التحولات الاقتصادية والتكيف المطلوب

 

وردَ عن الإمام علي أنه قال: «مَن أقَلَّ الاستِرسالَ سَلِمَ ، مَن أكثَرَ الاستِرسالَ نَدِمَ»[1]  .

من طبيعة الحياة الصيرورة والتغير، فليس هناك حالة ثبات واستقرار في أمور الحياة، فجسم الإنسان تعرض عليه التحولات المختلفة، من الصحة إلى المرض، ومن القوة إلى الضعف، وكذلك الانتقال من مرحلة إلى مرحلة عمرية أخرى، كما يقول الله سبحانه: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً[سورة الروم، الآية: 54]. وحتى في مجال الفكر، فإنّ الإنسان يزداد نضجًا، وتتكامل آراؤه مع مرور الزمن، فقناعات الإنسان ليست ثابتة دائمًا، فقد يقتنع برأي أو فكرة وبعد مدة من الزمن يتحول إلى رأي آخر، ويستبدل تلك الفكرة بفكرة أخرى.

وكما قال الشاعر إيليا أبو ماضي في الطلاسم: 

رُبَّ فِكرٍ لاحَ في لَوحَةِ نَفسي وَتجلَّى
                                           خِلتُهُ مِنِّي ولكنْ لمْ يُقمْ حتَّى تَولَّى
مِثلَ طَيفٍ لاحَ في بئرٍ قَليلًا واضمَحَلّا
                                           كيفَ وافى ولِماذا فرَّ مِنِّي؟ لَسْتُ أدري!

إذًا.. فكر الإنسان تطرأ عليه التغيرات والتحولات، وكذلك الواقع الاجتماعي الذي يعيشه، يتغير ويختلف من ظرف إلى آخر، حيث تمرّ المجتمعات بحالات من التغير والتطور في أنظمتها وأعرافها وتقاليدها، وعلى الصّعيد الاقتصادي تمرّ على الإنسان الفرد والمجتمع أوضاع مختلفة، من رخاء ورفاه ووفرة مالية، إلى تقشّف وتأزّم اقتصادي، هذه حالات مختلفة تمرّ على الإنسان الفرد والمجتمع، فالحياة في تطور وتغيّر وصيرورة دائمة.

نعم.. قد يرتاح الإنسان لحالة من الحالات ويألفها، يعيش حالة الصحة والنشاط والقوة فيألفها ويتصور أنها حالة ثابتة طول حياته، ولكن هل يحصل للإنسان ذلك؟!

قد تحدث تحولات على جسمه، إما تحولات طبيعية بفعل تقدم السنّ أو طارئة لأسباب وأمراض.

وهكذا في المجالات المختلفة تحصل تغيرات، أنت ترتاح إلى حالة وتتصور أنّها ستستمر، لكن ليس بيدك ضمان استمرارها.

على الإنسان أن يدرك هذه الحقيقة: أنّ الوضع الذي يعيشه وإن كان مرتاحًا له، ليس مضمون الدوام والاستمرار، فذلك خلاف طبيعة الحياة.

لا بُدّ وأن يستحضر هذه الحقيقة حتى لا يصطدم بالتغيرات التي لم يكن يتمنّى حصولها وحدوثها وبالتالي يعاني من ارتداداتها.

وقد وردت نصوص دينية تشير إلى هذه الحقيقة، فعن الإمام علي أنه قال: «مَن وَثِقَ بِالزَّمانِ صُرِعَ»[2] ، أي من ظنّ أن هذه الحالة التي يعيشها في هذا لمقطع الزمني حالة دائمة مستمرة سيصطدم مستقبلًا بالمتغيرات وستطيح به!!

المنهجية الواقعية في التعامل مع تطورات الحياة تقتضي أمرين:

الأول: الوعي بطبيعة التحولات في الحياة

فليس صحيحًا أن يعيش الإنسان الخيال والوهم، فيتصور أنّ الحالة التي يعيشها دائمة مستقرة، نعم.. عليه أن يعمل من أجل أن تكون حياته مستقرة، لكن قد تطرأ ظروف وأوضاع أخرى، وعليه أن يستعد لها، كما عليه أن يستشرف المستقبل، بحيث يكون لديه وعي ومتابعة وإدراك لما حوله، حتى لا يتفاجأ بما يحدث!

ورد عن الإمام علي أنه قال: «أَعْرَفُ النّاسِ بِالزَّمانِ مَنْ لَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْ أَحْداثِه»[3]  الإنسان الذي لديه معرفة واستشراف للمستقبل لا يتفاجأ بالأحداث؛ لأنها أمور محتملة واردة في ذهنه وفكره، وعن الإمام الصادق : «الْعَالِمُ‏ بِزَمَانِهِ‏ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِس»[4] .

