ذوي الاحتياجات الخاصة.. سؤال الأخلاق والتنمية

مكتب الشيخ حسن الصفار

عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول: «ابغوني في ضعفائكم، فإنَّما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم»)[1]) .

لا يكاد يخلو مجتمع بشري من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة. فهناك شريحة في كلّ مجتمع، يعاني أفرادها من ضعف، أو فقد لبعض القدرات في قواهم الجسمية، أو ادراكاتهم العقلية، نتيجة الإعاقة الطارئة أو العيوب الخلقية، الأمر الذي يؤدي إلى تعويق حركتهم الطبيعية في الحياة، لذلك يوصف أفراد هذه الفئة بالمعوقين، أو ما بات يطلق عليهم في عصرنا الراهن بذوي الاحتياجات الخاصة.

وإن كان هناك من حكمة في وجود فئة ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع، فإنّما لتذكير الأسوياء الذين يمثلون الأغلبية السّاحقة، بنعم الله سبحانه التي أسبغها عليهم، فهم يتمتعون باكتمال القوى الجسمية والعقلية، فيما يرون بين ظهرانيهم من فقدوا بعض قدراتهم. لذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال: «من نظر إلى ذي عاهة، أو من قد مثل به، أو صاحب بلاء، فليقل سرًّا في نفسه من غير أن يسمعه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، ولو شاء لفعل بي ذلك»)[2]) ، يردّد ذلك الدعاء سرًّا في نفسه، حتى يتذكر نعمة الله عليه، وكي لا يشعر المعاق بالمهانة.

التحدّي والامتحان الأخلاقي

إنّ وجود فئة ذوي الاحتياجات الخاصة يمثل تحدّيًا وامتحانًا للمجتمع المحيط بهم. وذلك لجهة الكيفية التي ستتعامل بها الأسرة، كما سائر الناس، مع أفراد هذه الفئة، هل يا ترى يحسنون التصرف معهم؟ وينبغي أن يفكر المجتمع الواعي في اجتياز هذا الامتحان على أحسن وجه.

المعاقون جزء لا يتجزأ من مجتمعنا البشري، وإن ابتلوا بنقص في بعض قدراتهم، فإنّ ذلك لا يخرجهم من كونهم بشرًا كسائر الناس، وهم شركاء مع الأسوياء في حقّ الحياة، والتمتع بخيراتها، فالخيرات التي أوجدها الخالق تعالى، لم يجعلها للأسوياء فقط، وإنما هي لكلّ البشر، قال تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، أي إنّه سبحانه خلق الأرض لكافة البشر، فإذا كان الشخص المعوق غير قادر على الوصول إلى حقوقه، نتيجة عجزه الجسدي أو العقلي، فإن المجتمع مسؤول عن توفير حقوقه وتلبية احتياجاته. وإذا كان هناك من معيار لتجسيد القيم والأخلاق في المجتمع، فإنه سيكون في شكل التعامل الاجتماعي مع فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، فإذا ما أحسن المجتمع التعامل مع هذه الفئة الضعيفة، فإنه سيكون أقرب إلى القيم الإنسانية النبيلة.

لقد أولت الشريعة اهتمامًا كبيرًا بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة. وقد وردت في هذا الشأن العديد من النصوص، ومن ذلك ما ورد عن رسول الله أنه قال: «ابغوني في ضعفائكم، فإنَّما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم»، إذا شاء العباد التقرب من خالقهم عزّ وجلّ، فإن الوسيلة إلى ذلك هي الاهتمام بالضعفاء في قدراتهم، العاجزين عن إدارة حياتهم، فالمهتمون بالضعفاء، والإعاقة من أجلى صور الضعف، هؤلاء يستحقون توفيق الله ونصره لهم، وأن يفيض عليهم الخير والنعم.

