الالتزام الديني حياة أفضل

 

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[سورة يونس، الآية:64].

وَعَدَ الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين المتقين بالبشرى. والإنسان حين يُبشّر من أيّ أحدٍ بالخير المقبل عليه، يكون ذلك مصدر سعادة وغبطة تدخل على قلبه، وكلّما كانت البشارة متعلقة بأمرٍ أكبر، كان أثرها أعظم على نفس الإنسان، وكذلك الحال حين يكون مصدر البشارة أوثق وأدعى للاطمئنان، سيكون الفرح والسرور بتلك البشارة أكبر. فكيف إذا كانت البشارة من الله تعالى، وهو القائل سبحانه: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ حَدِيثًا، وقال تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّـهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ قِيلًا، فإذا كانت البشارة من الله تعالى، فإنّ مقتضى ذلك أن يأخذها الإنسان مأخذ الجدّ، وأن يتفاعل معها على النحو الذي ينعكس على نفسه سعادة وسرورًا واطمئنانًا.

البُشرى لمن؟

غير أنّه سبحانه وتعالى لم يجعل البشارة الإلهية متاحة لكلِّ أحد، وإنّما خصّها بصنف معيّن من الناس. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فالبشرى على نحو خاصٍّ للإنسان الذي يتوفر على القناعة الإيمانية بالله، فمفردة «الإيمان» الواردة في الآية، تعني توفّر العقيدة بالله تعالى داخل نفس الإنسان، إلّا أنّ ذلك ليس كافيًا، ما لم تنعكس تلك العقيدة والإيمان على السلوك الخارجي للفرد، لذلك قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، والتقوى هي الالتزام السلوكي بمضمون العقيدة، فمادام الإنسان معتقدًا بأنّ له ربًّا خالقًا، مسيطرًا مهيمنًا، منه المبتدأ وإليه المنتهى، فذلك يوجب عليه الالتزام السلوكي بطاعة الله، على نحو الاستمرار والديمومة.

إنّ الإنسان الذي يتوفر على هذين الأمرين؛ العقيدة الإيمانية بالله، وانعكاسها على سلوكه بالتزام التقوى، فإنّ الله تعالى يخصّه بالبشرى، لا على نحو التقييد بشيء محدّد، وإنّما على نحو الإطلاق، بكلّ أوجه السّعادة والخير في الدنيا والآخرة. ويشير منطوق الآية الكريمة إلى أنّ البشارة المرتقبة للمؤمنين آتية لا ريب في الدارين. وعلى سبيل التحقق في الحياة الدنيا قبل اليوم الآخر.

مصاديق البشارة الالهية

وللوقوف على طبيعة البشارة الإلهية للمؤمنين، يمكن الإشارة إلى عدّة مصاديق. منها ما يمنحه الله تعالى للإنسان المؤمن من طمأنينة تجلّل قلبه، وأمن يظلّل نفسه، والشعور بالطمأنينة والأمن النفسي أعظم بشرى يعيشها الإنسان المؤمن في هذه الحياة، فالمؤمن الحقيقي مستقرّ النفس مطمئن البال، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وذلك على النقيض من حياة التوجس والقلق والاضطراب التي يمكن أن تكدر حياة البعيد عن الله.

ومن مصاديق البشارة الإلهية، انسجام الإنسان مع الناس من حوله. ذلك أنّ المؤمن المتقي الملتزم بأحكام الدين، يكون موضع محبّة الآخرين وثنائهم؛ لأنّه يفيض عليهم فضلًا وإحسانًا وتقديرًا. وقد ورد عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أنه قَالَ: «يَا رَسُولَ الله، الرَّجُلُ يَعمَلُ العَمَلَ لله فَيُحِبُّهُ النّاسُ عَلَيهِ؟! قالَ: ذلِكَ عاجِلُ بُشرَى المُؤمِنِ»[1]  ، وبذلك تكون محبّة الناس مصداقًا من مصاديق البشرى للمؤمنين، وقد سأل زرارةُ الإمامَ الباقرَ : «عن الرَّجُلِ يَعمَـلُ الشيءَ مِن الخَيرِ فَيَراهُ إنسانٌ فَيَسُرُّهُ ذلكَ، فقال: لا بَأسَ، ما مِن أحدٍ إلّا وهُـو يُحِبُّ أن يَظهَرَ لَهُ في الناسِ الخَيرُ، إذا لَـم يَكُـن صَنَعَ ذلكَ لذلكَ»[2]  .

