الارتباط بالله بين الاستمرارية والموسمية

 

﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[سورة يونس، الآية:12].

قد تمُرُّ بِالإنسان  ظروفٌ صعبة، وتَحدياتٌ قاسية، في وضعهِ الصحي، أو حالته النفسية، أو وضعه الاجتماعي، ومع هذه الظروف يشعر الإنسان  بضعفهِ الذاتي، و أنهُ عاجزٌ عن المواجهة والتحمُل، أمام التحديات القاسية التي تَمر عليه، فهو بحاجة إلى  المُساعدة والدعم، فتوجهه فطرته للالتجاء إلى  الله، إلى القوةِ المطلقة المهيمنة على الكون.

لماذا يلتجئ الإنسان في مثلِ هذه الحالات الصعبة إلى  الله؟! 

لأنه يدرك بفطرتهِ أنّ هذه القوة المطلقة هي الأقدر على مُساعدته، وهي الأقرب إليه، و لو أراد أن يلجأ إلى  أيّ جهة أخرى فقد لا يتيسّر له الطريق والسبيل، لكنه بفطرتهِ يجد الطريق مفتوحًا بينه وبين ربه، لذلك يلتجئ  إلى الله عندَ محنهِ وظروفهِ الصعبة، والتحديات القاسية التي تمرّ به.

ماذا يعني الالتجاء إلى الله في الأزمات؟

يعني وجود بارقة أمل ورجاء في نفس الإنسان، فيتوجه إلى الله منطلقًا من شعوره بأنّ هناك قوة يُمكنها أن تُساعده وتنقذه وتخلّصه، هذا الشعور يعطي الإنسان  زخمًا ومعنويات رفيعة، تساعدهُ على تحمّل الظروف الصعبة التي يعيشها.

وحين يفقد الإنسان الأمل في النجاة والخلاص، تخورُ عزيمته، وتنهارُ قواه، لكنه حين يلتجئ إلى الله يتحرك الأمل في داخله، وهذا له دور كبير في بحث الإنسان عن الوسائل وتشبّثه بها، أما إذا فقد الأمل لن يبحث عن الوسائل، فالالتجاء إلى الله محفّز للإنسان للبحث عن الوسائل والسُبل والأدوات.

ومن بركات وثمار الالتجاء إلى الله: 

أولًا: يرفع معنويات الإنسان

لو قرأنا قصص الأشخاص الذين تعرضوا لِحَوادث خطيرة أشرفُوا فيها على الهلاك ثم نجو منها، بينما هلك أقرانهم، لتبيّن لنا تأثير المعنويات الرفيعة المنبثقة من ثقة الإنسان بالله والتجائه إليه سبحانه.

في كلّ سنة هناك آلاف المهاجرين عبر البحر إلى أوروبا، يركبون القوارب غير المهيأة لاجتياز أعالي البحار، فيموت الكثير منهم غرقًا، لكنّ هؤلاء المهاجرين يرون أنفسهم مضطرين لمغادرة بلادهم بسبب الظروف الصعبة التي يعيشونها. 

وتنقل التقارير انطباعات وذكريات الناجين منهم، حيث يتحدث بعضهم عن أمله وثقته بالله، وأنّ ذلك أعطاه طاقة معنوية كبيرة مكنته من النجاة، وإلى جانبه من فقد الأمل فخارت قواه ومات غرقًا، البعض يقول كنت أشجّع من بجانبي، لكن بعضهم يصلون إلى حدّ اليأس، فيقول بعضهم: لا فائدة ولا جدوى!!

الإنسان الذي تخمد شعلة الأمل في داخله لا يبحث عن وسائل، وحتى لو وجد وسيلة يعتقد بعدم جدواها!!

البعض يصاب بمرض فتقترح عليه علاجًا مفيدًا، أو لديه مشكلة ما فتعرض له طريقة للحل، فيجيبك بأن لا جدوى ولا فائدة!!