هل يمكن تقليل الإعاقات؟

تشير التقارير الدولية إلى ارتفاع ملحوظ في نسب ذوي الاحتياجات الخاصة، على المستوى العالمي. ومن أسباب ذلك ارتفاع متوسط عمر البشر في العالم، والشيخوخة سبب من أسباب الإعاقة، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ، إلى جانب تصاعد نسب الأمراض المزمنة، وارتفاع أعداد الحوادث المرورية العنيفة، وكذلك جرحى الحروب وأحداث العنف، إلى جانب ضحايا الكوارث الطبيعية، وهذه بأجمعها مسببات رئيسة لتصاعد نسب المعوقين في مختلف المجتمعات البشرية. حتى إنّ بعض التقارير باتت تشير إلى وجود معاق واحد جسميًّا أو عقليًّا من بين كلّ عشرة أشخاص في العالم، بل وتذهب بعض التقارير إلى القول إنّ هناك نحو مليار إنسان معاق، من أصل سبعة مليارات نسمة، هو تعداد البشرية في عصرنا الراهن.

وحقيقة الأمر أنّ هناك إمكانية كبيرة لخفض نسب الإعاقة في العالم، فيما لو تضافرت الجهود، ووضعت الخطط. وذلك من خلال معالجة مسببات الإعاقة، ومنها الإصابة بالأمراض الوراثية، التي يمكن الحدّ منها في حال التزام إجراء الفحوص الطبية الشاملة للمقبلين على الزواج، بغرض الوقوف طبيًّا على مدى ملاءمة الراغبين في الزواج من بعضهم بعضًا، خاصة مع تقدّم علم الجينات والهندسة الوراثية.

كما أنّ تقديم الرعاية الطبية للنساء الحوامل، وتوفرها أثناء الولادة، إلى جانب رعاية المواليد في سنّ مبكرة، كلّ ذلك يوفّر على البشرية الكثير من حالات الإعاقة؛ لأنّ بعض حالات الإعاقة تنشأ نتيجة قصور الرعاية أثناء الحمل، أو خلال الولادة، أو إهمال رعاية المواليد الجدد. لذلك غالبًا ما تقلّ نسب الإعاقة في الدول المتقدمة التي تتميّز بتقديم الرعاية الطبية الملائمة للنساء الحوامل والأطفال، فيما تتضاعف الإصابة في الدول النامية، التي تحتضن ما يزيد على 80 بالمئة من المعاقين في العالم، البالغ عددهم مليار معاق، فيما لا تتجاوز نسبة المعاقين سقف الـ 20 بالمئة في الدول المتقدمة، والسبب وراء ذلك هو اهتمام الدول المتقدمة بمعالجة أسباب الإعاقة بين سكانها، من خلال الرعاية الطبية الجيدة، وتشديد أنظمة المرور للحدّ من نسب الحوادث المرورية العنيفة، إلى جانب الاستعداد الجيد لمواجهة الكوارث الطبيعية، وجميع هذه العوامل تساهم دون شك في خفض نسب الإعاقة إلى الحدّ الأدنى.

مسؤولية الأسرة والمجتمع

وبمناسبة اليوم العالمي للمعاقين (الثالث من ديسمبر)، الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1982، لا بُدّ من الإشارة إلى مسؤولية الأسرة والمجتمع تجاه شريحة المعوقين. حيث تشير الإحصاءات على المستوى المحلي إلى أرقام مذهلة، حول وجود ما يربو على المليون ونصف المليون معاق في المملكة. وهذا ما يلقي على كاهل الجميع مسؤولية أكبر تجاه الاهتمام بأفراد هذه الفئة، بدءًا من الأسرة التي تحتضن المعاق، والتي عليها تعزيز حالة الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم لأمره سبحانه، إلى جانب اعتبار ذلك امتحانًا لا بُدّ من اجتيازه والنجاح فيه وذلك عبر الأمور التالية:

الأمر الأول:

من الخطأ البالغ إصابة الأسرة بحالة من الضجر والتذمّر عند ولادة طفل معاق لها، والحال أن ذلك مورد جليّ من موارد الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، والذي لا يكتمل إلّا من خلال تطبيع العلاقة مع الفرد المعاق في الأسرة.

