الحساسية من النقد والتقويم

 

ورد عن الإمام علي أنه قال: «عِبَادَ اللَّه زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»[1].

قد يحمل الإنسان فكرة، أو يقوم بعمل ما، اعتقادًا منه بصواب تلك الفكرة وصحة ذلك العمل، ثم يتبيّن له خطأ ما كان عليه.

ولا يستطيع الإنسان أن يدّعي العصمة لنفسه، قد يعتقد بفكرة لوجود أدلة دعته إلى الإيمان بها، لكنّ الفكرة قد لا تكون صحيحة، وهو غير ملتفت إلى ضعف الدليل عليها، وقد يقوم بعمل ما، اعتقادًا منه بأنه عمل حسن، لوجود اشتباه في التشخيص!

 كما أنّ الإنسان قد ينشدُّ إلى فكرة أو عمل، لميول نفسية أو عاطفية.

وهناك احتمال ثالث: أن يحدث منه ذلك استجابة وتكيُّفًا مع الجوّ الاجتماعي العام، حتى وإن لم يتأكد من صواب تلك الفكرة أو ذلك العمل.

 من هنا تأتي أهمية النقد والتقويم، حتى يتأكد الإنسان من صحة أعماله وممارساته، ويتلافى نقاط ضعفه.

أكثر الناس يصعب عليهم ممارسة النقد الذاتي، حيث تصبح الفكرة أو الممارسة وكأنّها جزء من ذاته وشخصيته، فإذا مارس النقد والتقويم، فكأنه يدين ذاته ويجرّمها، ويتخلى عن جزء من كيانه، وهذا شيء صعب على الإنسان.

لهذا يتجنب أكثر الناس ممارسه النقد الذاتي، حتى لا يجد الإنسان نفسه مضطرًا للتخلي عن فكرة طالما آمن بها، أو عمل طالما مارسه واعتاد عليه.

 لكنّ الإنسان الواعي الرشيد يهمّه أن يصل إلى الحقّ والصواب، لذلك لا يجد حرجًا في نقد ذاته ومراجعة أفكاره، بل يرى ذلك خيرًا له من الاستمرار في الخطأ.

المراجعة شجاعة

 بالطبع إنّ المراجعة والتقويم والتراجع عن بعض الأفكار ربما تزعج الإنسان نفسيًا، خاصة إذا كان يعيش في مجتمع راكد، ينظر بسلبية إلى من يغير رأيه!

 بَيْدَ أنّ تغيير المواقف ضمن ضوابط ومعايير يؤمن بها الإنسان، يجب أن يكون محلّ تقدير وثناء المجتمع، ذلك أنّ المنتقد لأفكاره المصحح لمسيرته يمتلك الشجاعة ويسعى للصواب.

ونحن نرى الفقهاء يراجعون آراءهم الفقهية ويعيدون النظر في أدلتها، وقد يغيّر المرجع فتواه، بعد زمن من عمل مقلّديه بتلك الفتوى، ولا يضر ذلك بمنزلته العلمية، بل إنّ ذلك مسؤوليته الشرعية.

لهذا نجد النصوص الدينية تشجع الإنسان على النقد والمحاسبة، والله تعالى يقسم في القرآن الكريم بالنفس اللوامة ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [سورة القيامة، الآيتان: 1-2].

والنفس اللوامة هي التي تنتهج اللوم والعتاب لصاحبها كلما ارتكب خطأً، وإدراك الخطأ يكون عبر التقويم والنقد الذاتي.

والنصوص كثيرة في هذا المجال، حول محاسبة النفس ووزن النفس، وهو (التقويم).

ورد عن الإمام : «عِبَادَ اللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»، أي لا تتأخر في تقويم نفسك حتى يقوم الآخرون بتقويمك وحتى تجد نفسك في موقف الحساب يوم القيامة، وعندها لا مجال للتراجع.

 وفِي كلمة أخرى وردت عنه : «قَيِّدوا أنْفُسَكُم بالمُحاسَبَةِ» أي ألزم نفسك، واختيار كلمة (قَيِّدوا) لصعوبة المحاسبة على النفس. كما أنّ المحاسبة قد تقيّد وتحدّ من الاستمرار في الخطأ.

وورد عنه : «ما أحَقَّ الإنْسانَ أنْ تَكونَ لَهُ ساعةٌ لا يَشْغَلُهُ شاغِلٌ، يُحاسِبُ فيها نَفْسَهُ، فيَنْظُرُ فيما اكْتَسَبَ لَها وعلَيها في لَيلِها ونَهارِها!»، وهنا يوجه الامام علي أن تكون المحاسبة برنامجًا يوميًا يخصص له الانسان وقتًا بعيدًا عن الانشغالات الأخرى.

وورد عنه : «مَن حاسَبَ نفسَهُ وقَفَ على عُيوبِهِ، وأحاطَ بذُنوبِهِ، واسْتَقالَ الذُّنوبَ، وأصْلَحَ العُيوبَ»، فالمواجهة والتقويم له دور أساس في تصحيح مسار الانسان وتجاوز الأخطاء بعد كشفها وتحديدها.

وورد عن الإمام موسى الكاظم : «لَيس مِنّا مَن لَم يُحاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَومٍ، فإنْ عَمِلَ خَيرًا اسْتَزادَ الله مِنهُ وحَمِدَ اللّه علَيهِ، وإنْ عَمِلَ شَيئا شَرًّا اسْتَغْفَرَ اللّه وتابَ إلَيهِ» وفي هذا النص التفاتة الى أنّ التقويم كما يكشف الجانب السلبي في عملك لتتراجع عنه، فإنه يظهر لك الجانب الإيجابي لتعززه وتنميه.