ثانيًا: يحفزُ الإنسان للبحث عن الوسائل

عندما يلتجئ الإنسان إلى ربه، يتحفّز للبحث عن الوسائل، ويتشبث بها، ولدينا نصوص وتوجيهات دينية تشير إلى هذا الأمر، ورد عن الإمام علي : «كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو»[1]  في بعض الأحيان ترى أنّ الأمل ضعيف والاحتمال محدود، لكن التوجيه الديني يقول لك: هذا الذي تراه ضعيف التحقق، قد يقودك إلى النجاة والحصول على ما تريد، مما يحفّز الإنسان بألّا يستهين بأيِّ وسيله من الوسائل.

في بعض الأحيان يُعلن عن وظائف شاغرة، فترى الشابّ الجادّ يبادر ويقدّم أوراقه، والبعض الآخر لا يتحفّز، وعندما تشجعه يجيبك بعبارات اليأس: (لا فائدة)، (لا جدوى) (الإعلانات مجرد كلام)، وذلك لأنّ الأمل خبا في نفسه، فليس لديه دافعية من أجل مواصلة البحث عن الحل. 

توكل على الله

ورد عن رسول الله : «مَن سَرَّهُ أن يَكونَ أقوَى النّاسِ فلْيَتَوكَّلْ علَى اللّه»[2] . 

ماذا يعني أن يتوكل على الله؟

يعني أن تكون لديه ثقة وعزيمة تجعله يبادر ويتحفّز، فبمجرد أن تعرض عليه الفكرة المناسبة يجيبك (توكلنا على الله) فهي عبارة الثقة و المبادرة، وهذا هو الاستيحاء الصحيح من معنى التوكل على الله. 

وورد عن الإمام علي : «يا أيُّها النّاسُ، تَوَكَّلوا علَى اللّه ِ وثِقُوا بهِ ؛ فإنّهُ يَكفي مِمَّن سِواهُ»[3]  ثقوا بالله، بمعنى أن تحفّزوا واندفعوا لعمل ما تستطيعون، ولتكن ثقتكم بالنجاح والخلاص والفوز هي من ثقتكم بالله سبحانه وتعالى .

وعنه : «أَصْلُ قُوَّةِ الْقَلْبِ التَّوَكُّلُ عَلى الله»[4]  فالالتجاء إلى الله يعطي الإنسان قوه نفسية كبيرة.

وعنه : «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ ذَلَّتْ لَهُ الصِّعَابُ وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الاَْسْبَابُ»[5] . 

الإنسان  الجادّ يبحث عن القصص وعن الشواهد التي تحفّزُه، لكن من تخبو شعلة الأمل في نفسه يبحث عن الشواهد المعاكسة، فيذكر قصص المتعثرين والفاشلين، هذا هو الفارق بين المتوكل وفاقد الأمل.

ثم إنّ التوكل على الله لا يعني الانكفاء وترك الوسائل، ففي السيرة النبوية رأى رسول الله قومًا لا يزرعون قال: ما أنتم؟ 

قالوا: نحن المتوكلون. 

قال: «لا بل أنتم المتكلون»[6] . 

الآية الكريمة تقول: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان  الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى  ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

وهي تشير إلى  مشكلة يعاني منها الإنسان  في كثير من الأحيان، وهي أنّ علاقته وارتباطه بالله حسب الحاجة والاضطرار، إذا كانت لديه حاجة، مرض أو مشكلة، يدعو ويتوسّل ويتضرع إلى  الله، وإذا انتهت المشكلة يبدأ في التراجع، ويخبو ذلك التفاعل والارتباط بالله تعالى، وكأنّ العلاقة مع الله علاقة موسمية، ويشير القرآن الكريم في أكثر من آية إلى  هذه المشكلة.

نحن نرى في حياتنا الاجتماعية بعض هذه النماذج، ترى شخصًا يسأل عنك، ويتواصل معك، ويكثر من زيارتك، لوجود حاجة ما، فإذا انتهت حاجته وقضيت، انتهت علاقته بك، بل ربما يمرّ دون أن يسلّم عليك!!! 

ترى، ما هو تصورك لهذا الشخص؟!

تتساءل: أين المشاعر الإنسانية؟!

