اتجاهات التثقيف في المجتمع السعودي

 

إننا بحاجة إلى اعتماد وسائل تربوية وبرامج توجيهية لتربية أبنائنا على الاهتمام بالثقافة والمعرفة، كما نحتاج إلى برامج لرصد الحالة الثقافية في المجتمع ومتابعة مستوياتها ومعالجة أسباب تأخرها ومضاعفة اهتمام المواطن بها.

على مستوى العطاء والإنتاج الثقافي هناك تقدم ملحوظ في المملكة يستحق الإشادة والإكبار، حيث أصبحت لدينا مؤسسات ثقافية عديدة ونواد أدبية في مختلف المناطق ومجلات فكرية وعلمية رائدة، لكن مستوى تفاعل المواطن مع الحركة الثقافية ومع الاهتمام الفكري المعرفي يحتاج إلى دراسة وتأمل، فما عدا النخبة المثقفة والمهتمين بالشأن الفكري والأدبي فإن عامة المواطنين لا يخصصون من وقتهم وجهدهم وإمكانياتهم للجانب الثقافي إلا نسبة ضئيلة محدودة.

وضمن هذه النسبة المحدودة من الوقت والجهد الذي ينفقه المواطن على الاهتمام الثقافي فإن التناول السطحي والجانبي هو السمة الغالبة.

ويبدو أن الإنسان في هذا العصر تحيط به الاهتمامات والإنشدادات المختلفة من شؤون الحياة وتوفير مستلزماتها، ومن الإغراءات والرغبات التي تدعمها برامج مكثفة ومتطورة من الدعاية والإعلام، لكن الجانب الثقافي لا يحظى بشيء مناسب من الترويج والدفع والتعبئة باتجاهه.

إننا بحاجة إلى اعتماد وسائل تربوية وبرامج توجيهية لتربية أبنائنا على الاهتمام بالثقافة والمعرفة، كما نحتاج إلى برامج لرصد الحالة الثقافية في المجتمع ومتابعة مستوياتها ومعالجة أسباب تأخرها ومضاعفة اهتمام المواطن بها.

إن التمايز الثقافي والمعرفي في المجتمعات أمر طبيعي، فقد وهب الله تعالى كل إنسان عقلا يفكر به ويدرك به الأمور، وجعل عقل الإنسان وقلبه منطقة حرة لا سبيل لأحد أن يقتحمها بالفرض والقوة، حيث يمكنك أن تفرض على الآخرين ممارسة معينة، أو تجبرهم على القيام بعمل معين، لكنك لا تستطيع أن تجبرهم على الإيمان بفكرة لا يقتنعون بها وإن تظاهروا لك بذلك.

كما أن مستويات أفهام الناس تتفاوت، والظروف التربوية والاجتماعية التي يعيشونها تختلف ولذلك أثر على ثقافاتهم ومعارفهم. لذلك يقرر القرآن الحكيم تفاوت مستوى المعرفة بين الناس، يقول تعالى ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.

بل حتى على مستوى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فإن القرآن يشير إلى اختلاف في تناول قضية والحكم فيها بين نبيين هما نبي الله داود ونبيه سليمان ـ عليهما السلام ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴿٧٨﴾ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.

وبين نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ والخضر ـ عليه السلام ـ ورد حديث مفصل في سورة الكهف، حيث لم يتقبل ولم يستوعب نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مواقف الخضر وتصرفاته في البداية لعدم اطلاعه على ملابساتها وعذره الخضر على ذلك ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾.

فلا يمكننا إذا أن نطلب تطابق الآراء واتفاقها في مختلف القضايا، ومن هذا المنطلق تتعدد آراء الفقهاء والمجتهدين في المسألة الواحدة والحكم الشرعي الواحد على أساس أن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد على ما بذله من جهد في اجتهاده.

نعم في المجتمع المسلم هناك ضابطة الالتزام بالكتاب والسنة مع إفساح المجال لتنوع واختلاف الأفهام في نصوص الكتاب والسنة، وللشيخ ابن تيمية كتاب جميل حول تعدد آراء الأئمة ومدارسهم في فهم مسائل الدين هو كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) طبعته الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1396هـ.

