى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]. وما ذلك كلّه إلا لأجل أن يلفت سبحانه نظر الإنسان إلى أنه يعيش في كونٍ صنع على أساس الإتقان، وتقوم سننه على الإتقان والإحكام، وبذلك فليكن عملك وتحركك أيّها الإنسان منسجمًا مع الحال العام في هذا الكون البالغ الإتقان.

الآداب الشرعية جودة في السلوك

وقد بلغ من الآداب والسنن الشرعية التي تدفع باتجاه الإتقان حدًّا تناول أدقّ التفاصيل الشخصية لدى الإنسان، في مختلف مجالات حياته. حتى الأمور الخاصة، كالنوم والأكل ودخول بيت الخلاء، فمع أنّ النوم حاجة بيولوجية للجسم، إلّا أنّ في الشريعة آدابًا ووصايا متعلقة بهذا الأمر، وكذلك دخول بيت الخلاء فهناك مستحبات ومكروهات، كما يجري الحال نفسه مع الآداب المتعلقة بالأكل والشرب، التي تتناول المستحبات والمكروهات المتعلقة بالغذاء والشراب، بما يشمل ذلك الاهتمام بجودة الغذاء وطريقة تناول الطعام والشرب. وهناك عدد من النصوص الدينية الواردة حول ارتداء الملابس، من حيث النظافة والظهور بالمظهر الأنيق، إنّ جميع تلك الآداب والسنن جاءت لتربي الإنسان على الإتقان، لا مجرّد تأدية العمل كيفما اتفق.

الإتقان ميدان تنافس الأمم

لقد أصبح إتقان العمل اليوم محلًّا للتنافس المحموم بين الأمم والشعوب. فقد أصبحت المجتمعات تتسابق في إظهار مستوى الإتقان، في إنتاجها، وصناعاتها، وتعليمها، وخدماتها، فلم تعد المسألة أن يكون لديهم تعليم أو لا يكون، وإنما يكمن لبّ المسألة في مستوى ذلك التعليم وجودته، وكذلك الحال على مستوى الإنتاج الصناعي، والخدمات الصحية، حتى بات هناك مؤسسات دولية متخصصة في مراقبة مستوى الجودة والإتقان في كلّ مجالٍ من المجالات.

إنّ المراقب للأوضاع في مجتمعاتنا الإسلامية، يدرك بسهولة حجم الخلل الكبير، والعجز عن تقديم الأعمال المتقنة. وهذا بطبيعة الحال ما يؤدي إلى تعثّر التنمية في أوطاننا، نتيجة التسيب والإهمال على صعيد العمل، بالرغم من حجم الإنفاق الكبير الذي ترصده الحكومات، ذلك أنّ الحلقة المفقودة هنا، هي غياب الإتقان في أداء العمل. حيث تُنشأ المدارس وتُرصد لها الميزانيات التعليمية، ويُوظّف المعلمون، لكن تجد الخلل ضاربًا بأطنابه بدءًا من مناهج التعليم، إلى البيئة التعليمية، إلى إعداد المعلم، وصولًا إلى مستوى أداء المعلم لوظيفته، وهذا الخلل والتسيب هو الذي يؤدي إلى الفشل في مخرجات التعليم في الكثير من أوطاننا ومجتمعاتنا. والحال نفسه مع الخدمات الصحية، فهناك ميزانيات ضخمة معتمدة على هذا الصعيد، ومع ذلك يرى المواطن أنّ هناك خللًا كبيًرا في مستوى الخدمات المقدمة، ولو بحثنا عن سبب التردي هنا، فسنجد أنّ لبّ المشكلة أو جزءًا كبيرًا منها يكمن في تردّي مستوى الجودة الإتقان في العمل.

ثقافة الإتقان

إنّ لغياب الجودة والإتقان في العمل أسبابًا وعوامل عديدة. ومن تلك العوامل الأساسية غياب ثقافة الإتقان حيث ينبغي أن يتربى الإنسان على هذه الثقافة منذ النشأة في المحيط العائلي، وخلال مرحلة الدراسة، وأثناء مراحل التدريب والتأهيل، إضافة إلى التوجيه والتثقيف العام، وما دمنا نمتلك هذا الوازع ضمن منظومتنا الدينية فينبغي أن نعمل على تفعيله، حيث نعتقد أنّ الله سبحانه يراقبنا وينظر إلى أعمالنا.

