الرصيد الإيجابي للتداخل مع الناس

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: الرصيد الإيجابي للتداخل مع الناس

ورد عن النبي أنه قال: «المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم »[1]  .

هناك قدر من التداخل بين الناس تفرضه طبيعة الحياة، إذ لا يستطيع إنسان أن يعيش في عزلة عن الناس. هناك مستويات متقدمة من التداخل، الذي يُقبل عليه الإنسان عن قصد وإرادة، ويتقاطع مع صميم اهتماماته. مع تفاوت مستوى الاهتمام بشبكة العلاقات الاجتماعية من شخص لآخر.

إثراء المشاعر الإنسانية

إنّ التداخل مع المحيط الاجتماعي أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يعود على الإنسان بدرجة عالية من الفائدة. ونتاج كبير من الإيجابيات.

ولعلّ أولها: أن التداخل مع الناس يثري المشاعر الإنسانية في نفس الإنسان، مشاعر الحبّ والودّ والتعاون والإحسان، في مقابل ذلك، تبقى هذه المشاعر في أدنى مستوياتها متى ما اختار الإنسان الاعتزال عن الناس.

تطوير المهارات والقدرات

أما الميزة الإيجابية الثانية: فهي تقوية وتطوير المهارات الاجتماعية عند الإنسان، من قبيل القدرة على التشبيك وبناء العلاقات، والتأثير في نفوس الآخرين، ومواجهة المشاكل، وإدارة الأزمات، وحسن التصرف في مختلف الظروف. إن هذه المهارات لا تتأتى من خلال التلقي النظري غالبًا، بقدر ما تتأتى عن طريق الممارسة، فكلّما تداخل الإنسان مع الناس على نحو أكبر، تبلورت عنده هذه المهارات بالتوازي.

روافد للفكر والتجربة

والايجابية الثالثة: أنّ التداخل مع الناس يمثل رافدًا حيويًّا للأفكار والمعلومات والتجارب. وكما قيل «العلم كله في العالم كله»، وأعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه، وعقولهم إلى عقله، وكلما ارتبط الإنسان بأيِّ طرف، انفتحت أمامه نافذة غنية بالتجارب.

قوة المجتمع

أمّا الإيجابية الرابعة: فهي أنّ تداخل الإنسان مع محيطه الاجتماعي يسهم في تمتين الرابطة والتماسك في المجتمع، حيث أنّ المجتمع الذي يهتم أبناؤه بالتواصل والتعاون فيما بينهم، تكون درجة التماسك، وحال التكافل، فيه أقوى وأفضل.

عرض الأفكار والآراء

والإيجابية الخامسة: أنّ التداخل الاجتماعي يشكّل فرصة ثمينة للإنسان، للتبشير بأفكاره ووجهات نظره. فإذا كان لدى أيّ شخص أو جماعة، آراء دينية، أو سياسية، أو ثقافية، وكانت هذه الجهة مهتمة بنشر هذه الأفكار والآراء في محيطها، فمن الطبيعي أن يمثل التداخل مع الناس قناة مهمة لبث تلك الأفكار، ويكون المحيط الاجتماعي أكثر إلمامًا بها. وعلى النقيض من ذلك سيلفّ الغموض صورة وأفكار أيّ جهة إذا ما اتّسمت بالانكفاء على نفسها.

نيل مرضاة الله

وأخيرًا، فإنّ التداخل مع الناس يمثل سببًا لمرضاة الله، والتقرب منه سبحانه وتعالى، ونيل الأجر والثواب.

إنّ المتأمل في النصوص الدينية، يلمس على نحو جليٍّ، أنّ فضل وثواب خدمة الناس، وحسن العلاقة بهم، يفوق بمراحل فضل تأدية العبادات المستحبة. قال أمير المؤمنين في وصيته الأخيرة للحسنين وهو يحثّهما على إصلاح ذات البين: «فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ»[2]  ، ولا يخفى أن صلاح ذات البين يدخل في صميم العمل الاجتماعي.

وورد عن رسول الله: «الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سرورًا»[3]  ، فالنبي يشير هنا بوضوح تام، إلى أن أحبّ الناس إلى الله، هم أولئك الذين ينفعون الناس، ويدخلون السرور على قلوبهم، ولم يقل أن أحبّ الناس هم أولئك الذين يؤدون الصلاة والصيام ـ بالرغم من علوّ شأن هاتين العبادتين وغيرهما ـ. وبذلك نخلص إلى أن الخدمة الاجتماعية، لها شأن وثواب عظيم عند الله سبحانه، وتعود بالفائدة على الإنسان نفسه في دنياه وآخرته.

