محكمة الضمير والوجدان

مكتب الشيخ حسن الصفار

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ[سورة القيامة، الآيتان: 1-2].

لا سبيل لأن يفلت الإنسان المخطئ من العقاب على نحو مطلق. فإذا ما أخطأ المرء وظلم أحدًا من الناس، قريبًا كان أم بعيدًا، فلربما أفلت من المحاسبة والعقاب، إمّا لشدّة تخفيه، وعدم اطّلاع أحدٍ على جرمه وظلمه، وإمّا لقوة نفوذه، خاصة في المجتمعات التي تسودها المحسوبية والفساد، أو لضعف في الطرف الآخر الذي وقع الظلم عليه. غير أنّ هذا التفلّت من العقوبة القانونية لا يعني الهروب من حكم العدالة على نحو مطلق، وإلى النهاية، ومردّ ذلك إلى وجود مفرزتين لا يستطيع الإنسان أن يفلت منهما مهما كان، المفرزة الأولى هي محكمة الضمير والوجدان، أمّا الثانية فهي الوقوف بين يدي الله حتمًا في نهاية المطاف.

تأنيب الضمير

أودع الله تعالى في أعماق نفس الإنسان ضميرًا ووجدانًا يدعوه إلى الخير، ويحذّره من الشّر. فإذا ما سار بخلافها وظلم أحدًا، أو اعتدى على حقٍّ أحدٍ، فإنّ هذه القوة في أعماقه التي يطلق عليها قوة الضمير، لا بُدّ أن تستيقظ في يوم ما، وتوجّه العقوبة للإنسان عن طريق التأنيب والتوبيخ الذاتي، فيعاني إثْر ذلك ما يطلق عليه عذاب الضمير، الذي يبقى يوخز الإنسان من داخله، حتى وإن بدا على ظاهر حياته الهناء والراحة، فإنّ في أعماقه نارًا تضطرم نتيجة شدة التأنيب ووخز الضمير.

قد تَرينُ المصالح، وتتراكم الرغبات المادية على قلب وضمير الإنسان، فيكون في حالة خمول وسبات إلى حين. لكن هذا الضمير سرعان ما يستيقظ في يوم ما، فيعيش الإنسان إثر ذلك العذاب والألم في داخل نفسه، نتيجة ما ارتكب من جرم وخطأ، وما مارس بحق الآخرين من جور وعدوان.

وتعرف قوة الضمير في علم النفس، بأنّها «جهاز نفسي تقييمي متعلق بالأنا. تقوم بدفع الإنسان نحو تقييم ومحاسبة نفسه بنفسه، وإصدار الحكم عليها». وقد أشار أمير المؤمنين في إحدى كلماته حين قال: «كَمْ مِنْ شَهْوَةِ ساعَةٍ أوْرَثَتْ حُزْناً طَويلًا»[1]  ، ولعلّ من مصاديق هذا الحزن الطويل عذاب الضمير وتوبيخ الوجدان.

ولربما لاحظنا على بعض المقصّرين بحقّ والديهم أو أحدهما، حين تعتريهم نوبة من يقظة الضمير، فتراهم يلومون أنفسهم على تقصيرهم في جنب أبويهم، وهذا تحديدًا هو تأنيب وعذاب الضمير الذي سيظلّ يوخز المقصّر والظالم ما دام على قيد الحياة. وقد يعتدي أحد الزوجين على حقوق الآخر، فتطوي الأيام ذاك الاعتداء، إلى أن يستيقظ الضمير ذات يوم لينهش دواخل الإنسان تأنيبًا وتقريعًا، ويزداد وخز الضمير حدّة حين يكون الطرف المعتدى عليه قد فارق الحياة. وهكذا الحال مع حالات الاعتداء على مختلف الناس. ومما يحضرني في هذا الشّأن، أنّ شخصًا أعرفه قد جاوز السبعين عامًا، وكان قبل وفاته بسنوات يبدي لي قلقًا؛ لأنه وأثناء وجوده في الحج قبل أكثر من خمسين سنة اشترى حطبًا من عند حطاب، إلّا أنه توانى في دفع المال للحطّاب، حتى توارى ذلك الحطّاب دون أن يعطيه قيمة الحطب، التي ربما لا تتجاوز بضعة ريالات وفقًا لأسعار تلك الأيام، يقول لي الرجل إنّه بات يعيش عذابًا نفسيًّا وتأنيب ضمير أقضّ مضجعه طويلًا؛ لأنه فوّت على ذلك الفقير حقّه.

