التعبئة ضدّ الآخر لغة التطرف

 

ورد عن الإمام الحسن العسكري : «أقَلُّ النّاسِ رَاحَةً الحَقُودُ»[1] .

مكاسب الاحتفاء بذكريات الأنبياء والأئمة

من أهمّ وظائف ومكاسب الاحتفاء بذكرى الأنبياء والأئمة والأولياء، استحضار سيرتهم العطرة، للاقتداء بهم، واستذكار توجيهاتهم وتعاليمهم، لتهذيب النفوس وإصلاح السلوك.

وتمرّ علينا هذه الأيام ذكرى ولادة نبي عظيم، هو نبي الله عيسى بن مريم الذي تحدث عنه القرآن الكريم في عدة موارد، وخصّص سورة باسم والدته العظيمة (مريم).

وقد أصبح مولده عنوانًا للتاريخ الميلادي، والعالم في معظمه ومجمله يحتفي بهذه المناسبة العظيمة، ونحن كمسلمين يسرنا الاحتفاء بمولد نبينا عيسى ، ونرى في ذلك تأكيدًا على عمق توجه البشرية نحو الدين، فسلام الله على عيسى بن مريم، يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا، وسلام الله على أمّه الصديقة العذراء مريم، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

كما تمر علينا ذكرى ولادة الإمام الحسن العسكري ، لذلك نقتبس هذه الكلمة المضيئة مما ورد من توجيهاته القيمة. 

يقول : «أقَلُّ النّاسِ رَاحَةً الحَقُودُ».

الراحة مطلب أساس

الراحة والارتياح مطلب أساس للإنسان في هذه الحياة، إنه يسعى ويعمل ويكدح من أجل تحقيق الراحة والارتياح لنفسه، وإذا كانت راحة الجسم تتحقق بتوفير الاحتياجات المادية والمتع والملذات، ودفع الأمراض والأسقام، فإنّ راحة النفس تتحقق بالاستقرار والطمأنينة والرضا؛ لأنّ حالة القلق والسخط والتوتر تسلب الراحة من الإنسان، وتجعله يعيش الشقاء والعناء، وإن توفرت له كلّ الإمكانات والثروات المادية، من هنا فإنّ على الإنسان أن يفكر كيف يؤمِّن الراحة النفسية، كما يفكر في توفير الراحة الجسمية.

وتتوفر الراحة النفسية من خلال إبعاد النفس عن مصادر التوتر والقلق، ومن تلك المصادر التي تجعل نفس الإنسان في قلق وتوتر هي حالات السّخط والعداء والبغضاء تجاه الآخرين الذين يعيشون في محيطه الاجتماعي.

فكلّما كانت انطباعات الإنسان عمن حوله إيجابية، ومشاعره تجاه الآخرين سليمة، كان أقرب إلى الراحة والارتياح النفسي، أما إذا كانت نفسه محمّلة بالأحقاد والضغائن، لديه مشكلة تجاه هذا، ويحمل انطباعًا سلبيًّا تجاه ذاك، ويضمر عداءً تجاه آخر، فإنه يعيش حالة من الاضطراب والتوتر النفسي.

ومن المؤكد أنه إذا عاش الإنسان مع جماعة يحبّهم، ويرتاح إليهم، فإنه يشعر بالبهجة والسرور، أما إذا وجد نفسه مع جماعة يكرههم وينزعج منهم، سيكون متشنّجًا متوترًا.

لذلك كلما تخفف الإنسان من مشاعر العداء والسّخط على الآخرين يكون قد أبعد نفسه عن أسباب التوتر والاضطراب.

أرأيت الذي يصاب بحساسية تجاه بعض الأغذية أو بعض الروائح، إذا أكل من طعام معيّن تظهر على جسمه آثار مرضية؟!

البعض ينزعج بمجرد أن يشمّ رائحة معينة، وقد يصاب بألم في رأسه، كذلك الإنسان الذي لديه حقد وبغضاء وعداء مع هذا وذاك، حينما يذكرون أمامه، أو يلتقيهم، تحدث له حالة غير طبيعية في نفسه!!

لذلك ينبغي ألّا يترك مجالًا لنموّ مثل هذه المشاعر في نفسه.

أذكر ذات مرة كنا في مجلس مع مجموعة من الأدباء والعلماء، وأحد الحاضرين كان مرتاحًا متفاعلًا في المجلس، يذكر النكت واللطائف بنفس منشرحة، وفجأة تغيّرت حاله وذهب عنه الانشراح والانبساط، وأمسك عن المشاركة إلى آخر الجلسة!!

