الخطبة الثانية: استقلالية الرأي والتعايش الاجتماعي

أخلاق الرسول بين التأسي والانبهار

مكتب الشيخ حسن الصفار

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ  [سورة القلم، الآية:4].

ثمة تركيز إلهيٌّ لافت للنظر حول جانب محدّد من عظمة النبي الأكرم وهو الجانب المتمثل في الأخلاق العظيمة التي تخلّق بها. فمما لا شك فيه أنّ رسول الله كان عظيمًا في كّل جوانب الخير والكمال، فهو عظيم في عبادته ونسكه، وفي مكانته عند الله، كما في إنجازه التاريخي، غير أنه في مقام الإطراء والتقدير للنبي لم يركز سبحانه تعالى على شيء من تلك الجوانب، بقدر ما ركز من بين كلّ جوانب العظمة عنده على جانب محدّد، وأولاه الأهمية القصوى، ألا وهو عظمته في جانب الأخلاق، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. وهنا يأتي السؤال عن مغزى الإشادة الإلهية بالجانب الأخلاقي عند نبيّه على وجه التحديد؟

الأخلاق أولًا

أولًا: يبدو أنه تعالى أراد من الإشادة بأخلاق نبيّه لفت النظر إلى أهمية العظمة في هذا المجال. وأنّ العظمة مهما بلغ شأوها في سائر المجالات، لا تداني فضل وأهمية العظمة في مجال الأخلاق. فلو أنّ إنسانًا كان عظيمًا في علمه ومعرفته، لكنه في الوقت ذاته كان سيئًا في أخلاقه، فإنّ تميّزه العلمي لا يعوّض بأيِّ حالٍ عن سوء أخلاقه، وكذلك الحال مع من يكون عظيمًا في عبادته ونسكه، إلّا أنه سيئ الخلق، عندها لا يكون لهذه العبادة أية قيمة تذكر.

وبذلك تغدو العظمة في مجال الأخلاق، هي الأهمّ من بين سائر المجالات الأخرى، وإذا كان هناك من هو جامع للعظمة في أكثر من مجال، فإنّ عظمته في مجال الأخلاق هي الأولى بالاهتمام والتركيز. لذلك ركّز الله سبحانه وتعالى على عظمة نبيّه في هذا المجال، حتى إنّه لخّص أهداف بعثته، وجوهر رسالته، في إتمام مكارم الأخلاق، في قوله: «إنَّما بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ» [1] .

إنّ النصوص الدينية تشير بوضوح إلى أنه لا قيمة للعظمة في سائر الجوانب، في ظلّ تدنّي أخلاق المرء. فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «ما يُوضَعُ في مِيزانِ امرئٍ يَومَ القِيامَةِ أفضَلُ مِن حُسنِ الخُلقِ»[2]  ، إنّ الصلاة والصيام وسائر أشكال العبادة، لا تعدل بمجموعها خصلة هي حسن الخلق، فلا شيء على الإطلاق أفضل من الأخلاق الحسنة. وقال أمير المؤمنين عليّ بن طالب: «رُبَّ عَزيزٍ أذَلَّهُ خُلْقُهُ»[3]  ، إنّ الإنسان قد يمتلك مقوّمات العزّة والعظمة، لولا أنّ أخلاقه السيئة تجعل منه ذليلًا وغير محترم ولا محبوبًا بين الناس. كما روي عن الإمام الحسن بن عليّ أنه قال: «إنَّ أَحسَنَ الحَسَنِ الخُلُقُ الحَسَنِ»[4]  ، فالتفوّق والتميّز في هذا المجال هو الأولى من التميّز في سائر المجالات الأخرى.

الاقتداء بالأخلاق النبوية

ثانيًا: توجيه الأمة إلى دراسة أخلاق نبيّها، والاقتداء بها. وقد جاء في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. إنّ على الأمة أن تولي المجال الأخلاقي في سيرة نبيّها الأكرم، وأئمتها الأطهار، الاهتمام الأكبر، لا لغرض التبجيل والانبهار فحسب، ذلك أنّ كثيرًا من المسلمين درجوا على إبداء الإعجاب والانبهار، كلما ذكرت فضيلة أو مكرمة أو موقف أخلاقي لرسول الله، وليس هذا هو المطلوب، بل المطلوب أولًا وأخيرًا الاقتداء بالنبي، والتأسّي بأخلاقه، بخلاف ما هو سائد عند بعض الأوساط التي ترى في أخلاق النبي مُثلًا عليا لا يمكن بلوغها، والجواب على هؤلاء؛ أوَلم يبعث الرسول لكي يقتديَ به الناس!.