فلا بُدّ للإنسان أن يستشرف المستقبل في مختلف جوانب حياته، أنت تعيش مرحلة الشباب، لكن عليك أن تستشرف مستقبل المرحلة القادمة، حينما تنتقل إلى مرحلة عمرية أخرى.

كيف سيكون وضعك الصحي؟!

كيف سيكون وضع جسمك؟!

هل سيستمر جسمك على الحالة التي ألفتها ونشأت بها في مرحلة الشباب؟

بالطبع، كلّا!!

الأطباء ينصحون بضرورة عمل الفحوصات الطبية عند وصول الإنسان إلى سنّ الخمسين فما فوق، ففي هذه المرحلة العمرية تبدأ بعض التغيرات في جسم الإنسان، وتظهر بعض الأعراض، وعليه أن يتأكد من نسبة السكر ووضع القلب وحالة (البروستات). 

وكما في المجال الصحي كذلك في المجال الاقتصادي والاجتماعي، ينبغي للإنسان أن يستشرف التحولات والتطورات.

الثاني: المرونة في التكيف مع المتغيرات

يسترسل كثيرٌ من الناس مع ما ألفوه، وتصعب عليهم الاستجابة للمتغيرات، وهؤلاء تتضرر حياتهم كثيرًا.

نحن نلاحظ مثلًا حتى على مستوى تغيرات الطقس، يعيش الإنسان جوًّا معتدلًا أو صائفًا، فيرتدي ملابس مناسبة لهذا الطقس، ثم يتغير الجو إلى طقس بارد، لكن البعض لا يتكيف مع هذا التغير سريعًا فيرتدي ما يقي جسمه بداية البرد، فيبقى على ملابسه الصيفية، ويحتاج إلى زمن حتى يقتنع بضرورة التغيير، ويستخدم ملابس الشتاء، وقد يصاب بمرض أو وعكة صحية بسبب تأخر تكيّفه مع تغيرات المناخ.

أو من يسافر إلى بلد آخر ولا يتكيف بسرعة مع متطلبات الطقس، ولذلك ورد عن الإمام علي أنه قال: «تَوَقَّوُا الْبَرْدَ فِي أَوَّلِهِ، وَتَلَقَّوْهُ فِي آخِرِهِ؛ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْأَبْدَانِ كَفِعْلِهِ فِي الْأَشْجَارِ، أَوَّلُهُ يُحْرِقُ، وآخِرُهُ يُورِقُ»[5] .

البعض ليس لديه مرونة التكيّف، بل يبقى مسترسلًا على ما كان عليه، فيدفع الثمن، بينما لو بادر للتكيف لحمى نفسه من الأخطار، يقول الإمام علي كما ورد عنه: «مَن أقَلَّ الاستِرسالَ سَلِمَ»[6] .

البعض يستهلك وقته وجهده في التذمّر، ينتقد الأوضاع المتغيرة، فيعيش الشعور باليأس والإحباط، وينشر هذه المشاعر في الأجواء المحيطة، دون أن يبذل جهدًا لاستيعاب التغيّر، والتكيّف مع متطلباته.

المطلوب هو التفكير الجدّي في تطوير التعامل مع الموقف والواقع الجديد، حتى يتم تلافي الارتدادات والسلبيات، فالتذمر لا يجدي ولا يفيد، بل يزيد العبء النفسي على الانسان، ويعوقه عن التفاعل الإيجابي.

ونستحضر في هذا السياق كلمة جميلة وردت عن الإمام علي يقول فيها: «مَن عَتَبَ عَلى الزمانِ طالَت مَعتَبَتُهُ»[7] .

العتاب لا يجدي نفعًا، بل عليك أن تتكيّف وتعيد التموضع في أمور حياتك وترتيب أوضاعك.

كيف نتكيّف مع التحولات الاقتصادية؟

في هذه الأيام ينشغل الناس في بلادنا بالتطورات والتحولات الاقتصادية التي ترتبط بحياتهم، من رفع أسعار الطاقة الكهربائية والماء والبنزين، إلى ارتفاع أسعار مختلف السلع بسبب ضريبة القيمة المضافة، وقد سبق الحديث عنها في وسائل الإعلام، وحددت مواعيد تطبيقها، فهي ليست مفاجئة، لكن التعاطي معها يحتاج إلى رؤية وتفكير عملي. 

لا نريد هنا تحليل هذا التطور، فذلك شأن الخبراء الاقتصاديين، كما لا نريد توصيف الواقع وذكر الشواهد، فذلك ما يعيشه الناس عمليًّا في حياتهم اليومية.

ما أريد التأكيد عليه هو عدم التباطؤ في التكيف مع الواقع الاقتصادي الجديد، علينا أن نكون مرنين مبادرين إلى التكيف مع هذا الواقع، وذلك عبر النقاط التالية:

أولًا: ترشيد الصرف والإنفاق

لا يصح أبدًا أن يكون صرفنا وإنفاقنا كما كان في الماضي، على كلِّ واحدٍ منّا سواء على مستوى حياته الفردية أو العائلية أن يعيد النظر في استهلاك الماء والكهرباء والمواد الغذائية، فكثير من استهلاكنا مبالغ فيه، وهذا ما نعرفه جميعًا، لكننا نعيش حالة الاسترسال!!