الأمر الثاني:

من الواجب النأي التام عن ممارسة القسوة والتشنج، وإيقاع العقاب على الشخص المعاق عقليًّا أو جسميًّا، وإنما المطلوب تقدير الوضع الخاص وغير الطبيعي لأفراد هذه الفئة، لجهة الحالة النفسية، وارتباك المشاعر، والتصرف غير السّوي، قال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ، والمعاق في حقيقة الأمر هو شخص مريض، وذلك ما يفرض على أفراد الأسرة أن يضاعفوا الاهتمام به، وهو لم يختر الإصابة بالإعاقة من تلقاء نفسه، فلا ينبغي القسوة عليه أو إيذاؤه، فذلك حرام شرعًا، بل هو من أشدّ الحرام؛ لأنّ ظلم أفراد هذه الفئة مصداق من مصاديق «ظلم من لا يجد عليك ناصرًا إلّا الله»)[3]) . «ظُلْمُ اَلضَّعِيفِ أَفْحَشُ اَلظُّلْمِ» كما ورد في نهج البلاغة)[4]) .

الأمر الثالث:

وهو أمرٌ ينبغي الالتفات إليه داخل الأسرة وخارجها إزاء فئة المعاقين، وهو ضرورة تشجيع الشخص المعاق، ورفع معنوياته، ومنحه الفرصة لتفجير طاقاته. وذلك بخلاف ما كان سائدًا في أزمان ماضية، عندما كان يُعاب الشخص المعاق، ويتحول إلى مادة للسخرية، والتعرض للتوبيخ والإهانة.

الأمر الرابع:

ضرورة تأهيل المعاقين في المراكز المتخصصة. لكي يتسنّى لأفراد هذه الفئة فرصة النمو والتطور، سيّما وأن هناك في وقتنا الراهن برامج لتأهيل المعاقين، وإكسابهم المهارات الحياتية المختلفة، وتحسين قدراتهم، وقد كشفت التجارب عن مدى فاعلية مراكز التأهيل على هذا الصّعيد. من هنا ينبغي للأسر التي تحتضن أشخاصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، أن تلحقهم بهذه المراكز التخصصية، كما ينبغي للجهات الرسمية والمجتمع أن يولوا اهتمامًا أكبر لإنشاء مثل هذه المراكز ودعمها، فهي حاجة ملحّة، وضرورة إنسانية.

الأمر الخامس:

ضرورة الالتفات إلى أنّ الإعانات المادية المخصصة للمعاقين، هي حقّ لهم وحدهم، ولا ينبغي للأسرة أن تتصرف فيها إلّا لمصلحة المعاق نفسه. إنّ من الخطأ أن تعمد بعض الأسر إلى استغلال الإعانة الرسمية المخصصة للفرد المعاق في صرفها على شؤون الأسرة الأخرى، بما في ذلك اعتبارها مصاريف زائدة يمكن استغلالها في السفر للحج أو العمرة، أو ما أشبه ذلك. هذه المبالغ مخصصة للصرف على المعاق حصرًا، ولا يجوز شرعًا صرفها إلا في مصلحته فقط، فإذا ما صرفت الأسرة من هذه المعونة على أيِّ شأنٍ أسريّ آخر، فإنها تكون ضامنة لهذا المبلغ، كالدّين في ذمّتهم والمتوجب عليهم أداءه للمعاق.

وأخيرًا، ينبغي أن تولي الشركات والمؤسسات الوطنية اهتمامًا أكبر لفئة ذوي الاحتياجات الخاصة. وذلك من خلال استقطابهم وتدريبهم وتوظيفهم على الوظائف المناسبة لهم، سيّما وأن كثيرًا من المعوقين يستطيعون أداء كثيرٍ من الأعمال الإدارية والمكتبية. وتشجيعًا على هذا الأمر حرصت وزارة العمل على اعتبار توظيف الشخص المعاق موازيًا لتوظيف أربعة مواطنين، ضمن احتساب نسب السعودة المتوجب تحقيقها وفقًا لقانون العمل. وهذا ما ينبغي أن يدفع المؤسّسات الوطنية إلى الاهتمام على نحو أكبر بتوظيف فئة المعوقين، وإتاحة فرص العمل الحقيقية لهم، وليس على سبيل التوظيف الوهمي، كما هو حاصل في بعض المؤسسات للأسف، خاصّة وأن التوجه العالمي يسير باتجاه دمج الأشخاص المعوقين بالمجتمع، على النقيض مما يتوهّم البعض من أنّ ابقاء الشخص المعاق في منزله هو أكثر راحة له، وليت هؤلاء يعلمون أنّ الراحة النفسية للمعاق، إنما تكمن في إشعار المجتمع له بأنّ له قيمة، وأنّ له دورًا، يمكن أن يقوم به كسائر الناس.

