التنوع والتعايش

أنس بن يونس مجلة تعايش

 

إن تحقيق التعايش يستوجب العمل المسؤول، من أجل بناء مجتمع عالمي، قائم على المحبة الإنسانية، وفق مهمة، يجب أن تتآزر على النهوض بها، مختلف الجهات الفاعلة في المجتمعات المدنية. هذا هو فحوى كتاب "التنوع والتعايش" للدكتور حسن الصفار.

يرى الصفار أن أول خطوة تضعنا على طريق التنمية والتقدم هي امتلاك إرادة التعايش والقدرة على تحقيقه. "فإذا ما اعترفنا ببعضنا بعضا، واحترم كل واحد منا الآخر، وأقر بشراكته ودوره، حينئذ يمكننا العمل معا؛ لتجاوز حالة التخلف العميق، والانطلاق نحو أفق الحضارة الواسع".مجلة تعايش

في الفصل الأول الذي يحمل عنوان "التنوع ظاهرة كونية واجتماعية"، ينطلق الكاتب من فكرة مفادها أن الإنسانية على الرغم من أنها مشتقة من الإنسان الذي يعود في الأصل إلى مصدر أو نفس واحدة، هي نفس أبونا آدم عليه السلام، حسبما جاء في القرآن الكريم، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، إلا أن استمرار حركة التناسل البشري، واتساع رقعة معيشتهم على سطع المعمورة، أدى بمرور الزمن، إلى أن تتكيف مظاهر وأشكال تكونهم الجسدي؛ بما يتناسب وظروف المحيط الطبيعي الذي يعيشون فيه، ونظرا لاختلاف الأجواء والظروف الطبيعية التي تعيشها مجاميع البشر، فقد أفرزت حالات من الاختلاف في المظاهر والأشكال بين تلك المجاميع. ومن أبرز صور التنوع، نجد التنوع الديني، فالله سبحانه، لم يترك الإنسان حيران، تتقاذفه أمواج التساؤلات؛ من دون إجابة، فبعث له أنبياء هداة، يرشدونه إلى الطريق القويم. و"لكن دور الأنبياء يقتصر على تبليغ رسالة الله، وليس لهم حق السيطرة والهيمنة، وإجبار الناس على قبول الدين".

رؤية إسلامية

في الفصل الثاني يتناول المؤلف موضوع "التنوع والاختلاف رؤية إسلامية"، فبدأه بملاحظة، يقول فيها "كثيرا ما كان التنوع بين أبناء البشر سببا للصراع، إما لسعي فئه ما باتجاه الغاء شخصية الفئات المختلفة والمغايرة، وإخضاعها والهيمنة عليها، وإما لبروز نظريات وتصورات واهمة بذاتية التفوق؛ لانتماء معين على الآخرين، وإما لوجود جهة تستغل حالة التنوع؛ بإذكاء الخلاف والعداء من أجل مصلحة أو مطمع". ولكن ما رؤية الإسلام للتنوع والتمايز بين أبناء البشر؟

يرى الكاتب أنه بالتدبر في آيات القرآن الحكيم، والقراءة الواعية لنصوص السنة الشريفة، وسيرة أئمة المسلمين، يمكننا أن نستشف رؤية واضحة؛ للتعاطي مع موضوع التنوع والاختلاف. فالقرآن يوجه أنظار البشر وعقولهم، إلى التأمل والتفكر في دلالات هذا التنوع والتغاير في المخلوقات، مع رجوعها إلى أصول ومكونات واحدة، ففي ذلك أجلى الآيات على قدرة الخالق وعظمته، وعلى إبداعه، حيث يضفي هذا التنوع على الكون والحياة جمالا وروعة.

هذا التنوع شمل كل شيء، وهو ما يستدعي التأمل والتفكير، ومن الأمثلة على ذلك، يذكر الصفار:

أ- العسل، فهذا الغذاء القوي الشهي، الذي ينتجه النحل بعد امتصاصه رحيق الأزهار، يأتي في ألوان مختلفة ونكهات متعددة، فقال تعالى: ﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴿٦٨﴾ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٦٩﴾

ب- في مورد آخر، يتحدث القران الكريم عن التنوع في عالم النبات والجماد والإنسان، وأن التأمل في ظاهرة التنوع الشاملة في الكون، والبحث العلمي عن أسرارها وأبعادها، يقود الإنسان إلى إدراك شيء من عظمة الخالق المدبر، وقدرته البالغة، حيث يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴿٢٧﴾ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿٢٨﴾.

ج- ضمن هذا السياق، يأتي الحديث عن التنوع في عالم الإنسان، حيث تختلف أعراقه وقومياته، ولغاته وألوانه، ووراء كل ذلك حقائق وأسرار، لا يدركها إلا من اجتهد في البحث العلمي، حيث يتضح للعلماء أن ذلك التنوع، ما هو إلا مظهر من مظاهر القدرة والحكمة الإلهية.

مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ. فهذه الآية كافية للتصدي لكل فكر متعصب، لا يؤمن بالاختلاف، ولا يؤمن بالتسامح والتعايش والأخوة؛ في إطار احترام إنسانية الإنسان.