وتشير بعض النصوص الدينية إلى أنّ البشرى الموعودة للإنسان المؤمن في الحياة الدنيا، هي ما تكون عند موته، وقبل انتقاله إلى الحياة الآخرة. وهو مفاد الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. حيث جاء عن الإمام الباقر أنه قال: «إِنَّمَا أَحَدُكُمْ حِينَ تَبْلُغُ نَفْسُهُ هَاهُنَا، فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَمَّا مَا كُنْتَ تَرْجُو فَقَدْ أُعْطِيتَهُ، وَأَمَّا مَا كُنْتَ تَخَافُهُ فَقَدْ أَمِنْتَ مِنْهُ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ لَهُ: اُنْظُرْ إِلَى مَسْكَنِكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَانْظُرْ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ رُفَقَاؤُكَ، وَهُوَ قَوْلُ الله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَكٰانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرىٰ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَفِي الْآخِرَةِ»[3]  ، وبذلك يفسّر الإمام البشرى الواردة في الاية الكريمة بأنّها ما تكون في آخر مراحل حياة الإنسان في هذه الدنيا، ليجوز للحياة الآخرة، وقد تلقى البشرى بالحياة الطيبة في عالم الآخرة.

معطيات الالتزام الديني

وتشير النصوص الدينية إلى أنّ آثار الالتزام الديني ومردوداته على الإنسان ليست محصورة بالحياة الآخرة وحسب. وإنما تنعكس آثار التديّن على حياة المؤمن في دنياه قبل آخرته، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّـهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فالإنسان المؤمن لا بُدّ وأن يلقى ثواب إيمانه وتقواه في الدنيا، ثم يحظى بحسن ثواب الآخرة بعد ذلك، قال تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّـهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

ومن خير ما ورد في هذا السّياق، ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «مَن رُزِقَ الدّينَ فَقَد رُزِقَ خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ»[4]  ، كما ورد عنه أنه قال: «وَاعلَموا يا عِبادَ اللّه ِ أنَّ المُتَّقينَ حازوا عاجِلَ الخَيرِ وآجِلَهُ، شارَكوا أهلَ الدُّنيا في دُنياهُم ولَم يُشارِكهُم أهلُ الدُّنيا في آخِرَتِهِم، أباحَهُمُ اللّه ُ مِنَ الدُّنيا ما كَفاهُم وبِهِ أغناهُم. قالَ اللهُ ـ عَزَّ اسمُهُ ـ: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَـتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَـمَةِ كَذَ لِكَ نُفَصِّلُ الأَْيَـتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

سَكَنُوا الدُّنيا بِأَفضَلِ ما سُكِنَت وأكَلوها بِأَفضَلِ ما اُكِلَت، شارَكوا أهلَ الدُّنيا في دُنياهُم فَأَكَلوا مَعَهُم مِن طَيِّباتِ ما يَأكُلونَ، وشَرِبوا مِن طَيِّباتِ ما يَشرَبونَ، ولَبِسوا مِن أفضَلِ ما يَلبَسونَ، وسَكَنوا مِن أفضَلِ ما يَسكُنونَ، وتَزَوَّجوا مِن أفضَلِ ما يَتَزَوَّجونَ، ورَكِبوا مِن أفضَلِ ما يَركَبونَ. أصابوا لَذَّةَ الدُّنيا مَعَ أهلِ الدُّنيا، وهُم غَدا مِن جيرانِ اللّه ِ يَتَمَنَّونَ عَلَيهِ، فَيُعطيهِم ما تَمَنَّوهُ، ولا يَرُدُّ لَهُم دَعوَةً، ولا يَنقُصُ لَهُم نَصيبًا مِنَ اللَّذَّةِ. فَإِلى هذا ـ يا عِبادَ اللّه ِ ـ يَشتاقُ إلَيهِ مَن كانَ لَهُ عَقلٌ ويَعمَلُ لَهُ بِتَقوَى الله»[5]  ، وهكذا تنير هذه الكلمات التي تفيض حكمة ملامح الطريق الذي ينبغي أن يسلكه المؤمنون، حتى ينالوا خير وبشارة الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.