والمملكة جزء من العالم الإسلامي، بل هي قلب العالم الإسلامي وهي بلد واسع الأرجاء جغرافيا وتتكون من مناطق متعددة، ومن الطبيعي أن تتعدد فيها المدارس الفكرية والفقهية وأن يكون لكل منطقة نوع من التمايز في ثقافتها وأدبها، لكن ذلك كله في إطار الإسلام وبالالتزام بالكتاب والسنة.

والتمايز في مناهج الفهم ومدارس التفسير وفي التراث الثقافي والأدبي ما دام في إطار الإسلام فهو عنصر إثراء وإنضاج إذا ما تم على قاعدة الاحترام المتبادل وضمن آداب الإسلام وأخلاقه واتجه نحو خدمة المصلحة العامة والحفاظ على وحدة المجتمع. وأضيف هنا أن المملكة بدورها الريادي والقيادي في الأمة الإسلامية لا بد أن تستوعب مختلف التيارات والتوجهات والمذاهب والمدارس الإسلامية، بل أن تلعب دور حفظ التآلف والتضامن وتشكل جسر الارتباط والتواصل بين الجميع بما يخدم مصلحة الإسلام والمسلمين.

وتبني المملكة المؤسسات الإسلامية العالمية كرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي يعزز لديها توجه الانفتاح على الجميع والتعامل مع مختلف التوجهات.

ومهرجان الجنادرية أصبح مثلا بارزا لتلاقي مختلف الاتجاهات والتيارات تدعيما لوحدة الموقف العربي والإسلامي. كما أن التوجيه الديني المنطلق من خطب الجمعة وبرامج الدروس الدينية والإفتاء في المسائل الشرعية لها دور أساس في تشكيل وعي الإنسان المسلم بدينه وتحديد موقفه الشرعي من الأحداث والقضايا.

وشعبنا ملتزم بالدين ويصغي لآراء وفتاوى العلماء الموثوقين المعتمدين، وخطب الجمعة تصل إلى الجميع سواء بالحضور والاستماع المباشر عبر المشاركة في صلاة الجمعة أو باستماعها عبر وسائل البث الإذاعي والتلفزيوني الذي تحتل فيه البرامج الدينية مساحة واسعة، لكن من الطبيعي ألا تكون كل الخطب والبرامج الدينية في مستوى واحد، فهناك ما تتوافر فيه مواصفات التوجيه الجيد والمتقدم وهناك ما يلحظ فيه بعض نقاط الضعف.

فمع تطور أوضاع الحياة وتقدم مستوى العلم وانفتاح الناس على البرامج المعرفية والثقافية المختلفة عبر القنوات الفضائية ومحطات البث المباشر لا بد أن تتطور الخطب والبرامج الدينية فلا تكون مقتصرة على الوعظ الإنشائي والأوامر والزواجر المباشرة، بل ينبغي أن تحتوي على تقديم الأفكار والمفاهيم التربوية والمعرفية المعمقة، وأن تواكب قضايا العصر وأحداث الحياة وتكون مطعمة بالأرقام والإحصائيات ونتائج البحوث الميدانية فيما تتناول من قضايا المجتمع.

وحيث ابتليت الساحة الإسلامية ببعض التوجهات المتطرفة التي تسيء لسمعة الإسلام بممارساتها وأعمالها المنافية فلا بد أن تهتم خطب الجمعة والبرامج الدينية ببث الروح الإسلامية السمحة والتركيز على منهج الوسطية والاعتدال ونبذ التطرف والتعصب وتعليم الناس على القبول ببعضهم بعضا والانفتاح على بعضهم والاحترام المتبادل وإن اختلفت مذاهبهم أو مدارسهم أو أفكارهم.

نعم المطلوب هو الجدال بالتي هي أحسن والحوار القائم على طلب الحقيقة وتقديم البراهين ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾.

أما تكفير الآخرين والمسارعة في اتهام نواياهم والتشكيك في دينهم فليس ذلك من الإسلام في شيء.

               

موقع العربية نت، يوم الأحد 6 فبراير 2005م، 27 ذو الحجة 1425 هـ.