إنّ الضمير يمثل محكمة داخلية مقرّها أعماق نفس الإنسان، لا مفرّ من مواجهتها. ولا يستثنى من مواجهتها أحد، حتى الطغاة والجبابرة الذين يمارسون البطش والقمع بحقّ الناس.

ومما يروي التاريخ أنّ الطاغية المعروف الحجاج بن يوسف الثقفي، حينما قتل الصحابي الجليل سعيد بن جبير، لم تطل حياته من بعده، فكان بين الفينة والأخرى يفزع من نومه وهو يصيح: ما لي ولسعيد بن جبير؟[2]  ،  فهذه المحكمة تنبع من أعماق الناس، لا كالمحاكم الخارجية التي يمكن التفلّت منها على نحوٍ أو آخر.

وهناك شواهد كثيرة على هذا الصّعيد، ومن ذلك ما تتناوله وسائل الإعلام الأمريكية عن ظاهرة الانتحار في أوساط الجنود الأمريكيين، خاصة أولئك الذين شاركوا في حربي أفغانستان والعراق، حيث بلغ عدد المنتحرين منهم6256 جنديًّا[3]  ، وهي الظاهرة الموضوعة قيد الدراسة منذ زمن، وقد كُتبت حولها أبحاث ودراسات، وعقدت بشأنها ندوات. وقد أظهرت الدراسات التي بحثت دوافع الانتحار عند هؤلاء الجنود، أنّ أكثرهم إما باشروا أعمال القتل استجابة لأوامر قادة العمليات، أو شهدوا ارتكاب فظائع أثناء تأدية الخدمة. غير أنّ ما جرى أنّ هؤلاء الجنود، وبعد عودتهم للديار، بدأوا في التفكير، ولم تفارق رؤوسهم تلك الفظائع، بل تحولت إلى كوابيس دائمة، كما يروي كثير منهم، ونتيجة لشدّة ما ينتابهم من عذاب الضمير، فإنّ بعضهم أصيب بأمراض نفسية، فيما لم يتردد آخرون في الإقدام على الانتحار.

من هنا، على الإنسان أن يحسب حسابًا لقوة الضمير والوجدان الكامنة في أعماقه. كما أنّ عليه أن يتذكر جيّدًا، إذا هَمَّ بالاعتداء أو النيل من أحدٍ، أنه سيدفع لقاء ذلك ثمنًا غاليًا، فقد لا يستطيع الطرف الضحية الاقتصاص لنفسه من المعتدي عليه، لكن قد ينبعث القصاص العادل من أعماق الظالم نفسه، وأمام محكمة ضميره ووجدانه.

الوقوف بين يدي الله

أما المفرزة الثانية أمام منع الإفلات من العقاب، فهي الوقوف بين يدي الله تعالى في نهاية المطاف. فقد يفلت المرء من المحاسبة في الحياة الدنيا، نتيجة تبرئة نفسه على نحوٍ أو آخر، وربما لعجز المظلوم عن إثبات ظلامته، لكن ماذا يفعل المعتدي حين يقف بين يدي الله تعالى.

إنّ القرآن الكريم يذكر بحقيقة وجود المحكمتين والمفرزتين آنفتي الذكر. وذلك في قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، قال بعض المفسرين في تفسير الآيتين، أنّ (لا) الواردة فيهما ربما جاءت زائدة، وبذلك يكون مقتضى الآية ﴿أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فيما ذهب مفسّرون إلى أنّ (لا) هنا جاءت نافية، ومعنى ذلك أن الموضوع أوضح وأكبر من أن يُقسم عليه. وقد تناولت الآية الكريمة: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ المحكمة الأولى وموعدها القيامة ولقاء الله عزّ وجلّ، فيما تناولت الآية الأخرى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ المحكمة الثانية، وهي محكمة الضمير داخل النفس، أي اشتغال القوة النفسية على تأنيب وتوبيخ الإنسان حين يرتكب الخطأ.