كما تشير هذه الكلمات من أمير المؤمنين، إلى أنّ المفترض في حياة الانسان المؤمن، أن تكون في أرقى المستويات، من حيث الاستمتاع بخيرات الدنيا، فهو يأكل ويشرب أفضل المأكولات والمشروبات، ويلبس أفضل الأزياء، ويسكن أفضل المنازل، وتكون حياته الزوجية أسعد حياة.

وهذا التوصيف لحياة المؤمن يغاير الصورة السّائدة، من كون حياة المؤمن في أدنى مستويات الاستمتاع والتلذّذ بخيرات الدنيا.

 

الخطبة الثانية: تكريم النبي للزهراء رسالة للآباء

روى أبو ثعلبة: «كَانَ رَسُولُ الله: «إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُثَنِّي بِفَاطِمَةَ، ثُمَّ يَأْتِي أَزْوَاجَهُ» [6] .

وورد عن عائشة: «كَانَ - رسول الله - كثيرًا مَا يقبل عرْفِ فَاطِمَة»[7]  .

وورد عن عليّ عن رسول الله: «إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»[8]  .

قدّم الإسلام فاطمة الزهراء باعتبارها المثال النموذجي للمرأة. وحيث يحتفل العالم بمناسبة يوم المرأة العالمي المصادف للثامن من شهر مارس من كلّ عام، ينبغي الإشارة إلى المرأة النموذج في تاريخ الإسلام، ألا وهي السيدة الزهراء، تلك المرأة التي توفرت فيها كلّ صفات الكمال. وعلى غرار ذلك ينبغي أن تسعى كلّ امرأة نحو اكتساب الصفات الفاضلة الكريمة. لقد قدمت الصديقة الزهراء أفضل أنموذج للبيت العائلي السّعيد المحكوم بأجواء الخير والفضيلة والمحبة، إنْ على مستوى علاقتها بأبيها أو زوجها وأبنائها، هذه العلاقة التي ينبغي أن تقرأ كنموذج لما يجب أن يكون عليه البيت العائلي.

النموذج القدوة

كما قدمت الصّديقة الزهراء أفضل أنموذج للتربية الأسرية للأبناء. فقد تربى على يديها الحسنان اللذان قال فيهما النبي: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة»، كما ترعرت على يدها العقيلة زينب وأختها أم كلثوم. وبذلك ينبغي لكلّ امرأة تريد أن تأخذ مكانها في المجتمع والتاريخ، أن تقدم للمجتمع عطاءً على هذا الطريق.

إنّ الصديقة الزهراء لم تكن حبيسة منزلها، أو منكفئة على نفسها واهتماماتها الأنثوية الخاصة، بل كانت في الطليعة ضمن حركة الرسالة النبوية، منذ نعومة أظفارها، مشاركة في واقعها الاجتماعي العام، كانت مرافقة لأبيها رسول الله، في دروب الرسالة وتحمّل الأعباء والعناء من المشركين، وكانت تغمره بالحبّ والحنان، حيث لا يكون معه أحد، فيأتي المشركون ويؤذونه ويلقون على ظهره ورأسه القاذورات وهو ساجد عند البيت الحرام، فتقوم بإماطة الأذى عن ظهر أبيها ورأسه، ولعظيم ما كانت تغمره بعطفها وحنانها، قال عنها: «فاطمة أمّ أبيها»[9]  . وتخرج برفقة أبيها في المعارك الحاسمة كمعركة أحد، إلى جانب المجاهدين حتى في أحلك الظروف، لتخطّ بذلك اسمها في تاريخ الرسالة.