أيّها المعلم، لا تظنّن بأن مصدر الرقابة عليك هي إدارة المدرسة أو وزارة التعليم، بل أنت محاسب على عملك أمام الله سبحانه وتعالى، وكذلك الطبيب الذي يقدم خدماته العلاجية إلى المرضى، هو مؤتمن من قبل الله تعالى قبل أن يكون مؤتمنًا من إدارة المنشأة الطبية التي يعمل بها، أو من وزارة الصحة. لذلك ينبغي أن يظلّ شعور الإنسان قائمًا بأنّ الله سبحانه وتعالى يراقب عمله، وفقًا للآية الكريمة: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة، الآية: 105]، وحين يتساهل أو يتسيّب في أداء الخدمة والواجب تجاه عباد الله، فإنه سيكون محاسبًا بين يدي الله سبحانه. من هنا ينبغي التأكيد دائمًا على ثقافة الإتقان وتفعيل الوازع الديني.

وإضافة إلى ما سبق، يُعَدّ إتقان العمل دليلًا على مدى احترام الإنسان لنفسه. ولا ينبغي أن يرضى لنفسه ولعمله الظهور مشوّهًا، فمن لا يجدّ في أداء عمله إنما يستهين بنفسه في حقيقة الأمر؛ لأنّ هذا العمل المشوّه سينسب إليه. وقد كتب أحدهم في سيرة أحد الخطباء، بأنّ ذلك الخطيب كان إذا أراد الذهاب إلى قراءة مجلس، فإنه يهتمّ بالتحضير الجيّد، وكان مدعوًا ذات مرة للقراءة في مجلس ليس فيه حضور كثير، وعلى قلتهم لم يكن الحاضرون في المجلس من ذوي المستويات، إلّا أنّه مع ذلك ظلّ يعكف على التحضير، فخاطبه الكاتب متسائلًا عن سرِّ إجهاد نفسه في التحضير لهذا المجلس، فأجابه الخطيب بأني إنّما أجدّ في التحضير احترامًا لنفسي بالدرجة الأولى وحتى لا أقدّم خطابًا غير متقن، فالخطاب الذي ألقيه ينبغي أن أراعي فيه مستواي أنا، لا مجرّد قبول الآخرين له كيفما اتفق.

التحفيز والتشجيع

إنّ وجود عناصر التحفيز تُعَدّ من أهمّ العوامل المشجعة على الإتقان في العمل. ذلك أنّ الموظف والعامل في أيّ مجالٍ من المجالات إذا لم يجد صدًى أو مردودًا لإتقانه العمل، فستضعف عنده مع الوقت الدافعية لإتقان العمل، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية وجود الحافز الذاتي والعامل الديني، لكن طبيعة البشر تتأثّر بالتقدير والشكر.

من هنا نجد المؤسّسات المهتمة بتطوير أداء منسوبيها تعمل على تفعيل جانب المحفّزات، التي تشجّع الموظفين والعاملين الذين يظهرون اهتمامًا أكبر بعملهم، والمؤسف أنّ ما يجري في مؤسساتنا الوطنية أحيانًا هو العكس تمامًا، فقد يأتي الموظف ولديه اندفاع كبير للعمل، غير أنه لا يحظى بالتقييم المناسب، بل يرى كيف تتورط إدارته في تقييم العاملين اعتمادًا على المحسوبيات والانتماءات المختلفة، وسرعان ما يضعف عنده مستوى الدافعية؛ لأنّ الأمر سيّان، أتقن عمله أم لم يتقن، وهذا أمر خطأ دون شك، غير أنّ الطبيعة البشرية تبقى عرضة للتأثر بوجود العوامل المحبطة وغياب عناصر التحفيز.

الرقابة والتقويم

وأخيرًا تأتي أهمية وجود الرقابة والتقويم العام ضمن العوامل المؤدية للإتقان في العمل. فهي أمر بالغ الأهمية، سواء كان من قبل الجهات الرسمية أم الأهلية، فهناك على مستوى العالم مؤسسات لا تسكت على وجود الخلل بل تدفع باتجاه التحرك الرسمي والشعبي نحو استئصال الأخطاء، ولها أثر كبير في التوجيه نحو الإتقان والإحكام.

إنّ الحديث الوارد عن الرسول: «إنّ الله تعالى يحبّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» يحفّز لدينا الوازع الديني، فالله سبحانه وتعالى يحبّ الإتقان، فإذا كان المرء يصلي ويصوم ويتعبّد الله لأنّ الله يحبّ منه ذلك ويثيبه عليه، فكذلك الحال مع ضرورة الإتقان في العمل الذي ينبغي أن يظهر على أحسن ما يكون؛ لأنّ الله يحبّ منّا ذلك. فالمقاول الذي يعمل على بناء المساكن والعمارات للناس، يحبّ الله منه الإتقان في عمله، بينما يرقى التساهل في العمل إلى حدِّ خيانة الناس الذين وثقوا به. وهكذا الحال في سائر الخدمات الطبية والتعليمية وغيرها، ينبغي أن يعلم الإنسان أنّ الله تعالى سيحاسبه على عمله. إنّ الخلل في إتقان العمل هو الذي ينتج عنه هذا التخلف العام الذي نعيشه على مستوى التنمية في أوطاننا.