وقد أوردت النصوص الدينية جوانب عديدة من شدّة التدقيق والمحاسبة على مظالم العباد في يوم الحساب. ومما روي أن رسول الله كان يتحدث يومًا مع أصحابه فقال: «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ سَبْعُ عَقَبَاتٍ، أَهْوَنُهَا الْمَوْتُ، وَأَصْعَبُهَا الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذَا تَعَلَّقَ الْمَظْلُومُونَ بِالظَّالِمِينَ»[4]  . ولا يظنّن أحدٌ بأنّ المقصود بالظالمين هنا أولئك الحكام الظلمة وحسب، إنّما قد يكون أيّ شخص عادي في مصافّ الظالمين، حين يضطهد ابنه أو يجور على زوجته، أو يظلم العامل الذي تحت سلطته، فهذا كلّه من الظلم ومما يجعل المظلوم يتعلق بالظالم في يوم الحساب طالبًا بحقّه.

وروي عن الإمام الصادق أنه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ، قال: «قَنطَرَةٌ على الصِّراطِ لا يَجُوزُها عبدٌ بِمَظلِمَةٍ»[5]  ، إنّ أحدًا لن يجوز تلك العقبة على الصراط وفي رقبته مظلمة لأحدٍ، صغيرة كانت أم كبيرة، إلّا بعد أن يأخذ صاحب الحقّ حقّه منه. وورد عن أمير المؤمنين أنّ الله تعالى: «أَقْسَمَ قَسَماً عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: وعِزَّتِي وجَلَالِي لَا يَجُوزُنِي ظُلْمُ ظَالِمٍ»[6]  .

من هنا على الإنسان أن يكون حذرًا يقظًا لئلا يقع في ظلم أحد، على المستوى المادي أو المعنوي، حتى لا يدفع الثمن غاليًا، من تعذيب وتأنيب ضميره ساعة يستيقظ، وعند وقوفه بين يدي سبحانه وتعالى.

 

الخطبة الثانية: الخطاب المسيء والتبريرات المرفوضة

﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[سورة البقرة، الآية: 83].

لا يجادل أحدٌ في أنّ حسن التخاطب مع الآخرين يمثل مبدءًا أخلاقيًّا يؤيّده العقل والوجدان. ولا يمكن لأيّ إنسان سويّ أن يردّ هذا المبدأ أو ينكره، بَيْدَ أنّ البعض يسوّغ لنفسه تجاوز هذا المبدأ وإنْ أقرّ به، فيخوض في أعراض الناس، وينتهك حرماتهم، ويسيء إلى مقدّساتهم ورموزهم، متذرّعًا ببعض التبريرات، التي تظهر تجاوزه ذاك، باعتباره تجاوزًا مشروعًا، وخيارًا استثنائيًّا. فهؤلاء يقرّون بمبدأ الخطاب الحسن، لكنهم يخالفونه عمليًّا، ويشرعنون هذه المخالفة دينيًّا. فما هي هذه التبريرات التي يتذرّع بها هؤلاء؟ وهل هناك حقًّا ما يبرر للإنسان أن يتجاوز مبدأ حسن التخاطب مع الناس، على نحوٍ ينال من الآخرين، وينتهك حرماتهم ويسيء إلى رموزهم ومقدّساتهم؟

الإساءة تنفّر الناس من الحقّ

إنّ أول ذريعة يُردّدها المتجاوزون على الآخرين بألسنتهم، هي التزامهم الجهر بالحقّ، والدعوة إليه، وفضح الباطل والتحذير منه. فهل يا ترى يستلزم تبيان الحقّ أن يتجاوز المرء مبدأ حسن الخطاب، ويلقي قول السوء في وجوه الآخرين؟ هنا ينبغي الإشارة إلى أنّ الدين الذي يزعم هؤلاء الدفاع عنه، وضع منهجًا ووسيلة للدعوة إليه، ولم يترك منهج وسبيل الدعوة خاضعًا لأمزجة الناس وانفعالاتهم، ليس هذا وحسب، وإنما قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وبذلك لا يقبل الدين بأيِّ حالٍ أن يجري خدش مشاعر الآخرين، والتجاوز عليهم.