مكاسب تشوبها سلبيات

وبقدر ما في العمل الاجتماعي، والتداخل مع الناس، من إيجابيات عظيمة، فإنه كذلك لا يخلو من السلبيات والمشاكل. ولعلّ هناك من يبرّر تنصله من الانخراط في العمل الاجتماعي بوجود تلك السلبيات والمشاكل.

ومنها عدم تفهّم بعض الناس لطبيعة دور الناشط الاجتماعي، ووجود من يسيء ويتهم ويؤذي ويعرقل طريقه، كلّ ذلك صحيح ومتوقع، ذلك أن الناس يختلفون في مستوياتهم وأمزجتهم وأفكارهم، وهناك إمكانية لصدور الخطأ، غير أنّ الحلّ لا يكمن في الابتعاد عن الناس، وإنما في التزام اليقظة، والاستعداد لمواجهة مثل هذه السلبيات، والعمل على تجاوزها، والتغلب عليها. فإنّ من يشترط لانخراطه في العمل الاجتماعي بألّا يواجه مشكلة، وألّا يتكلم عليه ولا يؤذيه أحد، فمثل هذا يبحث عن مجتمع من الملائكة؛ لأنّ ما يطلبه خلاف الطبيعة البشرية.

تحمّل الأذى في العمل الاجتماعي

من هنا فالمطلوب أن يتحمّل الناشط الاجتماعي الأذى في سبيل الله. وضمن هذا السياق نفهم الحديث الوارد عن النبي في قوله: «المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»، ذلك أن من يخالط الناس، فإن عليه أن يترقب بعض الأذى الذي يصيبه من جانبهم، وهذا أمر ملحوظ في كلّ عمل اجتماعي، سواء كان في جمعية خيرية، أو نادٍ رياضي، أو مهرجان تطوعي..، ولربما كان ذلك عائدًا إلى وجود مشاكل فعلية تعتري ذلك العمل نفسه، أو لاختلاف أمزجة الناس، وفي كلتا الحالتين على الناشط الاجتماعي أن يصبر ويتحمل. إنّ على الإنسان أن يضاعف من دوره الاجتماعي، في محيطه العام، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وأن يهيئ المنخرطون في العمل الاجتماعي أنفسهم لمواجهة السلبيات، وألّا يجعل أحدٌ من تلك السلبيات مبرّرًا للانكفاء والانعزال.

وهنا لا بُدّ أن نعرب عن تفاؤلنا إزاء انتشار الأنشطة الاجتماعية المختلفة، في محيطنا الاجتماعي؛ لأنّ وجود الجمعيات والهيئات واللجان والمهرجانات ومختلف الأنشطة المنبثقة عنها، مؤشر إيجابي على حيوية المجتمع. ولا ضير في صدور بعض الانتقادات تجاه هذه الجمعية الخيرية، أو ذلك المهرجان التطوعي، لدواعٍ مختلفة، إمّا لأخطاء تحصل، أو جرّاء مخالفات شرعية في نظر البعض، كلّ ذلك أمر وارد، لكن المخرج لا يكمن في العزوف عن تلك الأنشطة، وإنما في المزيد من التفاعل، والتوجه جديًّا نحو تجاوز وتصحيح الأخطاء.

وينبغي أن نقول هنا، أنّه بالقدر الذي لا يجوز السكوت فيه على الأخطاء، فإنه لا يجوز أيضًا التشهير والتسقيط، وعرقلة العمل الاجتماعي، بحجة وجود بعض الأخطاء، وإنما الصحيح هو تشجيع الأنشطة الاجتماعية إجمالًا، والسعي في الوقت ذاته من أجل إصلاح الأخطاء، التي يمكن أن تعتريها. وهذا جانب من معنى الصبر على الأذى، بتجاوز الأذى ومعالجة الخطأ. على هذا النحو ينبغي للإنسان المؤمن أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، بخدمة الناس والتداخل معهم.

 

الخطبة الثانية: في اليوم العالمي لمكافحة الفقر

وفي وصيته لابنه محمد بن الحنفية يقول أمير المؤمنين: «يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ»[4]  .