 

 

 

الخطبة الثانية: العمل الأهلي.. نحو تطوير الوعي والتشريعات

ورد عن رسول الله أنه قال: «الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله»)[5]) .

ليس هناك عمل يجعل المرء أقرب من الله، وأكثر محبة عنده، يضاهي خدمة الناس. فأن ينخرط الإنسان في مجال العمل التطوعي لخدمة الآخرين، فذلك وفقًا للنصوص الدينية أفضل عمل يمكن أن يقربه إلى الله ويجعله محبوبًا عنده سبحانه وتعالى. فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله»، وورد عنه أنه قال: «أحبّ عباد الله إلى الله جلّ جلاله أنفعهم لعباده»)[6]) ، وقال رجل لرسول الله: أحبّ أن أكون خير الناس، فقال: «خير الناس من ينفع الناس فكن نافعًا لهم»)[7]) ، كما روي عن أمير المؤمنين أنه قال: «خير الناس من تحمّل مؤونة الناس»)[8]) ، إنّ جميع النصوص السابقة تؤكّد حقيقة واحدة، وهي أنّ من أفضل الصفات والقربات هي خدمة الناس، والانخراط فيما بات يعرف اليوم بمجال العمل التطوعي.

كلّ البشر عيال الله

وينطوي التوصيف النبوي للناس بأنهم عيال الله على مضامين عميقة. إنّ الحديث يشير على نحو قاطع بأنّ جميع الخلق هم عيال الله، وكما أنه لا يكاد يوجد باعث وجداني على الفرح أكثر من أن يجد الإنسان الآخرين يحسنون إلى عائلته والمقربين منه، احترامًا وتقديرًا لشخصيته، فكذلك الحال مع الخالق سبحانه وتعالى، فليس أحبّ عنده عزّ وجلّ من أن يرى من يحب ويخدم عباده، الذين هم عياله وفقًا للحديث الشريف.

تجسيد القيم الفاضلة

وتمثل خدمة الناس تطوعيًّا تجسيدًا للقيم الفاضلة، حيث تتجلّى في العمل التطوعي قيم الرحمة والإحسان والإصلاح والعدل. وتحمل خدمة الناس تطوعيًّا دلالات عميقة على طهارة القلب، وطيب النفس، وتجاوز الإنسان للأنانية الضيقة، والشحّ والأضغان والأحقاد، فليس هناك من طريق أوسع لخدمة الناس من تجاوز الشحّ النفسي والأنانية، وقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

وإذا كانت غاية المؤمنين المتديّنين نيل رضا الخالق تعالى، فإنّ السبيل إلى ذلك أن يتحول مجتمعهم ساحة للتنافس في العمل التطوعي والخدمة الاجتماعية. بأن ينزل الجميع إلى مضمار المنافسة والتسابق نحو خدمة الناس.

وعلى النقيض من ذلك، إذا ما وجدنا أنّ اللجان الأهلية والجمعيات الخيرية تستجدي أبناء المجتمع للاشتراك في عضويتها، وتتمنى عليهم الترشح للقيام بأعبائها، وترجوهم الحضور والمشاركة في لقاءاتها وجمعيتها العمومية، فلا معنى لذلك سوى أنّ هذا المجتمع يعاني الفقر في ثقافته الدينية والإنسانية على حدٍّ سواء، وهي التي يجب أن تحرك سلوكه ومشاعره، هذا هو لبّ المشكلة.