فإنْ زعم أحدهم بيان الحقّ وفضح الباطل، بهدف إبعاد الآخرين عن الباطل، وجذبهم ناحية الحقّ، فإنه بخطابه المسيء، وأسلوبه المستفزّ، إنّما يقوم بإبعاد الناس وتنفيرهم عن الحقّ. ولا عبرة في اجتذاب فردٍ عبر هذا الأسلوب الشاذّ، في مقابل خسارة الآلاف، ذلك أنّ من طبيعة الخطاب المستفزّ والسيئ أن ينفر الناس، ويجعلهم ينأون بأنفسهم عن منتجيه.

وقد ورد عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، أنه قال: «قُوْلُوْا لِلنّاسِ كُلِّهِم حُسنًا: مُؤمِنِهِم ومُخالِفِهِم؛ أمَّا المُؤمِنونَ فَيَبسُطُ لَهُم وَجهَهُ وبِشرَهُ. وأَمَّا المُخالِفونَ فَيُكَلِّمُهُم بِالمُداراةِ لِاجتِذابِهِم إلَى الإِيمانِ»[7]  . هذه هي سيرة الأنبياء والأئمة، فلم يكونوا في الدعوة لرسالاتهم يمارسون الإساءة، ويطلقون السباب والشتائم والاستفزاز لمشاعر الآخرين.

إنّ تبرير الإساءة للناس بحجة الجهر بالحقّ، وفضح الباطل، تبرير مرفوض قطعًا؛ لأنّ الإساءة بحدّ ذاتها أمر مرفوض دينيًّا وأخلاقيًّا.

حرية التعبير لا تبرر الإساءة للآخرين

الذريعة الثانية: التي يُردّدها البعض عند نيله من الآخرين هي التزامه بحرية التعبير عن الرأي. وفي حين لا يجادل أحد في أنّ حرية التعبير حقّ مقرر لكلّ الناس، إلّا أنّه ينبغي تذكر المبدأ القائل أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، فليس هناك حرية مطلقة في المجتمع البشري، ولا معنى للحرية المطلقة سوى الصدام والفوضى، فلا بُدّ عندئذٍ من قانون يضع الحدود وينظّم العلاقات، وحدود الحرية الشخصية، تنتهي عند حدِّ الإضرار بالآخرين، والإساءة إليهم، وبذلك لا يمكن ممارسة حرية التعبير بالاعتداء على الآخرين، والإساءة لكراماتهم، والنيل من رموزهم ومقدّساتهم، فهذا لا يندرج بأيِّ حالٍ تحت مجال حرية التعبير. وإنما تقتصر حرية التعبير عن الرأي في قول كلّ ما يُعلي من شأنك، وشأن دينك، ورموزك، ومقدّساتك، دون التجاوز على الآخرين، فذلك ما لا يقبله الناس، كما لا تقبله أنت على نفسك، ودينك، ومقدّساتك.

إنّ من المرفوض قطعًا التعاطي مع حرية التعبير وفقًا لازدواجية المعايير. مثل ما جرى مؤخرًا من نشر إحدى المطبوعات الفرنسية رسومات مسيئة لرسول الله بذريعة ممارسة حرية التعبير عن الرأي، سيّما وأنّ أحدًا هناك في فرنسا وأوروبا لا يستطيع تحت طائلة القانون أن يكتب ما يثير النعرات العنصرية، أو ما يُعبّرون عنه العداء للسامية، فلماذا تضعون هنا حدودًا لحرية التعبير عن الرأي، فيما يترك الحبل على الغارب عندما يتعلق الأمر بنبي الإسلام. ولعلّ أبلغ ما قيل في هذا الشأن، تهكم وزير خارجية فنلندا (اركي توميوا) من ازدواجية المعايير في فرنسا، حيث نقلت عنه وسائل الإعلام القول: «إذا سخرت من السّود فإنّها عنصرية، وإذا سخرت من اليهود فإنّها معاداة للسامية، ولكن السخرية من الإسلام هي حرية تعبير»[8]  . ومن جهتنا كمسلمين، إذا كنا نرفض رفضًا قاطعًا الإساءة إلى نبينا الكريم، فينبغي أن نرفض الإساءة إلى كرامة ورموز ومقدّسات بعضنا بعضًا.