تشير التقارير الدولية إلى أنّ حالة الفقر في العالم بلغت حدًّا مثيرًا للقلق. حيث تفيد الإحصاءات إلى أنّ ما يتجاوز المليار ومئتي مليون من البشر يعانون الفقر المدقع، وذلك ما يناهز خُمْسَ عدد سكان العالم.

أما على مستوى المنطقة العربية، فهناك نحو 100 مليون عربي يرزحون تحت وطأة الفقر، وهو ما يعادل نحو 28 بالمئة من العرب، الذين يجدون صعوبة في الحصول على الغذاء بأسعار تناسب أوضاعهم الاقتصادية.

وتشير التقارير: إلى أن نحو 870 مليون شخص يعانون في الوقت الحالي من نقص التغذية، وهذا ما يعني بلغة الأرقام أنّ واحدًا من كل ستة أشخاص في العالم، لا يحصل على ما يكفي من الغذاء للتمتع بصحة جيّدة.

كما أنّ هناك 66 مليون طفل في الدول النامية، يحضرون إلى الفصول الدراسية وهم يتضوّرون من الجوع، ربعهم في قارة أفريقيا وحدها.

وأنّ عدد ضحايا الجوع، بات يتجاوز عدد ضحايا أمراض الإيدز والملاريا والسّل مجتمعة، فهناك نحو 35 ألف طفل يموتون يوميًّا بسبب الجوع والمرض. وهذه في مجملها أرقام مثيرة للقلق الشديد.

إنّ حالات الفقر لم تعد تقتصر على الدول النامية، بل طالت شرائح سكانية في الدول الثرية أيضًا. فهناك العديد من الدول التي حباها الله بثروات طائلة، يمكن ببساطة ملاحظة انتشار مظاهر وحالات الفقر فيها. فلا يزال كثير من المواطنين في بلداننا العربية الثرية يعانون الفقر بدرجة أو أخرى، على مستوى افتقاد التعليم والسكن والعلاج المناسب، وعلى صعيد مواجهة البطالة وافتقاد مصادر الرزق. ولعلّ في سعة الإقبال على تلقي الدعم من الجمعيات الخيرية، دليلًا محسوسًا على مستوى انتشار الفقر في مجتمعاتنا.

يوم التضامن مع ضحايا الفقر

ينبغي الإشارة إلى أن هذا اليوم الجمعة 17 اكتوبر، يصادف اليوم العالمي لمكافحة الفقر. وهو مناسبة يحتفل بها العالم، بهدف تعزيز الوعي بشأن الحاجة إلى مكافحة الفقر، والفقر المدقع في كافة البلدان. وتعود فكرة تحديد يوم لمكافحة الفقر إلى العام 1987 حين اجتمع أكثر من 100 ألف شخص في ساحة تروكاديرو في باريس، وهي ذات الساحة التي شهدت توقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اجتمعوا تضامنًا مع ضحايا الفقر والجوع عبر العالم، وقد انتقل هذا التقليد إلى بلدان أخرى، فصار الناس يجتمعون سنويًّا في الساحات العامة، بأعداد كبيرة، دعمًا لمسيرة القضاء على الفقر في العالم، ويمارسون الضغط على الحكومات، والمؤسسات الدولية، لاتخاذ إجراءات تحدّ من الفقر في المجتمعات البشرية.

هذه المبادرة التي بدأت أهلية، تحولت بعد مرور خمس سنوات، إلى مناسبة تبنتها الأمم المتحدة في عام 1992، فحدّدت يوم 17 أكتوبر يومًا عالميًّا لمكافحة الفقر. ودعت المنظمة كلّ دول العالم إلى الاحتفاء بهذا اليوم، لغرض الدفع باتجاه القضاء على الفقر في العالم.

إنّ من المفيد لمجتمعاتنا التفاعل مع مثل هذه المناسبات الدولية، عوضًا عن الاكتفاء بالاحتفاء بالمناسبات التاريخية، سيمّا وأن هذه المناسبة تلامس آلام وحاجات الناس واهتماماتهم، وتجعل مجتمعاتنا نعيش الهموم المشتركة مع بقية المجتمعات.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو عن السُّبل الكفيلة بالوقوف في وجه انتشار حالات الفقر، على مستوى العالم. ولماذا لا تزال رقعة الفقر والجوع كبيرة بالرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم؟