 

الخطبة الثانية: رفد الجمعيات الخيرية بالطاقات والكفاءات

ورد عن الإمام عليّ بن أبي طالب أنه قال: «عليكم بأعمال الخير فتبادروها ولا يكن غيركم أحقّ بها منكم»[2]  .

تمثل مسألة الانخراط في الشأن العام وخدمة الآخرين تطوعيًّا، ذروة العطاء المدفوع بالروح القيمية والوعي الحضاري. فأن يبادر الإنسان إلى نيل المكاسب الشخصية، فتلك نزعة غريزية طبيعية، ذلك أنّ كلّ إنسان حريص على اغتنام أيّ فرصة تلوح أمامه، لتحصيل المكاسب المرتبطة بمصالحه الذاتية. فحين يُعلن عن منح أراضٍ للمواطنين، أو اكتتاب مربح في سوق الأسهم، أو فرص وظيفية جيدة، فإنّ من الطبيعي أن يسعى كثيرون لنيل تلك الفرص، ولكن أن يبادر الإنسان إلى الانخراط في الشأن العام، ويسابق غيره إلى خدمة الآخرين طوعيًّا، فهذا ما يحتاج إلى دافع قيمي، ووعي حضاري لا يتسنّى إلّا للقلة من الناس.

الدافع القيمي

ويتمثل الدافع القيمي الذي يدفع إلى خدمة الآخرين، في ثراء وجدان الإنسان، وفيض مشاعره النبيلة. فقد أودع الله في أعماق الإنسان وجدانًا وفطرة يدفعانه نحو الخير وخدمة الآخرين، كما أنّ الانتماء الإيماني من الدوافع الأساسية لعمل الخير، على قاعدة الإيمان بالله، والاعتقاد أنه سبحانه يريد من الإنسان فعل الخير للآخرين، ويثيبه على ذلك.

وتحفل النصوص الدينية بكثير من التعاليم الحاثّة على المبادرة إلى خدمة الناس، وفعل الخير للآخرين. ورد عن أمير المؤمنين قوله: «عليكم بصنائع المعروف فإنها نعم الزاد إلى المعاد»[3]  ، كما روي عن الإمام الصادق أنه قال: «أول من يدخل الجنة أهل المعروف»[4]  ، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق أنه قال: «إنّ المؤمن منكم يوم القيامة ليمرّ عليه الرجل وقد أمر به إلى النار، فيقول له: يا فلان أغثني، فقد كنت أصنع إليك المعروف في الدنيا، فيقول المؤمن للملك: خلِّ سبيله: فيأمر الله الملك أن أجز قول المؤمن»[5]  ، فإذا ما فعل الإنسان الخير للناس فقد يكون ذلك حبل إنقاذ وطوق نجاة له في الآخرة. كما ورد عن النبي محمد أنه قال: «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال يغفر الله لهم بالتطول منه عليهم فيدفعون حسناتهم إلى الناس فيدخلون بها إلى الجنة، فيكونون أهل المعروف في الدنيا والآخرة»[6]  . إنّ من يعطي الناس في الدنيا، فإن الله سبحانه سيهبه يوم القيامة رصيدًا هائلًا من الثواب والحسنات، يعطي الناس منها يوم القيامة، خاصة أقرباءه وأرحامه، ومن يعرفهم، ومن يريد التشفع فيهم.

الوعي الحضاري

 وإلى جانب الدافع القيمي يأتي الوعي الحضاري، باعتباره دافعًا آخر يقود إلى خدمة الآخرين. انطلاقًا من إرادة الإنسان الجادة في رؤية المجتمع الذي ينتمي إليه مجتمعًا قويًّا، وأن يكون الوطن الذي يعيش في كنفه وطنًا متقدّمًا، وهذا لا يكون إلّا إذا تسابق أبناء الوطن نحو التكافل والتعاون فيما بينهم، ولعلّ نظرة عابرة إلى الشعوب التي باتت تنافس على الريادة عالميًّا، سنجدها من حيث الجوهر تسلك طريق المعروف للناس، من أجل أن تؤكّد حضورها الدولي وريادتها العالمية. ومن تجلّياته انبثاق المؤسسات الخيرية والإغاثية العالمية، من شعوب تتطلع إلى أن تكون في موقع الريادة والقيادة على مستوى العالم.