إساءات وردت في التراث

أمّا الذريعة الثالثة التي يرددها المسيئون لمقدّسات ورموز الآخرين فهي الاحتجاج بما ورد في التراث الديني. فمن السهولة بمكان أن يُردّد بعضهم أنّ القرآن الكريم يقول: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، وينسب آخر قولًا للإمام الحسين في وصفه لشمر بن ذي الجوشن يوم الطف بالقول: «يا ابن راعية المعزى، أنت أولى بها صليًّا»، واتّكاءً على ذلك يبرر هؤلاء المسيئون التجاوز على الآخرين، والنيل منهم، وشتم رموزهم ومقدّساتهم.

غير أنّ هذا التبرير ينطوي على مغالطة فاضحة، ذلك أنّ نهج القرآن الكريم في هذا الشأن، إنما ركز على استهداف ورفض المسالك المنحرفة، لا استهداف الأشخاص، لذلك ورد في القرآن مرارًا لعن الظالمين والكافرين والكاذبين والفاسقين والفاسدين على نحو العموم، فيما لم يأتِ استهداف الأشخاص بأعيانهم إلّا على نحو الاستثناء مثل ذمّ أبي لهب وزوجته. وعليه لا يصحّ أبدًا التشبث بالموارد الاستثنائية في القرآن والتراث، وتحويل ذلك إلى منهج دائم، وإنّما الأصل الالتزام بالنهج القرآني الرسالي، القائم على قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، والملتزم بقوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وغير ذلك من النصوص الكثيرة المؤكّدة لهذه اللغة وهذا المنهج.

ونشير هنا إلى أنّ معظم ما ورد في التراث من تسويغ وتشجيع الإساءة للآخرين، في كتب السنة والشيعة، هو نتاج لظروف معينة كانت تسودها الخلافات والنزاعات، وجاءت هذه المقولات في غمرتها، من خلال الوضع والدّس والاختلاف.

وقد وردت نصوص دينية كثير في الحثّ على التزام القول الحسن، والنأي عن القبيح من القول. ومن ذلك ما ورد عن سول الله أنه قال: «َإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ»[9]  ، وعن أمير المؤمنين أنه قال: «إيّاكَ وَما يُسْتَهْجَنُ مِنَ الكَلامِ، فَإنَّهُ يَحْبِسُ عَلَيْكَ اللِّئامَ، وَيُنَفِّرُ عَنْكَ الكِرامَ»[10]  ،. كما ورد عنه أنه قال: «سُنَّةُ اللِّئامِ قُبحُ الكلامِ»[11]  . كما ورد عن الإمام الباقر : «سِلاحُ اللِّئامِ قَبيحُ الكَلامِ»[12]  ، وقد نظمها شعرًا بعض الشّعراء بقوله[13]  :

لقد صدق الباقر المرتضى        سليل الإمام عليه السلام

بما قال في بعض ألفاظه:          قبيح الكلام سلاح اللئام

وإنه ليتساءل المرء مستغربًا، كيف يرتضي البعض لأنفسهم انتهاج سنة اللئام، حتى باتت اللغة المسيئة مسلكًا أساسيًّا في حياتهم، وتجدهم يحترفون الإساءة للآخرين في كلِّ نادٍ وواد، سيّما مع توفر وسائل التواصل الاجتماعي، والفضائيات. فإذا ما ارتضى أحدٌ لنفسه أن يكون لئيمًا يسلك سنة اللئام، فإنّ تلك السنة لا يرتضي السير عليها شريف عاقل.

خطبتي الجمعة 10 ربيع اللآخر 1436هـ الموافق 31 يناير 2015م
[1] الكافي، ج٢، ص٤٥١، حديث1.
[2] البداية والنهاية، ابن كثير، ج٩، ص١١٥.
[3] http://www.cbsnews.com/news/the-veteran-suicide-epidemic
[4] كنز العمال، ج٣، ص٥٠٣، حديث7625.
[5] بحار الأنوار، ج٨، ص٦٦، حديث6.
[6] الكافي، ج٢، ص٤٤٣، حديث1.
[7] جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج١٥ص٥٦١، حديث1832.
[8] صحيفة الوطن القطرية، عدد 7080، الاربعاء 21/01/2015م.
[9] الخصال، الشيخ الصدوق، ص١٧٦، حديث235.
[10] عيون الحكم والمواعظ، ص٩٩.
[11] المصدر نفسه، ص٢٨٣.
[12] بحار الأنوار، ج٧٥، ص١٨٥، حديث14.
[13] موسوعة المصطفى والعترة، الحاج حسين الشاكري، ج٨، ص١٣٩.