الفقر نتاج سياسات دولية

يمكن القول بأنّ هناك عاملًا دوليًّا يساهم في انتشار الفقر عبر العالم، يتمثل في سياسات الدول الكبرى. إن سياسات هذه الدول تُعَدّ عاملًا رئيسًا في إفقار الشعوب، وضعضعة الوضع الاقتصادي في الدول النامية، بغرض فرض الهيمنة عليها. ولعلّ أحد أبرز مظاهر الهيمنة هي سياسة التصنيع العسكري، على اعتبار أنّ تنشيط صناعة السلاح من أبرز عوامل إنعاش الاقتصاد في تلك الدول الكبرى، وكما هو معروف فإنّ مصانع السلاح لا ينتعش عملها إلّا من خلال افتعال الحروب؛ لأنّ الدول المتحاربة ستلجأ لشراء واستيراد السلاح من الدول الكبرى. وقد وجدنا كيف أن الولايات المتحدة ضخّت نحو ثلاثة مليارات دولار لمصانع السلاح، تحت شعار التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، ومن المتوقع أن تضخ الدول الحليفة لمصانع الأسلحة الأمريكية أضعاف هذا المبلغ.

إنّ إثارة التوترات والحروب، لغرض تشغيل الصناعة العسكرية، يُعَدّ ركنًا أساسًا ضمن سياسات الدول الكبرى. وقد شهدت منطقتنا الخليجية عدة حروب في العقود الأخيرة، وكما هو معلوم فإنّ هذه الحروب لا تجلب وراءها سوى الفقر، وتعويق التنمية، وتبديد ثروات الشعوب. إضافة إلى سياسات الدول الكبرى القائمة على فرض الحصار على الدول النامية، وفرض القيود على تصدير التكنولوجيا المتقدمة اليها.

السياسات الوطنية الفاشلة

كما يساهم ضعف السياسات المحلية للدول النامية، في استفحال الفقر في مفاصلها. إذ أنّ معظم السياسات التنموية التي تضعها كثير من الدول النامية، خطأ وغير جدّية، وليست مبنية على إستراتيجية صحيحة واضحة. وفي حال كانت بعض السياسات سليمة صحيحة، فإنه يفشلها سوء التطبيق من قبل أجهزة الدولة، نتيجة الفساد والإهمال، وهذا ما يفسر تبديد الميزانيات الهائلة التي ترصد للتعليم والصحة والخدمات في العديد من الدول النامية، ذلك أنّ النسبة الأكبر من تلك الميزانيات، تذهب إلى جيوب الفاسدين والمتسلطين في الأجهزة الحكومية. وقد تكشفت بعد ثورات الربيع العربي، في تونس ومصر مثلًا، خبايا استيلاء أركان السلطة على المساعدات الدولية الموجهة أساسًا لشعوبهم، ووضعها عوضًا عن ذلك في حساباتهم الخاصة، بالرغم من العوز والفاقة المنتشرة في بلدانهم.

كيف يتجاوزون حالة الفقر؟

ويتمثل ثالث العوامل المساهمة في انتشار الفقر، في ضعف التكافل الاجتماعي. إنّ التكافل الاجتماعي لا يعني فقط إعطاء المساعدة للفقراء والمحتاجين، كما قد يتبادر للأذهان، وإنما يكمن في مساعدة الفقراء على تجاوز حالة الفقر، وتأهيلهم بحيث يكونون أفرادًا منتجين، وهذه هي المنهجية السليمة التي يجب أن تعتمدها إدارات الجمعيات الخيرية الواعية، وقد أخبرني بعض المعنيين في إحدى الجمعيات الخيرية المحلية، أنّ بعض الأسر لا تزال تتلقى المساعدة من الجمعية منذ أربعين سنة من جيل الآباء إلى الأبناء!. إنّ الاكتفاء بتقديم المساعدة لا يشكل حلًّا جذريًّا لمشكلة الفقر، وإنما العمل على تحويل هؤلاء الفقراء وأبنائهم إلى أفراد منتجين، عوضًا عن أن يتوارثوا الفقر، وذلك بتشجيع أبنائهم على الدراسة، وتحصيل التدريب المهني، والمساعدة في توفير فرص الوظيفة، أو إنشاء المشاريع الاستثمارية المناسبة.

الكسل والتقاعس

كما أن لتقاعس بعض الأفراد دورًا في خضوعهم للفقر والعوز. فهناك بعض الأشخاص ممن يعيشون الفقر نتيجة تقاعسهم وكسلهم، فمثل هؤلاء ربما يتشرّطون في نوع العمل والوظيفة التي يبحثون عنها، فلا يريدون أن يتعبوا أنفسهم، ولا يسعون جدّيًّا خلف رزقهم، على النقيض من قول الله تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ، فالسعي مطلوب في كلّ الأحوال. وأن يعمل كلّ واحد بمقدار طاقته وقدرته وليس بمقدار حاجته.