لقد أصبح العمل الخيري في عالم اليوم، ميدانًا للمعرفة ولتراكم الخبرات والتجارب. وهناك كثير من البحوث والدراسات لتخطيط وتطوير العمل الخيري التطوعي، حيث انبثقت مؤسسات تراقب العمل التطوعي عبر العالم، سعيًا وراء تطويره وتقدّمه، وخلق المنافسة في ميادينه.

ونحن كمسلمين، ينبغي أن نكون أحرص على المبادرة لعمل الخير، وخدمة المجتمع، اقتداء بأمير المؤمنين القائل: «عليكم بأعمال الخير فتبادروها ولا يكن غيركم أحقّ بها منكم».

لذلك يأتي السؤال عن علة التنافس الواسع في المجتمعات الأخرى في مجال العمل الخيري التطوعي، بينما تعاني الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية في مجتمعاتنا من ضعف الإقبال وقلة التفاعل معها؟، والجواب يكمن في تربية المجتمعات الأخرى أبناءها على المشاركة في الأعمال التطوعية من بواكير حياتهم. وقد تحدثت تقارير كثيرة عن بعض الأفكار المميزة المطبقة في عموم المدارس الابتدائية البريطانية، مثل تخصيص يوم لكي يأتي الأطفال ببعض المبالغ البسيطة من ذويهم كتبرعات لصالح لجمعيات الخيرية، أو لرفد حملة إغاثية لمناطق منكوبة وما أشبه ذلك، من أجل أن يتعوّد الأطفال منذ الصّغر عمل الخير والتطوع.

المسلمون أجدر بالإقبال على العمل الخيري

ولعلّ الاطّلاع على التقارير المنشورة حول حجم العمل الخيري التطوعي في العالم، وانكماشه في مجتمعاتنا في المقابل أمر يبعث على الأسى، سيّما وأن مجتمعاتنا تتلو القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، كما تستمع إلى كمٍّ هائل من الخطب والأحاديث، فلماذا نعاني من شحّ الإقبال على العمل الخيري التطوعي قياسًا على المجتمعات الأخرى؟

وفي هذا السياق تحدث مدير مبادرة متطوعو العرب في الجامعة العربية، قائلًا: إنّ العمل التطوعي في العالم العربي يعدّ الأضعف قياسًا على الدول الأوروبية والأمريكية، وهذا ما تعكسه الأرقام المتداولة في هذا المجال، إذ إنّ ما نسبته 80 بالمئة من الشباب الأوروبي الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و 35 بالمئة ينشطون في العمل التطوعي، في مقابل ثمانية بالمئة فقط من الشباب العرب يشاركون في العمل التطوعي [7] .

وفيما يتعلق بمجتمعنا، فقد أصبحت الشكوى الرئيسة لدى الجمعيات الخيرية هي قلة المتطوعين أكثر من شحّ الموارد المالية. وقد جمعتنا خلال الأسبوع الماضي سلسلة لقاءات بعدد من رؤساء وإداريي الجمعيات الخيرية في المنطقة، بعد أن أجرينا لقاءات مع رئيس كل جمعية، وكان بعدها لقاء موسّع مع جمع من إدارات الجمعيات الخيرية، ولمست خلال الاجتماعات شكوى معظم هذه الجمعيات من ضعف الموارد البشرية حصرًا، فلم تعد المشكلة عندها تكمن في قلة الموارد المالية كما كان سابقًا، سيما بعد أن اتجهت معظم الجمعيات نحو تأمين مواردها المالية من خلال الاستثمار، بعد أن سمحت وزارة الشؤون الاجتماعية بذلك، علاوة على المساعدات الآتية من أهل الخير والشركات.

إنّ المشكلة الرئيسة لدى الجمعيات الخيرية باتت تكمن في ضعف التفاعل من قبل المجتمع، ويتمثل ذلك في قلة الأعضاء المشتركين، الذين يحقّ لهم حضور الجمعية العمومية والمشاركة في الانتخابات. لا يكفي الاقتصار على التبرع للجمعيات بمبالغ وإن كانت كبيرة، إنما تحتاج الجمعيات إلى منحى تطوعي يرفدها بالجهد الشخصي، والوقت والفكر والمشاركة في التخطيط، وهذا من مصاديق قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، فالله سبحانه لم يرزقنا المال فقط، بل أعطى الإنسان القوة والرأي والجهد والجاه، وفي كلّ شيءٍ من تلك النعم زكاة، فهناك زكاة للوقت والجاه والكفاءة الفكرية والإدارية. من هنا، فالجمعيات بحاجة ماسّة إلى من يشارك فيها بالعمل وبذل الجهد والوقت، وإلّا فما الفائدة في أن تكون للجمعية ميزانية كبيرة في ظلّ غياب الكفاءة الإدارية القادرة على التخطيط والإنتاج الأفضل؟