ومثلت السيدة الزهراء القناة الأبرز لنقل تعاليم الدين من النبي إلى نساء مجتمعها. فقد كانت تأخذ عن أبيها أسس وتعاليم الإسلام لتمررها إلى المجتمع النسوي في المدينة المنورة. واستمر الحال بها في الوقوف إلى جانب جبهة الحقّ بعد وفاة أبيها، بالتزامها الدفاع عن حقّ بعلها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب_، كما دافعت عن حقّها في أرض فدك. وهكذا ينبغي أن تكون المرأة، متوفرة على صفات الكمال في ذاتها وشخصيّتها، ناجحة في إدارة منزلها وأسرتها، متمثلة الأنموذج في التربية الصالحة، والمشاركة الفعالة في بناء المجتمع وتنميته وتطويره. إنّ علينا، بمناسبة ذكرى رحيل الصديقة الزهراء أن نجلّي عن حياتها وسيرتها باعتبارها مدرسة وأنموذجًا للاقتداء، وليست مجرّد لوحة فنّية للإعجاب، أو حياة معاناة وألم تستدرّ العواطف والدموع.

دلالات التعظيم النبوي للزهراء

وتظهر النصوص الدينية مدى الاهتمام الذي أولاه النبي للزهراء. فقد ورد عن عائشة أنها قالت: « كَانَ ـ رسول الله ـ كثيرًا مَا يُقَبِّلُ عرْفَ فَاطِمَة»، أي رأسها، وتشير نصوص أخرى إلى أنه قبّل يدها. وروي عنه أنه قال: «فِدَاهَا أَبُوهَا»[10]  .

إنّ هذا التعظيم للسيدة الزهراء إنّما أراد به النبي أن يرسل رسالة هامة إلى الأمة. علاوة على تبيين مكانة الزهراء وعظمتها أمام أبناء الأمة، جوهرها ضرورة إغداق المحبّة والاحترام والحنان على البنات، بالنظر لحاجة المرأة على وجه خاصٍّ لأن تحظى بالاهتمام الكبير ضمن محيطها العاطفي. سيّما في ضوء ما تعانيه كثير من الأسر في عصرنا الراهن من جفاف عاطفي، حيث يتعب الآباء في بناء المنزل المناسب لأسرهم، ويحرصون على توفير جوانب الراحة لهم، ويهتمون بتوفير سبل المواصلات للعائلة، من توفير السائق والمركبة المناسبة، وتوفير المال والغذاء والكساء المناسب للأسرة، وهذا كله أمر جيّد ومطلوب، غير أنه «لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ»[11]  ، كما يقول نبي الله عيسى.

إنّ المطلب الأهم لدى كلّ إنسان، أن يشعر بكرامته، ويحظى بمحبة من حوله، واهتمامهم به. ولو قُدّر أن يحظى الأبناء بكلّ وسائل الراحة المادية فستكون كلّها عديمة الجدوى، ولن تشبع حاجاتهم الحقيقية، ولن تسدّ النقص والفراغ في نفوسهم، إذا ما بخل عليهم الآباء بالعطف والمشاعر الأبوية. ومن الملاحظ كيف يشتدّ بكاء الطفل الصغير، حتى إذا ما أخذته أمّه إلى صدرها، عادت إليه الطمأنينة والهدوء، وسكن إلى عطف أمه ورعايتها. إنّ هذه الحالة غالبًا ما تلازم الإنسان في أطوار حياته المختلفة، فالإنسان في حاجة ماسّة لمحبّة الآخرين وعطفهم واهتمامهم.