مجتمعاتنا ومحدودية النشاط التطوعي

ومع كلّ التقدير للأنشطة الاجتماعية القائمة في مجتمعاتنا، إلا أنّها تعدّ قليلة قياسًا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال. سيما ونحن نتحدث عن مجتمعات متديّنة، تعجّ نصوصها الدينية بالمضامين التي تعتبر مساعدة الناس من أفضل القربات، مما لا يتناسب بأيِّ حال مع ضعف الأنشطة القائمة على الأرض، كما لا يقارن بالإقبال الكبير على الأعمال التطوعية في المجتمعات الأخرى، تلك المجتمعات التي تصنفها أوساطنا بأنها مجتمعات مادية.

ويبدو الإقبال على الأعمال التطوعية شديد الضعف قياسًا على حجم الحاجات في مجتمعاتنا، التي لا تزال تفتقر إلى البنى المجتمعية، ويلزمها تغطية كثيرٍ من الحاجات، وهذا يعني الحاجة ليس إلى المئات بل إلى الآلاف من الجمعيات واللجان والمؤسسات الأهلية التطوعية. وبمناسبة اليوم العالمي للتطوع الذي أقرته الأمم المتحدة في الخامس من ديسمبر من كلّ عام، ندعو أنفسنا ومجتمعاتنا إلى الارتقاء إلى مستوى أفضل في مجال العمل التطوعي، والإقبال على الأعمال الاجتماعية الخيرية.

تشريعات مساعدة للعمل الأهلي

لقد تحول العمل التطوعي في عصرنا الراهن إلى عمل مؤسسي وجماعي أكثر من كونه عملًا فرديًّا. ذلك أن العمل الجماعي أكثر جدوى وتأثيرًا، من خلال انضمام الفرد للعمل في جمعية تطوعية، أو يقوم بتأسيس جمعية تطوعية للخدمة في أيّ شأنٍ من الشؤون الاجتماعية.

ولا بُدّ من الإقرار بأنّ العمل الأهلي التطوعي في مجتمعاتنا لا يزال يخضع لقيود رسمية صارمة. في غياب التشريعات المشجعة على العمل التطوعي، التي تفسح المجال واسعًا أمام العمل الأهلي، والسماح بإنشاء منظمات المجتمع المدني. فلم يعد مقبولًا تعليق طلبات إنشاء الجمعيات الخيرية في بعض البلدات والقرى لمجرد كونها قرى صغيرة، وما الضّير في أن تفتتح الجمعيات في البلدات والقرى الصغيرة، ولماذا تلحق بقرى أخرى، أوليس وجود جمعية خاصة بكلّ قرية يمثل فرصة لتفجير طاقات أبناء البلدة ومشاركة كفاءات المنطقة في معالجة أوضاعها؟.

ينبغي فتح المجال أمام انطلاق منظمات المجتمع المدني على كلّ الصُّعد، وفي مختلف المجالات؛ الخيرية والفنون والثقافة والبيئة والمعرفة وغيرها.

إنّ الجمعيات والمؤسسات الأهلية في المملكة، لا تزال عند حدودها الدنيا، قياسًا على البلاد الأخرى الأصغر منها مساحة، والأقلّ سكانًا. فبحسب موقع وزارة الشؤون الاجتماعية على الإنترنت، يوجد في المملكة نحو 650 جمعية خيرية، و120 مؤسسة خيرية، منها 40 جمعية نسائية، ولنا أن نتخيّل أن هذه الكيانات التي لا يكاد يصل مجموعها إلى 1000 كيان، منوط بها خدمة 29 مليون نسمة هم إجمالي السكان. في حين نجد في العاصمة اللبنانية بيروت وحدها ما يربو على 853 جمعية، أي ما يتجاوز عدد الجمعيات العاملة في أراضي المملكة برمّتها، مع أن سكان مدينة بيروت لا يكاد يتجاوز 400 ألف نسمة، ناهيك عن وجود أكثر من 2000 جمعية هي إجمالي عدد الجمعيات الخيرية العاملة في لبنان. وكذلك الحال في الأردن الذي يتراوح سكانه بين الستة إلى سبعة ملايين نسمة، نجد فيه أكثر من 1339 جمعية أهلية عاملة. من هنا تنبع الحاجة إلى تشريعات تتيح مرونة أكبر حيال إنشاء منظمات المجتمع المدني، وإتاحة الفرصة على نحو أوسع لعمل الجمعيات الأهلية في البلاد.