إنه ينبغي لكلّ فردٍ في الأمة أن يتأسّى بأخلاق رسول الله، خاصة أولئك الذين يتبوؤون مواقع القيادة والتأثير، من الحكّام، والعلماء، والقادة الاجتماعيين والإداريين.

لقد تناولت كتب التاريخ والسيرة النبوية سيلًا من المرويات والمواقف حول عظمة أخلاق النبي الأكرم. ومن تلك النماذج، ما رواه ابن مسعود عن رسول الله أنه قال: «اللّهمّ كما حسَّنتَ خَلْقي فحسِّنْ خُلْقي»[5]  ، فبالقدر الذي يهتم فيه الإنسان بجماله وأناقة مظهره، عليه أن يهتمّ بجمال أخلاقه وأناقة جوهره المعنوي.

وعن أنس أنه قال: «خدمت رسول الله عشر سنين، وفي لفظ: إحدى عشرة سنة، وأنا ابن ثمان سنين، في السفر والحضر، والله ما قال لي: أفّ قطّ، ولا لشيء صنعته لـِمَ صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لـِمَ لـَمْ تصنع هذا هكذا؟ ولا لشيءٍ صنعته: أسأت صنعته، أو لبئس ما صنعت، ولا عاب عليّ شيئًا قطّ، ولا أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيّعته فلامني، ولا لامني أحدٌ من أهله إلّا قال دعوه، فلو قُدِّرَ أو قال قضي أن يكون كان»[6]  ، وهذا ما يظهر إلى أيِّ حدٍّ بلغت أخلاقه وسجاياه بحيث لم يظهر التبرم ولا التأفّف من خادمه ولو لمرة واحدة طيلة عشر سنين، كما لم يكن معاتبًا ولا لوّامًا!، وفي ذلك رسالة لنا حول كيفية تعاملنا مع السّائقين والخدم العاملين في منازلنا.

ومما رُوي في عظمة أخلاقه ما رواه أبو داوود عن أنس أنه قال: «مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأَسَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ» [7] ، أي إنّه لم يعرض قطّ، ولم ينح رأسه عن أحدٍ جاء يحدثه في أذنه سرًّا، حتى يكمل محدثه قول ما يريد، ولم يترك يد أحد جاء يصحبه أو يسلم عليه، حتى يبادر الآخر لنزع يده من يد النبي.

مدرسة في التربية

ومما روي في عظمة أخلاق النبي الأكرم ما جاء في رواية لأحد الأصحاب أنه قال: «بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَاهُ، مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ قَالَ: فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُسْكِتُونَنِي، قُلْتُ: مَا لَكُمْ تُسْكِتُونَنِي؟ لَكِنِّي سَكَتُّ، قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي، وَلَا كَهَرَنِي، وَلَا سَبَّنِي، وَلَكِنْ قَالَ: «إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ»[8]  .

وعن أنس قال: «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَصَافَحَهُ لا يَنْزَعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزَعُ، وَلا يَصْرِفُ وَجْهَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ»[9]  . وروي عن أنس أيضًا أنه قال: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ»[10]  .

لقد كان رسول يجيب دعوة العبد، ويعود المريض. وروى مسلم، قال الأصحاب بعد أن اشتدّ أذى المشركين على رسول الله: «يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»»[11]  . وعن أنس: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا فَقَدَ الرَّجُلَ مِنْ إِخْوَانِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا دَعَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ شَاهِدًا زَارَهُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَادَهُ»[12]  . وهكذا تمتلئ كتب التاريخ والسيرة بتراث كبير ونماذج مفصّلة عن عظمة أخلاقه.

على الأمّة أن تستقي من المعين الأخلاقي العظيم لنبيّها. وذلك لأهمية التحلي بالأخلاق الكريمة، التي لا قيمة للإنسان بدونها، مهما كانت لديه من مقوّمات القوة، فكلّ المقومات لا تعوّض الإنسان عن الاهتمام بحسن الخلق، ورقي التعامل مع الآخرين. والحقيقة الأخرى، هي أنّ هذه الأخلاق العظيمة الواردة في سيرته لا ينبغي أن تذكر لمجرّد الانبهار والتمجيد وحسب، وإنّما ينبغي أن تكون محورًا للتأسّي والاقتداء.