يقول الإمام الصادق: «لا خير فمن لا يحبّ جمع المال من حلال»[5]  ، حتى لو لم تكن ثمة حاجة فعلية إليه. وفي رواية أخرى، عن محمد بن عذافر عن أبيه قال: أعطى أبو عبد الله أبي ألفًا وسبعمائة دينار، فقال له: اتّجر لي بها ثم قال: أما إنه ليس لي رغبة في ربحها، وإن كان الربح مرغوبًا فيه، ولكن أحببت أن يراني الله عزّ وجلّ متعرّضًا لفوائده، قال: فربحت فيها مائة دينار ثم لقيته، فقلت له: قد ربحت لك فيها مائة دينار، قال: ففرح أبو عبدالله بذلك فرحًا شديدًا، ثم قال: أثبتها لي في رأس مالي»[6]  ، فالله سبحانه يحب أن يرى عبده ساعيًا من أجل الرزق الحلال.وهكذا ينبغي أن يطمح كلّ فردٍ إلى تحقيق الغنى وصناعة الثروة. إنّ الإنسان المؤمن لا ينبغي أن يكون فقيرًا، بل المطلوب أن يسعى لتحقيق الثراء.

وفي وصيته لابنه محمد بن الحنفية يقول أمير المؤمنين: «يا بني، إنّي أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإنّ الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت»، لعلّ الإمام عليًّا وجد عزوفًا عن العمل لدى ابن الحنفية، وإقبالًا عنده على العبادة عوضًا عن العمل، ولذلك حذّره من الفقر، ودعاه إلى الاستعاذة منه، يقول صاحب الديباج الوضيء: «وإنما قال له ذلك، لأن محمدًا كان فيه نسك وصلاح وتقوى، فيكاد من هذه حاله يكون شعاره الفقر؛ لأنه شعار الصالحين»[7]  .

وقد ورد في الآداب الإسلامية الأمر بالاستعاذة بالله من الكفر ومن الفقر على حدٍّ سواء، روى الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: سمعت النبي يقول: «أعوذ بوجهك الكريم وباسمك الكريم من الكفر والفقر»[8]  .

وذلك لأنّ الفقر، في كثير من الأحيان، هو الذي يُهيئ الأرضية لعمل الشيطان، لهذا يقول الإمام: «فإن الفقر منقصة للدين»؛ لأنّ الفقير قد يدفعه فقره للانتقاص من تديّنه، باللجوء إلى طرق ملتوية، وأساليب غير مناسبة، والتخلي عن واجباته الدينية، علاوة على ما يعتريه من الاضطراب الفكري الذي يُعبّر عنه الإمام بوصف الفقر بأنه «.. مدهشة للعقل»، فلا يكون عندها الفرد فاعلًا ومنتجًا على النحو المطلوب. وفوق هذا وذاك كون الفقر «داعية للمقت» وفق توصيف الإمام فالفقير، إذا كان الفقر من اختياره، فهو ممقوت عند مجتمعه وممقوت عند الله، بخلاف من كان مجبرًا على الفقر لعاهة أو أيّ سبب خارج عن إرادته.

وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفقر، ينبغي أن نحثّ أنفسنا وأبناءنا على العمل أكثر، والاستثمار والتنمية على نحو أكبر، وأن يتعاون الناس فيما بينهم كي يكون المجتمع أكثر ثراءً وإنتاجًا.

الجمعة 23 ذو الحجة 1435ﻫ الموافق 18 أكتوبر 2014م
[1] كنز العمال، ج9، ص22، حديث 24738.
[2] نهج البلاغة رسالة 47 ومن وصية له للحسن و الحسين لما ضربه ابن ملجم.
[3] الكافي، ج2، ص164، حديث6.
[4] نهج البلاغة، حكمة 319.
[5] وسائل الشيعة، ج17، ص33.
[6] تهذيب الأحكام، ج6، ص326.
[7] يحيى بن حمزة الحسيني، الديباج الوضيء في الكشف عن أسرار كلام الوصي، ج6، الطبعة الأولى، 1424ﻫ، (صنعاء: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية)، ص2961.
[8] مجمع الزوائد، ج ١٠، ص ١٤٣.