تقديم لكتاب (البيوتات الجمرية) للشيخ حسن الغسرة

سلّط علماء الأنثروبولوجيا الأضواء على طبيعة المجتمع القرويّ، وبحثوا في دراساتهم التخصصية سمات وخصائص مجتمع القرية، والفوارق بينه وبين مجتمع المدينة.

وكان من تلك السمات التي نالت حظًّا من الاهتمام في دراساتهم وأبحاثهم، ما يرتبط بالعلاقات داخل مجتمع القرية، فهو مجتمع متجانس، تسوده حالة من التضامن والتماسك، وتشتد فيه أواصر العلاقة بدرجة كبيرة، حيث تقوم على اللقاء المباشر الوجه للوجه، في مختلف الأوقات والمجالات، فالشوارع محدودة، وكذلك الأسواق وأماكن التجمعات، فيتلاقى الناس دائمًا وأبدًا، ويتداخلون عائليًّا، لذلك يعرف القروي أفراد مجتمعه كلّهم تقريبًا، بأسمائهم وعوائلهم وانتماءاتهم ووظائفهم وصفاتهم.

فأيّ واحدٍ من أهل القرية يدلك على أيّ بيت تريد فيها، ويعطيك المعلومات الأولية عن كلّ واحدٍ من أهلها.

كما يخضع الناس في القرية لمنظومة من الأعراف والتقاليد، ونظام القيم السائدة التي تحكم مختلف مجالات الحياة، بحيث يصعب على الفرد الانفلات أو التمرّد على شيءٍ منها، فنطاق الفردية محدود للغاية، على الصّعيد الفكري والسلوكي، إذ تسود المجتمع أفكار وتقاليد يأخذ بعضها درجة القداسة، حين تكون له صبغة دينية، أو تجذّرٌ في العرف الاجتماعي.

ورقابة الأسرة والمجتمع في القرية صارمة على الأفراد ومحيطة بهم. كما أنّ مصادر المعرفة والتلقي تكاد تكون موحّدة ومحدودة.

إنّ حالة الطيب والبساطة والمودة والتكافل الاجتماعي، هي من أبرز السمات الإيجابية لمجتمع القرية، الذي تقلّ فيه بسبب ذلك الأمراض النفسية ومعدّلات الجريمة، قياسًا بمجتمع المدينة، كما يشير الباحثون.

وقد عاش جيلنا المخضرم في المنطقة الخليجية، تجلّيات هذه السمات والصفات، في مجتمعات القرى المتناثرة على ضفاف الخليج، كالبحرين والقطيف والأحساء.

لكن القرية الآن تكاد أن تنحسر وتختفي، حيث زحف قسم من أهلها إلى المدن، كما تحولت القرية إلى مدينة، بسبب تطورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فقد انتشر التعليم، وتنوعت مصادر الدخل، وتوفرت الإمكانات المادية، وتقلصت مساحة العمل الزراعي، وتوسّعت الخدمات العمرانية، وغزت القرى العمالة الوافدة من مختلف مجتمعات العالم، على حساب تجانسها الاجتماعي، ولم تعد هناك فوارق كبيرة بين المدينة والقرية.

وهنا تبدو الحاجة ملحّةً على الصعيد الثقافي والتاريخي لتوثيق حياة القرية، في ماضيها المتميّز، ومرحلتها الانتقالية الحاضرة، حفظًا للتراث الاجتماعي، ورفدًا لذاكرة الأجيال الصاعدة، وتذكيرًا بالقيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة، والصفات الجميلة، وإحياءً وتكريمًا للشخصيات الفاعلة المؤثرة، التي قدمت عطاءً علميًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا في مختلف المجالات.

فقد أنجبت هذه القرى علماء وفقهاء فطاحل، وأدباء وشعراء موهوبين، ونشطاء في المجال الاجتماعي، والعمل التطوعي، والنضال السياسي.

ففي هذه القرى تراث يجب أن يحفظ، وعطاء يجب أن يُقدّر، وإسهامات وطنية لا تنكر.

من هنا تأتي قيمة الجهد الكبير الذي بذله أخونا الكريم وصديقنا العزيز الشيخ حسن الغسرة، في توثيق تاريخ مجتمع قريته بني جمرة من قرى البحرين الغالية.

وقد صرف أكثر من عشرين عامًا في جمع هذه المادة المعلوماتية القيمة، عن أنساب البيوت والعوائل في هذه القرية، وتراجم شخصياتها، ووصف أساليب الحياة فيها.

هذه المادة المعلوماتية، يمكن أن تكون مرجعًا ومصدرًا لكثير من الدراسات التراثية الاجتماعية، القائمة على التحليل والمنهجية العلمية.

فشكرًا للمؤلف الكريم على ما بذل من جهد، ووفقه الله للمزيد من العطاء في خدمة الدين والمجتمع.

والحمد لله ربّ العالمين

حسن الصفار

28 ذو الحجة 1437ﻫ

30 سبتمبر 2016م