 

الخطبة الثانية: استقلالية الرأي والتعايش الاجتماعي

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سورة سبأ، الآية:46].

تدفع الطبيعة الاجتماعية للإنسان نحو التكيف والتوافق ضمن المحيط الاجتماعي الذي يتواجد فيه، إنْ على مستوى الفكر أو الموقف أو السلوك. وتزداد حالة التكيف الفردي مع المجتمع إلحاحًا وعلى نحو أكبر ضمن المجتمعات التقليدية، حيث يميل الفرد إلى تقبّل الأفكار السّائدة، ويتخذ ذات المواقف الاجتماعية المقررة، مقابل أيّ طرف وإزاء أيّ حدث أو قضية، كما ويمارس نفس السلوك المألوف، متقيّدًا بالأعراف والتقاليد الاجتماعية الصارمة.

دوافع التكيّف الاجتماعي

من هنا يأتي السؤال عن مغزى الرغبة الفردية في التكيّف مع المجتمع؟

والجواب عن ذلك:

الدافع الأول: أنّ التكيّف الاجتماعي معزّز أساس للشعور بالانتماء للمجتمع. ذلك أنّ توافق الفرد مع محيطه المجتمعي، وتطابق آرائه في الوسط الذي يتواجد فيه، يشعره بأنه جزء من هذا المجموع، كما يشعره باحتضان المجتمع له، فيكون بذلك جزءًا من مجتمعه غير منفصل عنه.

الدافع الثاني: توفير عناء التفكير وتقليب الآراء، سيّما وأنّ أغلب الناس يتّسمون بالكسل، فلا يميلون إلى تشغيل عقولهم، وإعمال أذهانهم، حيث قد يتطلّب ذلك جهدًا فكريًّا وبحثًا عميقًا، وهربًا من ذلك ينزع الغالبية نحو تبنّي الرأي السائد في المجتمع، والأخذ به جاهزًا معلّبًا. وهذا ما يذكّرنا بالقصة التراثية التي رأى فيها أعرابي جماعة من الناس يضربون شخصًا، فدخل بينهم وصار يضرب الرجل أيضًا، بل كان أشدّهم عليه، وبعد أن فرغ سُئل عن سبب ضربه الرجل، فقال: رأيت الناس يفعلون ذلك ففعلت، ولا بُدّ أنّ هناك سببًا لا أعرفه دفعهم لضربه. وهكذا ينأى الناس في الأغلب عن البحث والتدقيق في مختلف المسائل، فيكتفون بتلقّف الرأي السّائد في المجتمع.

الدافع الثالث: الرغبة في تجنّب الصّدام والتنافر مع المحيط الاجتماعي. فعلى خلاف المجتمعات الحديثة التي تسود فها حرية التعبير عن الرأي، والتي تكون فيها حالة التنافر نتيجة اختلاف الرأي أقلّ حدّة، تنزع المجتمعات التقليدية نحو الصّدام، وفرض الحصار والعزلة، على كلّ من يتبنّى رأيًا مغايرًا لرأي المجتمع، وهذا ما لا يودّ الأفراد في هذه المجتمعات أن يتعرضوا إليه، ونتيجة لذلك تجدهم أكثر ميلًا للتوافق مع المجتمع على طريقة «حشر مع الناس عيد»، فهم مع الموقف السّائد والرأي الغالب.

وظيفة التفكير

إنّ على الإنسان أن يُعمل فكره، وأن يفحص الأفكار والمواقف والسّلوكيات السّائدة في مجتمعه، لمعرفة ما إذا كانت صحيحة وموافقة للحقّ والخير، أوليس هناك إمكانية لأن تكون تلك السلوكيات غير سليمة، والمواقف باطلة، والآراء خاطئة، أوَليس ذلك كلّه أمرًا واردًا ولا ينفيه أحد؟. من هنا، يبقى الاختيار عائدًا للإنسان وحده، في أن يستسلم ويخضع لكلّ ما هو سائد في مجتمعه، أو أن يُعمل فكره ويتخذ هو الرأي الذي يراه صائبًا على ضوء عقله، وهدي فطرته، وعلى أساس المبادئ التي يؤمن بها!