إنّ قيام منظمات المجتمعات المدني يُعدّ عاملًا حيويًّا لأمن واستقرار المجتمع. وذلك بالنظر إلى تلهف الشباب لقيام كيانات يعبرون من خلالها عن أنفسهم، ويفجّرون فيها طاقاتهم، ويصرفون عبرها فائض الوقت والجهد الذي عندهم، ولا شك بأنّ قيام مؤسسات المجتمع المدني سيكون أحد أبرز المجالات التي تستوعب كل ذلك، فيتحول الشباب عندها إلى قوى منتجة مفيدة، عوضًا عن أن يكونوا قوة تخريبية لأمن المجتمع. من هنا يكون تسهيل قيام الجمعيات التطوعية في أيِّ مجال من المجالات، تحت سقف القانون، عنصرًا بالغ الفائدة لأمن واستقرار البلاد.

ثقافة العمل التطوعي

غير أنّ مجتمعاتنا لا تزال في حاجة ماسة لثقافة العمل التطوعي. فقياسًا على الثقافة المحفزة على البرامج العبادية والشعائرية، لا تحظى المجالات الاجتماعية الإنسانية بذات القدر من الاهتمام، والحال أنه ينبغي الموازنة بين الجانبين، وعدم إغفال جانب لصالح آخر.

إذ من غير المفهوم مثلًا أن يتخطي الكثيرون العقبات الرسمية من أجل أداء فريضة الحج المستحبة مرارًا وتكرارًا، في حين تستجديهم الجمعيات الخيرية من أجل مدّ يد العون، وبالكاد تلقى الاستجابة المتواضعة. فإذا كان أداء الحج المستحب طمعًا في رضا الله، فإنّ رضا الله يتحقق في خدمة الناس، من خلال الجمعية الخيرية، أو النادي الرياضي، أو سائر المؤسسات التطوعية، وما يدريك لعلّ الثواب في العمل الخيري التطوعي يفوق بمراحل ثواب الحج والزيارة، والمجالس الدينية، بل وسائر الأعمال المستحبة.

ولا نقول ذلك من باب التقليل من شأن الأعمال العبادية، فوجود مختلف الأنشطة الدينية أمر مطلوب، لما توفره من الزخم الروحي المعنوي لأبناء المجتمع، لكن ينبغي في الوقت نفسه ألّا يجري إغفال الخدمة الاجتماعية.

هناك نصوص دينية كثيرة تذهب إلى ترجيح كفة الأعمال الاجتماعية على حساب الأعمال العبادية. بل ويذهب بعضها إلى حدِّ اعتبار إسداء خدمة اجتماعية تسدّ رمق إنسان وتلبّي حاجته لهي أعظم ثوابًا من ألف حجة إلى بيت الله الحرام. وقد روي في هذا الصّدد عن رسول الله أنه قال: «أحبّ الناس إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم للناس، وأحبّ الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحبّ إليّ من اعتكاف في هذا المسجد شهرًا»)[9]) ، وبعملية حسابية بسيطة يشير إلى أنّ السعي في حاجة مؤمن واحد فقط، هي أحبّ وأفضل من الاعتكاف على العبادة في المسجد النبوي نفسه شهرًا كاملًا، مع ما في ذلك من عظيم الثواب. نحن في أمس الحاجة إلى ضخّ المزيد من الثقافة المحفّزة على العمل التطوعي.