سألته: ما بك؟!

أجاب والتأثر بادٍ على وجهه: أما سمعتهم؟!

ذكروا فلانًا ومدحوه! (يعني أحد العلماء ممن يختلف معه)

إذا كانت عند الإنسان مشاعر عدائية تجاه شخص، وذكر أمامه أو التقاه، تبرز عنده حالة من التوتر، البعض يسيطر على انفعالاته ويكتمها، فلا تظهر آثارها، لكنه يعاني داخل نفسه، والبعض لا يسيطر على مشاعره، فيُعرب عنها!

على الإنسان أن يتخفف من هذه الحالة، لا يجعل نفسه مستودعًا للأحقاد والضغائن، صحيح أنّ الإنسان تمرّ عليه مواقف ينزعج منها، لكن ذلك يجب أن يبقى في حدود الموقف، ولا ينبغي أن يحتفظ بالغضب والانفعال في نفسه لوقت طويل.

البعض يحمل معه المواقف السلبية إلى سنين طويلة، يبقى يتذكر تلك المواقف ويستحضرها ويحدث بها، بمناسبة وغير مناسبة!!

غضب في حدود

يعرف العلماء الحقد بأنه: إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها، والحقد هو الضغن، أن يحمل المرء الضغينة في نفسه على الآخرين، ولا يدعها تغادر قلبه، في حين أنّ النصوص الدينية توجّه الإنسان إلى تجاوز حالة التأثر والانفعال، ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «الْمُؤْمِنُ يَحْقِدُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ، فَإِذَا قَامَ ذَهَبَ عَنْهُ الحِقْدُ»[2]  .

وقال : «حِقْدُ الْمُؤْمِنِ مُقَامَهُ ثُمَّ يُفَارِقُ أَخَاهُ فَلَا يَجِدْ عَلَيْهِ شَيْئاً وَحِقْدُ الْكَافِرَ دَهْرَهُ»[3] .

يتأثر الإنسان ما دام في المجلس ذاته، لكنه يطرد عنه المشاعر السلبية بمجرد أن يغادر المكان، البعض يقوم بعملية (تخزين) للانفعال ويحتفظ به في قلبه، ثم يستحضره عند ورود مواقف مشابهة، فيعيش تلك المشاعر القديمة!!

بينما يعيش بعض الناس (براءة الأطفال)، حيث يعود الأطفال إلى مرحهم ولعبهم، بعد لحظات من عراكهم، وكأن شيئًا لم يكن!

على الإنسان أن يجاهد نفسه حتى يتحلى بهذه الخصلة الحميدة، فلا يبقي الضغائن والمشاعر السلبية في نفسه تجاه الآخرين؛ لأنّ ذلك يضرّه ويسلبه الراحة، كما ورد عن الإمام العسكري : «أقَلُّ النّاسِ رَاحَةً الحَقُودُ»؛ لأنه يكون مضطربًا قلقًا تجاه هذا وذاك. 

البيئة الاجتماعية

يتأثر الإنسان بالأجواء المحيطة به، والبيئة التي ينشأ فيها، فكثيرًا ما يتوارث الأبناء أحقاد الآباء والأجداد، بسبب الأجواء الموبوءة التي يعيشونها!

الأطفال أبرياء، لكنّ الآباء يُغذّونهم بما شجر بينهم من عداوات، يتحدثون في مجالسهم عن خلافات ومشاكل قديمة، وكأنّها حدثت الساعة، فيتأثر بها الأبناء.  

وقد يمنع الآباء أبناءهم من التواصل مع هذه الجهة أو تلك، وحتى مع اقربائهم، انطلاقًا من خلافات سابقة.

وفي بعض الأحيان تكون الانتماءات الفئوية سببًا لنمو المشاعر السلبية بين الأفراد؛ لأنّ التنافس بين الجماعات والأحزاب يتحول إلى صراع وعداوة، وهناك من يُغذّي هذه الأجواء السلبية، أو يترصد مساوئ وأخطاء الأطراف الأخرى ويتندّر بها.

وفي حالة ثالثة تصبح حالة اجتماعيه عامة، بسبب الخلافات المذهبية والسياسية، كلّ طرف يمارس التعبئة ضدّ الطرف الآخر، فتصبح الأجواء ملوثة بالأحقاد والبضغاء!!