إنّ المرأة على وجه الإجمال، زوجة كانت أم بنتًا، في أمسّ الحاجة لإغداق العاطفة والحنان عليها. ويرتكب الآباء خطأ فادحًا، حين يتعاملون مع بناتهم بجفاف، نتيجة الخجل من إظهار مشاعرهم تجاههنّ، أو استسلامًا لغلبة الأعراف والتقاليد، أو للانشغال عنهنّ، ما يجعل البنت تعيش فراغًا عاطفيًّا كبيرًا. وجدير بالإشارة هنا أنّ الحاجات العاطفية تختلف في ألوانها ومظاهرها من عصر إلى عصر، ومن زمن إلى آخر، تمامًا كما هو الحال مع المسكن والغذاء والكساء. فكما يوفر الآباء مختلف المستلزمات الأسرية المناسبة لزمنهم الراهن، كذلك الحال مع سبل إظهار العطف والحنان تجاه الأبناء والبنات، الذي ينبغي أن يتناسب مع زمنهم وظروف عصرهم.

تداعيات الجفاف العاطفي في الأسرة

ويتسبب الجفاف العاطفي داخل الأسرة بمشاكل لا حصر لها، في أوساط البنات والأبناء. حيث ينتج حالة من الكبت النفسي لدى الأبناء، ينعكس سلبًا على نفسيتهم الداخلية، وعلى سلوكهم الظاهري على حدٍّ سواء، وقد يأخذهم إلى مسارات خاطئة، كانفتاح البنات على الغرباء من خارج الأسرة، سيما مع توفر سبل الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي. وواضح أن السبب الأبرز لارتماء الكثير من الفتيات على الغرباء هو إبداء الآخيرين مشاعر المحبة والتقدير لهن، سواء كان ذلك نابعًا من مشاعر صادقة أو كاذبة، لوجود كثير من المخادعين الذين يبدون مثل هذه المشاعر لاستدراج بنات الناس، والتلاعب بهن، وانتهاك اعراضهن.

وحريّ بالآباء ألّا يبخلوا على بناتهم في إبداء المشاعر الإنسانية الدافئة، وأجواء المحبة والاحترام والتقدير لهنّ داخل المنزل، حتى لا يلجئوهنّ للبحث خارج المنزل عمّن يغدق عليهنّ الكلام المعسول ويلبّي حاجتهنّ العاطفية.

إنّ مردّ هروب الفتيات من منزل العائلة في كثير من الأحيان هو الفراغ العاطفي الناتج عن افتقادهنّ للدفء الأسري. وعلى المستوى المحلّي، ثمّة تقارير رسمية تشير إلى هروب ما بين 1500 إلى 3000 فتاة من منازل أسرهنّ في عموم المملكة سنويًّا[12]  .

لقد ضرب لنا رسول الله مثلًا أعلى في إغداق عائلته بأجواء المحبّة.

خطبتي الجمعة 16 جمادى الأولى 1436هـ الموافق 7 مارس 2015م
[1] وسائل الشيعة، ج١ص٧٦، حديث15، وقريب منه في مسند أبي داود وتفسير ابن كثير.
[2] الكافي، ج ٢ص٢٩٧، حديث18.
[3] بحار الأنوار، ج٦ ص١٧٧، حديث5.
[4] عيون الحكم والمواعظ، ص٤٥٠.
[5] الأمالي، الشيخ الطوسي، ص٢٦.
[6] المعجم الكبير للطبراني، ج22، ص225، حديث 595.
[7] فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج5 ص174، حديث6847، ومثله في كنز العمال.
[8] جلال الدين السيوطي، مسند فاطمة الزهراء، حديث 119.
[9] أُسد الغابة ٥: ٥٢٠، الاستيعاب ٤: ٣٨٠.
[10] بحار الأنوار، ج٤٣ ص٨٦.
[11] إنجيل متى 4: 4.
[12] جريدة الحياة الصادرة يوم الخميس، ١٦ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٤م.