التزمت في الدين.. نشأته ومظاهره

 

حين يُندّد القرآن الكريم بحالات التشدّد والتزّمت الديني في الأمم السابقة، كقوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، إنما يستهدف تحذير الأمة من الوقوع في ذات المنزلق، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.

ومع الأسف الشديد فقد ابتليت الأمة بمثل هذا الدّاء الوبيل، وتكونت فيها توجّهات متشدّدة متزمّتة حولت الدين إلى طقوس وشعائر تستهلك معظم وقت الإنسان وجهده، وإلى قائمة عريضة من المحرمات والممنوعات التي تحاصر حركة الإنسان في مختلف جوانب الحياة، وتحدّ من حريته، فكلّ شيء حرام، وكلّ شيء فيه إشكال، إذ يستخدمون قاعدة سدّ الذرائع بلا حدود.

ولكن لماذا تنشأ حالة التشدّد والتزمّت في الدين؟

يبدو أنّ هناك عوامل وأسبابًا وراء حدوث هذه الظاهرة، وأبرزها ما يلي:

1- غياب القيم والاهتمامات الكبرى التي جاء من أجلها الدين، كإقامة العدل وهي المهمة الأساس التي نزلت من أجلها الرسالات الإلهية، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ وكمهمّة إعمار الأرض واستثمار خيرات الكون، يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وكتحصيل المعرفة واستكشاف أسرار الكون، يقول تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. وكحفظ لحقوق الناس واحترامها، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾.

حينما تغيب مثل هذه القيم والاهتمامات الكبرى، ويضعف حضورها في ساحة حياة المجتمع، يحصل التعويض عنها بالتعمق في جزئيات المسائل العقدية النظرية، والاستغراق في الطقوس والممارسات العبادية الشعائرية، والمبالغة في التحريمات والاحتياطات.

2- تكوّن طبقة في الحالة الدينية تحترف التزمّت والتشدّد، وتعمل على نشره والتبشير به، لخطأٍ في فهم المقاصد الدينية، أو لمصلحة ينشدونها من خلال تأكيد حضورهم عبر هذا التوجّه الذي يجد له روّادًا ومؤيّدين، بدافع ديني ساذج.

وعن وجود هذه الطبقة في الديانات السابقة يقول تعالى: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ﴾

وتشير آية أخرى في القرآن الكريم إلى قيام هذه الطبقة بوضع إضافات من عندياتهم، ونسبتها إلى الدين، لتحقيق بعض المصالح والمكاسب، يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾

 

3- نشْأةُ ظروف وأجواء تدفع إلى حالة من المزايدات في الدين بسبب وجود تحدٍّ للهوية الدينية، أو صراع وتنافس بين أجنحة الحالة الدينية، حيث قد يدفع الشعور بالتحدّي للهوية إلى المبالغة فيها، كما قد يؤدي الصراع والتنافس بين الجهات الدينية، إلى سعي كلّ طرف لإظهار نفسه أنه أكثر التزامًا بالعقيدة ودفاعًا عنها، بينما يتّهم الأطراف الأخرى المنافسة بالميوعة والذوبان وتقديم التنازلات والمساومة على المبادئ.

http://www.alraimedia.com/Home/Details?id=9a8534cc-3c54-4d36-ba42-094ac80c852f

جريدة الراي

نشر في جريدة الراي، عدد: 14131، السبت 10 مارس 2018م