على الإنسان أن ينأى بنفسه عن التبعية والانقياد للآخرين في مواقفه، إزاء القضايا المصيرية خاصة. سيّما تلك القضايا التي تترتب عليها آثار كبيرة في الدنيا، ويسأل المرء عنها ويحاسب عليها في الآخرة. فلا يصحّ للإنسان أن يكون في القضايا المصيرية منقادًا للآخرين، على غرار ما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[سورة الزخرف، الآية: 23]، أو الآية الكريمة ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [سورة المدثر، الآية: 45]. إنّ هذا النوع من التبعية العمياء مرفوض قطعًا، وإنما ينبغي للإنسان أن يُفكّر في مختلف القضايا بمعزل عن الأجواء الاجتماعية السّائدة.

إنّ الله سبحانه وتعالى دعا الناس على لسان نبيه إلى التفكير المستقل، بعيدًا عن المؤثرات الاجتماعية الضاغطة. فقد جاء النبي برسالة من الله، فانبرى الرأي الاجتماعي الغالب لمخالفة الرسالة، فكانوا يتّهمونه بالسّحر والجنون والكذب وسائر التهم الجائرة، فرأى غالب الناس أنفسهم خانعين مستسلمين للسلبية الاجتماعية السائدة، فأوحى الله تعالى لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، أي إنّه شرع في وعظهم، والمعلوم أنّ أسلوب الموعظة يرافقه الحنو والرأفة، وعظهم بالإنفراد بأنفسهم، أو ليتحاور كلّ اثنين اثنين منهم، تحرّيًا للموضوعية بمعزل عن الصّخب الاجتماعي، والمواقف الانفعالية السّائدة، التي تطغى على المجتمعات في أوقات المحن والصّراعات الفئوية، وتؤثر على نحو مباشر على عقل وتفكير الإنسان، وتصبغ مواقفه وآراءه إزاء مختلف القضايا.

وتمضي الآية الكريمة في القول على لسان النبي: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ، أي أنْ يكون قصدكم وغايتكم من التفكير والبحث هو الوصول إلى الحقّ. والأهمّ أنّ جوهر الآية الكريمة يشير على الانسان بألّا يسترسل خلف مجتمعه في اتخاذ المواقف، والمصيرية منها على نحو خاصّ، ذلك أنّ حالة الاسترسال لا تعفي الإنسان من المحاسبة أمام الله سبحانه وتعالى، ما دام قادرًا على البحث والتفكير.

رفض التبعية العمياء

لقد شدّدت النصوص الدينية على النأي عن التبعية العمياء للمجتمع. فقد ورد عن الرسول أنه قال: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا»[13]  ، ومضمون قوله أنْ يتبع الإنسان مجتمعه في الجوانب الإيجابية السليمة وحسب، ولكن في حالات الظلم والانحراف لا يصحّ أبدًا أن يستسلم المرء للحالة السّائدة، وإنما ينبغي أن ينأى بنفسه تمامًا عن ذلك الوضع. وجاء عن الإمام موسى الكاظم أنه قال: «لا تَكُن إمَّعَةً. قلتُ: وما الإمَّعَةُ؟ قالَ: لا تَقُلْ: أنا مَعَ النّاسِ، وأنا كَواحِدٍ مِن النّاسِ. إنّ رسولَ اللّه قالَ: يا أيُّها النّاسُ، إنّما هُما نَجدانِ: نَجدُ خَيرٍ ونَجدُ شَرٍّ، فلا يَكُن نَجدُ الشَّرِّ أحَبَّ إلَيكُم مِن نَجدِ الخَيرِ»[14]  .

لا للانفصال عن المجتمع

وأكثر الناس حاجة إلى النأي عن التبعية للآراء السّائدة هم المصلحون الرساليون والعاملون النهضويون. فالذين يريدون النهوض بمجتمعاتهم لا يستطيعون مجاراة الآراء السّائدة؛ لأنّهم يدركون جيّدًا أن سبب الانحراف والتخلف القائم إنما يعود إلى تلك الآراء، وهم إنما جاؤوا لكي يُغيّروا من الأمر الواقع، وهم معنيّون بمقتضى رسالتهم بالتصدّي للواقع المتخلف لمجتمعاتهم، وهذا تحديدًا ما كان يقوم به الأنبياء، الذين خالفوا مجتمعاتهم، والأصحّ أنّ مجتمعاتهم هي التي خالفتهم، قال تعالى:﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ[سورة المائدة، الآية: 70].