أخلاقيات العمل الجمعي

وختامًا، لا بُدّ من الإشارة إلى ملاحظتين مهمتين تتعلّقان بمجال العمل التطوعي:

الملاحظة الأولى: على العاملين في هذا المجال التحلّي بروح الانسجام في عملهم، من خلال تجاوز الخلافات والانقسامات، سيما وأن من فوائد العمل التطوعي هو تقوية الروابط، وأن يتعلم الناس كيف يتعاملون مع بعضهم بعضًا. إنّ الخلافات التي قد تنشب أحيانًا بين بعض العاملين في الجمعيات الخيرية، أو الأندية الرياضية، أو اللجان الأهلية، غالبًا ما تكشف عن ضعف في أخلاقيات العمل الجمعي. وذلك ما ينبغي أن يتم تجاوزه بأن يجعل الجميع الاختلاف فيما بينهم اختلافًا منضبطًا، فإذا ما أراد أحد أن يستقيل من المؤسسة الأهلية التي يعمل بها مثلًا، فليس هناك من داعٍ لأن يسيء إلى زملائه، ويحول الاستقالة إلى أزمة ومناسبة لتقاذف التهم مع الآخرين، وإنما المطلوب اتباع قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.

الملاحظة الثانية: ضرورة أن يكتسب العاملون في مجال العمل التطوعي المناعة ضدّ تشويه السمعة. إذ من المؤسف أنه مع حاجة مجتمعنا الماسّة لجميع الطاقات العاملة في الشأن العام، إلا أنّ هنالك صنفًا من الناس ممن لا شغل لهم سوى تناول العاملين في الخدمة والشأن العام في أحاديثهم، من خلال النيل من هذا والكتابة ضدّ ذاك، فعوضًا عن المساهمة في العمل، تجدهم يتخصّصون في التجريح في العاملين في الشأن العام، سواء السياسي، أو الاجتماعي، أو الديني والثقافي.

وحتى لا يلتبس الأمر، نحن لا نقصد الوقوف في وجه النّقد البناء الإيجابي الذي ينبغي أن يشقّ طريقه على شتّى الصُّعد، وإنما نحن بإزاء صنف من الأشخاص ينبشون في نيّات الناس فيشككون فيها، فمن السهولة عندهم بمكان رمي شخص عامل بتهمة حبّ البروز على سبيل المثال، وما يدري هؤلاء بما في قلوب الناس، وهذا ما يذكرنا بقول النبي: «أفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتّى تَعْلَمَ»)[10]) . وماذا عنك أنت يا صاحب الاتّهام، هل تجد نفسك في قمة الإخلاص عندما تنال من الآخرين، وتشوّه سمعتهم، عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي؟، أم هي النزعة المغالية في الإساءة للناس؟

على العاملين في المجال التطوعي أن يتّسموا بالمناعة تجاه هذه الحالة، وألّا يتأثروا ولا ينزعجوا، فمن يريد العمل في الشأن العام فإنّ عليه أن يستعد لدفع هذه الضريبة، فلن يُسكت عنهم أبدًا، هناك دائمًا المادح والقادح، وهناك المتربصون والحسّاد وكارهوا النجاح، الذين يغيظهم أن يجدوا الناجحين أمامهم.

ولنتذكر دائمًا قول المفكر الأمريكي ألبرت هوبارد: «لكي تتجنب النّقد، لا تعمل شيئًا، ولا تقل شيئًا، ولا تكن شيئًا»، وبمعنى آخر، من لا يريد أن يطاله النقد فليبق شيئًا مركونًا مهملًا بلا أيِّ دور، حينها لن يطاله النقد. غير أن الإنسان مطالب أمام خالقه ودينه ووعيه بأن يتحمل المسؤولية تجاه المجتمع.

خطبتي الجمعة13 صفر 1436هـ الموافق 6 ديسمبر 2014م
[1] سنن الترمذي، الترمذي، ج٢، ص564، حديث1702.
[2] بحار الأنوار، ج٩٠، ص٢١٧، حديث2.
[3] الكافي، ج٢، ص٣٣١، حديث5.
[4] نهج البلاغة، خطبة 31.
[5] الكافي، ج٢، ص١٦٤، حديث 6.
[6] بحار الأنوار، ج٧٤، ص١٥٢، حديث 110.
[7] كنز العمال، ج١٦، ص١٢٨، حديث 44154.
[8] علي بن محمد الليثی الواسطی، عيون الحكم والمواعظ، ج1، ص239.
[9] مجمع الزوائد، الهيثمي، ج٨، ص١٩١.
[10] صحيح مسلم، كِتَاب الإِيمَانِ، حديث 158.