في كلّ المجتمعات تختلف الآراء، سواء كانت في المجال الديني أو السياسي أو الثقافي والاجتماعي، وفي كلّ مجتمع هناك تنوع في الانتماءات، ومن الطبيعي أن يكون هناك تنافس مصلحي أو عملي، لكن الحالة السيئة أن يتحول هذا التنوع إلى تعبئة وزراعة للأحقاد والضغائن في النفوس، كما نرى في الحالة الطائفية المذهبية، نجد الخطيب في المجتمع السني يعبّئ جمهوره ضدّ إخوانهم من المسلمين الشيعة، ويسعى لاستغلال أيّ حدث ويحوّله إلى أداة للتعبئة، وفي الطرف الشيعي هناك من يمارس هذا الدور تجاه السنة أو من يخالفه في الرأي!

هذه هي البيئة التي تربّي على الحقد والضغينة.

وكذلك في المجال السياسي، إذا تنوعت المواقف السياسية، فمن حقّ كلّ طرف أن يبشّر برأيه ويدافع عنه، لكن أن يحول الموضوع إلى عداوة، ويمارس التعبئة ضدّ أصحاب الرأي الآخر، وكأنّهم خارجون عن الدين، أو خونة عملاء، وما أشبه ذلك مما ألفته مجتمعاتنا؟!!

إنّ ذلك هو ما ينشر حالة الأحقاد والضغائن في أجواء المجتمع.

الآثار السلبية

التعبئة الطائفية تجعل الناس يعيشون الاضطراب والقلق تجاه بعضهم بعضًا، وهذا ما ينهى عنه الدين  وتوجيهات الأئمة ، حيث يشير الإمام علي إلى أنّ الأحقاد والضغائن تدفع إلى الفتن والعدوان، يقول : «سَبَبُ الفِتَنِ الحِقْدُ»[4] ، فحينما تحقد على أتباع المذهب الآخر، أو المنتمين للتوجه المختلف معك في الرأي، فإنّ ذلك يدفع إلى العداوات والفتن، ويقول في كلمة أخرى: «سِلاحُ الشَّرِّ الحِقدُ»[5] ، لذلك علينا أن ننقّي أجواءنا من الضغائن والأحقاد، لا بمعنى عدم وجود اختلافات في الآراء و المواقف، فكلّ إنسان من حقّه أن يعتنق الرأي  الذي يقتنع به، وأن يتخذ الموقف الذي يراه صائبًا، لكن ذلك لا يدعو إلى العداوة والضغينة على الآخرين أو تعبئة المحيط بالحقد؛ لأنه من خلال هذه الأجواء يتربى جيل أو تنشأ جماعات، يتحول الحقد عندها إلى ممارسات عدائية، وقد يتمظهر في صور العنف والإرهاب.

الاعتداء على قاضي الأوقاف والمواريث

وقد رأينا ما حدث في مجتمعنا من حادثة أليمة، هي اختطاف قاضي دائرة الأوقاف والمواريث الشيخ محمد الجيراني يوم الثلاثاء 14 ربيع الأول 1438هـ  الموافق 13 ديسمبر 2016م، ومن ثم قتله بتلك الطريقة البشعة، حسبما أعلنته الجهات المختصة يوم الاثنين 7 ربيع الآخر 1439هـ الموافق 25 ديسمبر 2017م، وهو ما ينمّ على أن القائمين بهذا العمل كانوا ينطلقون من حقد وضغينة داخل نفوسهم، هذه التعبئة المتطرفة هي التي دفعت إلى هذا العدوان الآثم، لذلك لا يصح قبول أيّ تبرير، ولا تداول أيّ رواية أو تفسير يشكّل غطاءً لهذا الفعل الإجرامي القبيح، إنه فعل مدان، واعتداء أثيم، يحرّمه الدين، ويجرّمه القانون، ويرفضه المجتمع، مهما اختلفت مع هذا الرجل، هو من أبناء مجتمعك، وينتمي إلى السلك الديني، ويشغل موقعًا رسميًّا، فكيف يعتدى عليه  بهذه الطريقة البشعة؟! لديه عائلة وأولاد وأقرباء وكلّهم يعيشون الألم مما حدث، نسأل الله له الرحمة، وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان، ويعظّم لهم الأجر، وأن يحمي مجتمعنا وبلادنا من شرّ الأشرار، ويحمي شبابنا وأبناءنا من توجّهات التطرّف والعنف والإرهاب.

* خطبة الجمعة بتاريخ 11 ربيع الثاني 1439هـ الموافق 30 ديسمبر 2017م.
[1]  تحف العقول، ص488.
[2]  جامع أحاديث الشيعة، ج14، ص540.
[3]  بحار الأنوار، ج75، ص211، ح 7.
[4]  عيون الحكم والمواعظ، ص281، حكمة: 5072.
[5]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص228، حكمة: 42.