بل ربما تقول في نفسك: إنّ هذا الشخص لا يستحقّ أن يُـحسن إليه!

مع الأسف في كثير من الأحيان هناك من يتعامل مع ربه هكذا ﴿مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ.

كأنّ الله لم يحل مشكلته!!

في أكثر من آية يندّد القرآن الكريم بهذه الحالة الموسمية في الارتباط بالله تعالى:

يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ[سورة الزمر، الآية: 49].

ويقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة يونس، الآية: 12].

إذا تيسّرت أموره انتهت مشاكله، لا يقول إنّ ذلك بمعونة الله وتوفيقه، بل يقول أنا عندي كفاءة وقدرات ومؤهلات!!

في آية ثالثة يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ[سورة الزمر، الآية: 8].

ترى لماذا تتعدد الآيات بهذا المضمون؟

إنّ ذلك يدلّ على ذمّ هذه الحالة، القرآن الكريم يندد بهذه الحالة، ويذكر الإنسان: لا تكن علاقتك مع الله وارتباطك به ارتباطًا موسميًّا حسب الحاجة والاضطرار، بل يجب أن تكون في علاقة دائمة ومستمرة مع الله سبحانه.

والارتباط الدائم مع الله له مظهران:

المظهر الأول: البرامج العبادية

(الوِرد، والأوراد) مصطلح معروف، ويعني التزام الإنسان بذكر الله تعالى ضمن برنامج عبادي يومي مستمر، وقد عرف عن العباد والصالحين التزامهم بالأوراد.

ينبغي للإنسان أن يكون له مثل هذا البرنامج، فلا يكتفي بالصلاة الواجبة، بعض الأولياء يلتزمون في وقت (ما بين الطلوعين) بالذكر والتسبيح والدعاء، ومع اختلاف نظام حياة الناس الآن، يمكن للإنسان أن يختار أيّ وقت يناسبه، كوقت الغروب، أو منتصف الليل، المهم أن تجعل لك برنامجًا يوميًّا، تخصصه للعبادة والذكر، كوسيلة من وسائل الارتباط بالله.

المظهر الثاني: الطاعة والالتزام بأوامر الله

وذلك بمراقبة السلوك اليومي، ومدى انسجامه مع أوامر الله ونواهيه. 

وهذا هو الارتباط الحقيقي بالله سبحانه وتعالى، من خلال هذين الأمرين يستحضر الإنسان قوة ربه ورحمته، ويكون متصلًا بربه بشكل دائم. 

سئل الإمام الصادق : (مَنْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ ذِكْراً لِلَّهِ، وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ)[7] .

ومن الارتباط الدائم بالله يحصل الإنسان على فوائد وعوائد، منها:  

تكون نفس الإنسان طرية، وعامرة بالثقة بالله سبحانه وتعالى دائمًا وأبدًا، وتكون المبادئ والقيم الإلهية حاضرة في نفسه.

يكون أقرب للهداية وأبعد عن المعصية والضلال.

يكون دعاؤه أقرب للإجابة.

يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ[سورة البقرة، الآية: 152].

ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد، الآية: 28].

فعلى الإنسان أن يجعل ارتباطه بالله تعالى ارتباطًا دائمًا مستمرًّا، حتى تكون القيم والمبادئ ماثلة أمامه، ويستلهم الثقة والعزيمة والصبر من الله سبحانه وتعالى.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لذكره وعبادته وطاعته، وألّا يجعلنا بعيدين عنه وأن يستجيب لنا دعاءنا إنه سميع مجيب.

* خطبة الجمعة بتاريخ 30 جمادي الأولى 1439هـ الموافق 16 فبراير 2018م.
[1]  الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص83، ح3.
[2]  كنز العمال، ج 3، ص 101، ح 5686.
[3]  ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج2 ص270.
[4]  عيون الحكم والمواعظ، ص 120، حكمة: 2735.
[5]  عرر الحكم ودرر الكلم، ص 338، حكمة: 537.
[6]  السيد البروجردي: جامع أحاديث الشيعة، ج14، ص148.
[7]  المحاسن: ج 2 ص 432 ح 2499.