إنّ أصحاب الرسالة معنيّون بتحمّل عواقب سعيهم نحو الإصلاح، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا[سورة الأحزاب، الآية:39]، ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا .. [سورة الأنعام، الآية:34]، فالنبيّ على يقين بأنّ مصير المصلحين غالبًا ما يكون التعرّض للحصار والإيذاء والعزل الاجتماعي، وهذا عين ما عايشه في مكة المكرمة، حتى ورد عنه أنه قال: «ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت»[15]  ، إلّا أنّ جميع ذلك من مقتضيات تبليغ الرسالة، وكذلك هو نهج الأئمة والمصلحين الخيّرين في كلّ المجتمعات.

غير أنّ هناك حقيقة ينبغي ألّا يغفل عنها المصلحون، وهي الالتزام بنهج التعايش، والمخالطة الاجتماعية. ذلك أنّ المصلحين وأصحاب الرأي المختلف، لا ينبغي أن يسعوا نحو الصّدام مع مجتمعاتهم، حتى مع تمسّكهم بآرائهم، والتبشير بها، كلّما سنحت الفرصة لذلك، كما أنّهم في الوقت عينه لا ينبغي أن ينسحبوا من السّاحة ويعتزلوا الناس.

هناك نصوصٌ دينية كثيرة تؤكّد أهميّة أن يكون أصحاب الأفكار الإصلاحية، والتوجهات النهضوية، حاضرين ومخالطين للناس في مجتمعاتهم، يدارونهم ويجاملونهم، ويجهدون في الوصول بآرائهم وأفكارهم إلى مدارك عقول الناس، لا أنْ ينغلقوا على ذواتهم ويهجروا مجتمعاتهم. وفي ذلك مهمّة مزدوجة، يحمي من خلالها الرسالي مصالحه الذاتية من جهة، ومن جهة أخرى يقوم على خدمة رسالته، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق في حال الابتعاد والعزلة عن المجتمع.

وفي هذا الشّأن يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: «خالِطُوا النّاسَ بِألْسِنَتِكُمْ وَأجْسادِكُمْ، وَزايِلُوهُمْ بِقُلُوبِكُمْ وَأعْمالِكُمْ»[16]  ، يعني أنْ يلتزم الإنسان المصلح برأيه الصحيح، دون تبعية لسلوكيات وآراء الناس، فيما ينبغي في الوقت عينه أن تستمر المعايشة والمخالطة العامة لهم. ومما قيل في هذا السّياق: «كن في الناس ولا تكن مع الناس»، فالمطلوب أن يعاشر المرء أبناء مجتمعه، إلّا أنه لا ينبغي أن ينساق خلف آرائهم وأفكارهم غير السليمة، وهكذا يجمع الانسان بين التزام الحقّ وبين التعايش والتكيّف مع مجتمعه.

خطبتي الجمعة 27 صفر 1436هـ الموافق 20 ديسمبر 2014م
[1] بحار الأنوار، ج١٦، ص٢١٠، السنن الكبرى، البيهقي، ج١٠، ص١٩٢.
[2] الكافي، ج٢، ص٩٩، (باب حسن الخلق)، حديث2.
[3] الإرشاد، الشيخ المفيد، ج١، ص٣٠٠.
[4] الخصال، الشيخ الصدوق، ص٢٩، أحسن الحسن، خصلة102.
[5] الأذكار النووية، يحيى بن شرف النووي، ص٣٠٤.
[6] سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي، ج٧، ص٧.
[7] سنن أبى داوود، كتاب الأدب، باب في حسن العشرة، ج5، ص273، حديث رقم4794.
[8] صحيح سنن النسائي، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة، ج1، ص392، حديث1217.
[9] سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، ج3، ص378، حديث2490.
[10] صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب البرود والحبرة والشملة، ج4، ص46، حديث رقم5809.
[11] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، حديث رقم2599.
[12] كنز العمال، ج٧، ص١٥٣، حديث18483.
[13] سنن الترمذي، الترمذي، ج٣، ص114، حديث 2007.
[14] بحار الأنوار، ج٧٥، ص٣٢٥، حديث29.
[15] بحار الأنوار، ج٣٩، ص٥٦، وفي كنز العمال، ج٣، ص١٣٠، حديث5818: (ما أوذي أحدٌ مثل ما أوذيت).
[16] عيون الحكم والمواعظ، ص٢٤٣.