المؤسسات الخيرية واجتذاب الكفاءات

إنّ مسؤولية المجتمع تنصب بشكل أساس في رفد الجمعيات الخيرية بالعناصر المؤهلة. ولعلّ شكوى كثير من الناس من أداء الجمعيات الخيرية مردّه إلى ضعف الموارد البشرية عند هذه الجمعيات، فالمطلوب رفدها بالكفاءات والقدرات حتى نتوقع منها بعد ذلك أداءً أفضل، وأول هذه المهمات تعزيز قائمة المشتركين في عضوية الجمعيات، فليس مقبولًا أن مدينة تضم عشرات الآلاف من الناس، فيما لا تتجاوز قوائم المشتركين في الجمعية الخيرية مئات من المشتركين!، فأين هؤلاء الناس من الاشتراك في عضوية الجمعية الخيرية التي تخدم منطقتهم؟ لذلك نهيب بالجميع أن يسعوا للاشتراك في عضوية الجمعية الخيرية العاملة في منطقتهم، ونتمنّى أن نصل إلى المرحلة التي تقول فيها الجمعيات الخيرية، أنّ لديها فائضًا من الأعضاء المشتركين، وقد أصبحوا بحيث لم تعد هناك إمكانية لجمعهم في قاعة واحدة.

وهناك مشكلة أخرى تكمن في أنّ بعض المشتركين يبخلون بساعة أو ساعتين من وقتهم لحضور الجمعية العمومية السنوية، ومناقشة التقرير السنوي للجمعية، وإبداء الملاحظات عليه، وإيصال الملاحظات والانتقادات لإدارة الجمعية مباشرة، وصولًا إلى المشاركة في الانتخابات ترشّحًا وترشيحًا، فإدارة الجمعية منتخبة من الأهالي، فإذا أقبل الناس على المشاركة، وتقديم آرائهم وأصواتهم الانتخابية، فإنهم سينتخبون من هم أكثر كفاءة وإتقانًا للعمل. إنّ قلة المرشّحين المتقدمين لإدارة الجمعيات الخيرية في بعض مناطقنا، يكشف عن مشكلة حقيقية في مجال العمل الخيري التطوعي، فأين حرصنا على تنمية مجتمعنا؟ وأين وعينا بأهمية الخدمة الاجتماعية، التي يحثّ عليها ديننا؟

فالمطلوب من كلّ من لديه كفاءة إدارية أكاديمية، أو في أيّ مجال من المجالات، أن يشترك في أيّ جمعية أو مؤسسة لخدمة المجتمع، وليبذل زكاة جهده ووقته من أجل مجتمعه. كما أهيب في الوقت نفسه بالجمعيات الخيرية نفسها، أن تسعى للبحث عن الكفاءات والقدرات، وأن تستوعبها ضمن أجهزتها، ذلك أنّ ما يجري أحيانًا هو وجود ضعف لدى هذه الجمعيات في الاجتذاب والاستقطاب. إنّ ما هو أهمّ من تحصيل الإمكانات المالية للجمعيات هو الحصول على الكفاءات والطاقات البشرية، وأن نجتذبها لمؤسساتنا الخيرية، كما أنّ من الضروري أن تتجه الجمعيات إلى توظيف وتفريغ بعض الكفاءات لأداء أعمالها؛ لأنّ بعض الأعمال لا يكفي أن يقوم عليها متطوعون بدوام جزئي، فإلى جانب المتطوعين قد تحتاج الجمعية لتفريغ بعض الكفاءات بدوام كامل، من أجل ضمان القيام بدورها على أكمل وجه.

خطبة الجمعة 24 رجب 1435ﻫ  24 مايو 2014م
[1] كنز العمال، ج3، ص907، حديث 9128.
[2] غرر الحكم ودرر الكلم، ص256، حكمة 2.
[3] غرر الحكم ودرر الكلم، ص256، حكمة 13.
[4] دعائم الإسلام، ج ٢، ص ٣٢١، حديث1211.
[5] أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ج ١، ص ١٨٥.
[6] تحف العقول، ص56.
[7] جريدة الخبر الصادرة بتاريخ 7 مايو 2014م.
http://www.elkhabar.com/press/article/40377/#sthash.ywUH66wX.dpbs