مشروعية التنوع

بعد هذه الإشارات الربانية الكونية، ينتقل الصفار للحديث عن مشروعية التنوع، وفي نظره أن التنوع بين الناس على نوعين:

الأول: تنوع طبيعي تكويني، وجد الناس أنفسهم ضمنه، من دون اختيار منهم، حيث لا يستشار أحد، ولا يخير قبل مجيئه لهذه الدنيا، في انتمائه العرقي أو القومي، ولا في ملامح شكله ومظهره، فالأبيض لم ينتخب البياض لنفسه، ولا الأسود اختار السواد لشكله، ولم يقرر أحد من البشر لنفسه أن ينحدر من السلالة التي انحدر منها، أو ينتمي إلى القومية التي وجد نفسه منتميا إليها. هذا التنوع الطبيعي يتم بالمشيئة الإلهية. لذلك يعبر عنه تعالى بالجعل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ. فالله سبحانه هو الذي جعلنا متنوعين في أعراقنا وقومياتنا وشعوبنا. ما يستوجب التعارف والتعايش والتسامح، وكأننا جسد واحد لإنسان واحد، وقربنا من الله، تحدده أعمالنا الصالحة التي تفيد الإنسانية في تطورها.

وهذا ما يعني أن أصحاب دعوى امتلاك الحقيقة، وتكفير الناس؛ بجعل هذا يدخل الجنة والأخر النار، إنما هم في طريق آخر غير الطريق الكونية التي رسمها الله للإنسانية.

الثاني: تنوع اختياري كسبي، يرتبط بقناعات الإنسان وأفكاره، ونمط سلوكه واتجاهه، فكل إنسان هو الذي يقرر ما يعتنق من دين، وما يؤمن به من فكر، وما يرتضيه لنفسه من ثقافة. وتبعا لذلك تتعدد الأديان بين الناس، وتختلف المدارس الفكرية.

هذا النوع بتعبير الصفار "ناشئ من تقدير الله تعالى وحكمته؛ لوجود الإنسان في هذه الحياة، حيث خلقه الله تعالى حرا مريدا مختارا".مجلة تعايش

منهاج التعايش

في الفصل الثالث "التعايش منهج وتطبيق"، يرى الصفار أن أبناء البشرية في هذه الحياة الدنيا، يعيشون على تنوعهم وتمايزهم، ضمن حياة مشتركة، متداخلة المصالح والمنافع، ولا يمكن لأي نوع من أنواع البشر أن يختاروا لأنفسهم زاوية من زوايا الدنيا، فيقبعون فيها بعيدا عن الآخرين، من دون أي تأثر أو تأثير. ذلك لأن "التنوع داخل كل نوع، فلو اختار السود أو البيض مثلا، جهة من الكرة الأرضية، فإنهم لن يكونوا جميعا متطابقين في كل شيء، بل سيعيشون أدوار التنوع المختلفة داخلهم، قوميًا أو قبليًا أو دينيًا. وكذلك لو انحاز المسلمون أو المسيحيون مثلا، إلى ركن من الأرض، فإنهم سيشتملون على تعددية في الأعراق، والقوميات والمذاهب والتوجهات، وذلك يعني أن تستمر حالة الفرز والانعزال؛ حتى تصل إلى أضيق الدوائر، مما يتنافى مع طبيعة الحياة والبشر". فالتنوع أمر طبيعي وما على الإنسان إلا قبول هذا التنوع والتعايش مع أخيه الإنسان؛ من دون أي اقصاء.

ويضرب الصفار مثالا للتعايش؛ بما وقع في السنة الأولى لتأسيس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، بعد هجرة الرسول إليها، حيث وضع دستورًا سياسيًا تنظيميًا، لإدارة المجتمع والدولة الإسلامية الناشئة، عرف بصحيفة المدينة، وقد تضمنت هذه الصحيفة الاعتراف بمواطنة غير المسلمين، وعضويتهم في تكوين المجتمع الجديد، وحددت الواجبات عليهم، والحقوق التي كانت لهم، شأنهم شأن بقية المواطنين المسلمين.

تقول إحدى فقرات تلك الصحيفة، التي أملاها رسول الله وأمضاها:

- "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف....". وتُعدد الصحيفة سائر قبائل اليهود في نفس السياق، ثم تضيف: - "وان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وان بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم. وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم. وان اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة".

من خلال تأمل الفقرتين، نجد أن الرسول لا يشترط؛ لإقامة الدولة ان يكون المجتمع كله إسلاميًا خالصًا، فالرسول ، جسد التنوع في إقامة الدولة، وهذا ما يستدعي الانتباه اليوم إلى ضرورة تقبل الآخر، والتعايش معه، خاصة مع كثرة الهجرة وما نتج عن ذلك من تواصل بين الأعراق والأجناس والأديان.

وفي هذا السياق، كتب رسول الله كتابا لنصارى نجران، يؤكد فيه حقوقهم الكاملة:

بسم الله الرحمن الرحيم، مِنْ رَسُولُ اللَّهِ لِأَسْقُفِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ وَكَهَنَتِهِمْ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَنَّ لَهُمْ عَلَى مَا تَحْتِ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ بِيَعِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ وَرَهْبَانِيَّتِهِمْ، وَجُوَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَلَّا يُغَيَّرَ أَسْقُفٌ عَنْ أَسْقُفِيَّتِهِ، وَلَا رَاهِبٌ عَنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٍ عَنْ كَهَانَتِهِ، وَلَا يُغَيَّرَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا سُلْطَانِهِمْ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مَا نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا فِيمَا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقِلِينَ بِظُلْمٍ وَلَا ظَالِمِينَ". إذن، الحرية مضمونة في الإطار الإسلامي، ما يجعل التعايش ليس ضرورة مدنية فقط، وإنما واجب ديني أيضا. فالرسول الكريم استطاع القضاء على العصبية والقبلية وشجع على الاندماج؛ بغض النظر عن الأعراق أو القوميات أو الدين.

 

 

مجلة تعايش، العدد السادس، يوليو 2019م. (ص 82-84) فصلية يصدرها منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية – الإمارات العربية المتحدة.