أرأيت لو أن إنسانًا أخبره الطبيب بارتفاع مستوى السكر لديه، ألا يجب أن يعيد النظر في نظامه الغذائي؟!

البعض يصعب عليه التكيف مع واقعه الجديد، والواقع أنّ الإنسان لديه عقل وإرادة، لا بُدّ أن يُحكّم عقله، ويُعمل إرادته، ويغير عاداته.

نحن مدعون إلى ترشيد صرفنا على المستوى الفردي والعائلي وعلى مستوى العادات والأعراف الاجتماعية.

يتحدث الناس في المجالس عن الصعوبات الاقتصادية والضرائب، لكن ذلك لا ينعكس على واقع الصرف في الزواج أو مجالس العزاء!!

نجد في مجتمعاتنا صعوبة في سرعة التأقلم وإعادة التموضع، وهذا يسبب ارتدادات كبيرة على حياتنا، وقد يسبب مشاكل نفسية أو خلافات عائلية واجتماعية، فعلينا ألا نتوانى، وأن نستثمر هذه الأجواء لتغيير بعض العادات المرهقة.

لقد أصبحت العادات والأعراف في مناسباتنا الاجتماعية والدينية ترتبط بمقدار مبالغ فيه من الصرف، بل أضحى من لديه مجلس أسبوعي ملزمًا بالإطعام أو توزيع بعض المأكولات!!

وفي مناسبات الزواج لا تقتصر المأدبة على ليلة الزفاف، بل انسحبت إلى حفلة الخطوبة!!

وهو أمر مكلف، فيه مبالغة، وصرف للمال في غير محله، وإن قال المتمكن ماليًّا بسهولة الأمر عليه، ففيه إحراج لسائر الناس، فلماذا نشق على أنفسنا؟!

ولماذا نكرّس هذه العادات المكلفة؟!

ثانيًا: السعي لزيادة الدخل

على كلّ واحد أن يفكر كيف يعدّد ويزيد موارد دخله، الفرص قائمة موجودة، نعم.. هناك صعوبات ومشاكل، لكن الإنسان إذا جدّ واجتهد فإنه يستطيع أن يجد له كثيرًا من الفرص.

في بعض الأحيان نحن نبني حياتنا على الراحة، نعتبر أن فترة واحدة من العمل كثيرة علينا، بينما نجد في البلدان الأخرى كيف أنّ الواحد منهم يعمل أكثر من عمل، حتى يعدّد مصادر دخله، وهنا لا بُدّ أن نحذر من التفكير في الربح السريع، مما يتيح فرصة للنصابين وشركات الاحتيال، فهناك بعض الناس وقعوا ضحية عمليات النصب التي تغري بالربح السريع، بسبب التفكير بهذه الطريقة الساذجة.

على الإنسان أن يجدّ ويجتهد ولا يصرف أوقاته في الجلسات الفارغة التي تستهلك الوقت دون فائدة.

ثالثًا: التعاون والتفكير في مناطق الضعف الاجتماعية

علينا أن نتعاون مع بَعضنَا ونوسّع دائرة اهتمامنا، ففي ذلك خير وبركة لنا في الدنيا والآخرة.

في كثيرٍ من الأحيان يمكن للجيران والأقارب أن يتعاونوا في نقل أطفالهم إلى المدارس، بسيارة واحدة، بدل أن يكون هناك استهلاك مكرر للوقود، لكن ذلك يحتاج إلى نوع من التنسيق والتعاون، وكذلك بعض الموظفين يعملون في مناطق بعيدة وطريقهم واحدة، يمكن أن يجتمعوا في سيارة واحدة تقلّهم إلى مقرّ عملهم.  

من جهة ثانية، علينا أن نفكر ونتفاعل مع أوضاع الفقراء في مثل هذه الظروف والأوضاع، كما أنّ على الجمعيات الخيرية أن تعيد النظر في مساعداتها، فلا يصح أن تقف عند حدود الأرقام السابقة، مع تغيّر الظروف الاقتصادية، وهي حالة عامة في كلّ بلاد العالم.

* خطبة الجمعة بتاريخ 18 ربيع الثاني 1439هـ الموافق 6 يناير 2018م.
[1]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص332، حكمة رقم 317.
[2]  الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص54، ح204.
[3]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص111، حكمة رقم 241.
[4]  الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص27، ح29.
[5]  نهج البلاغة، حكمة رقم 128.
[6]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص332، حكمة رقم 317.
[7]  الشيخ الصدوق، الأمالي، ص531، ح9.