التقويم على المستوى الجمعي

هناك نوع آخر من النقد، وهو تقويم الجماعة لأوضاعها، وفي عالم الاقتصاد اليوم تقوم الشركات والمؤسسات، بمراجعة نشاطاتها وأعمالها وخططها، وكذلك الأحزاب والحكومات.

فقد أصبح التقويم جزءًا من الحياة الحضارية لكلّ مؤسسة أو جماعة، خاصة حينما تواجههم مشاكل أو أزمات، فعلى سبيل المثال إذا فشل أحد الأحزاب في الانتخابات، يعقد مؤتمرًا للتقويم، لتحديد أسباب الفشل واكتشاف مواطن الخلل.

تقويم برامج عاشوراء

لقد وفّق الله مجتمعنا للقيام بإحياء ذكرى سيّد الشهداء ، وكذلك سائر المجتمعات الشيعية في العالم.

كان الإحياء هذا العام في مختلف مناطق العالم إحياءً متميزًا، وقد كفى الله المؤمنين مكائد الأعداء، حيث أقيمت برامج عاشوراء في أمن وأمان، عدا حادث محدود في لندن، وكان الاعتداء بدافع عنصري، حيث أصاب المعتدي بعض المشاركين بسيارته قرب أحد المجالس.

ومع هذا النجاح لا بُدّ من تقويم البرامج ومراجعتها، في سياق تطوير الأداء وسدّ الثغرات، بحيث تعقد إدارات المجالس والمواكب، وكذلك الخطباء جلسات نقاشية، لتعزيز نقاط القوة، والتخلص من الملاحظات والأخطاء والسلبيات.

ونشير هنا إلى عدد من الأسئلة المهمة في مجال التقويم:

هل يمكن تطوير الأداء إلى الأفضل، وما هي مجالات التطوير؟

ما هي نقاط الضعف، والثغرات؟

كيف نستثمر الموسم استثمارًا أفضل؟

رأي مخالف للتقويم

هناك من يعارض نقد وتقويم البرامج الدينية، وخصوصًا ما يرتبط بالإمام الحسين والشعائر الحسينية، ويرون أنّ النقد يُضعف المناسبة ويقلّل من هيبتها وقدسيتها في النفوس، وينطلقون في ذلك من مبررات معينة، ونحن نحسن الظنّ بهم.

يقولون: إنّ هذه مناسبة مقدسة لها هيبتها، ولا ينبغي أن نخدش هذه القدسية، سواء بنقد الشعائر أو ما يذكره الخطباء على المنبر، لذلك ينبغي أن نحذر من انتقاد الشعائر الحسينية.

بل إنّ أحد العلماء استشهد بقصة منام، مفادها أنّ أحد المؤمنين تأخر دخوله إلى الجنة؛ لأنه انتقد أحد الخطباء والمجالس الحسينية!!

ويمكن تلخيص الأسباب التي يعرضها أصحاب هذا الرأي في التالي:

أولًا: أنّ أيّ نقدٍ يضعف المناسبة ويقلّل من هيبتها وقدسيتها في النفوس.

ثانيًا: أنّ النقد يفتح المجال لنقود متوالية، فقد يطال النقد كلّ شيء في هذه المناسبة العظيمة.

ثالثًا: هناك أعداء يختبئون وراء النقد بهدف النيل من المناسبة، فيثيرون الإشكالات والشبهات والتساؤلات، وينبغي عدم التجاوب مع مؤامرات الأعداء.

نقاش موضوعي

لكنّ هذه المبررات المذكورة محلّ نقاش، فأصل إحياء المناسبة ثابت لا جدال فيه، أما الوسائل والبرامج والشعارات فهي قابلة للنقد؛ لأنّها جهد بشري، قابلة للتطوير، وقد تدخل عليها أخطاء وتحصل فيها ثغرات، فلماذا لا يعاد النظر فيها؟!

والأفضل أن يحصل النقد من أصحاب الشأن أنفسهم، فمن غير المناسب أن ننتظر من ينتقدنا من خارج الدائرة.

من جهة أخرى فإنّ النقد ـ غالبًا ـ يؤدي إلى تقوية الفكرة، حيث تناقش أدلتها وبراهينها، وقد تظهر لها أدلة أخرى، تعزّز جوانب القوة، كما تتخلص بها من نقاط الضعف، مما يدفع العلماء والمفكرين إلى إعادة البحث، وطرحها بشكل أقوى، فالنقد يكون سببًا لتعزيز الفكرة السليمة الصحيحة، وقد يكشف نقاط ضعف تُستبعد.

لذلك يذهب الشهيد الشيخ مرتضى مطهري: إلى أنّ نقد كثير من القضايا الدينية في العصر الحديث، هو الذي دفع العلماء لمزيد من البحث والاجتهاد والفحص في الأدلة، فطرحوا تلك القضايا بأدلة أفضل مما كان في الماضي وتجاوزوا نقاط الضعف.

وعلماؤنا يقولون: نحن أتباع الدليل حيثما مال نميل.

لكنّ بعض النفوس تضيق ذرعًا بالنقد أو بوجود رأي آخر، والأدهى من ذلك حين يكون الرفض بعنوان الغيرة على المذهب والشعائر الحسينية، وكأنّ الداعين إلى النقد والتقويم لا غيرة لهم على الدين ولا يهتمون بالشعائر الحسينية، وفي ذلك مغالطة وتضليل وتعبئة للناس بغير حقّ!!

هذا يشبه من يتهم الشيعة بأنّهم ضد الصلاة؛ لأنّهم لا يرون مشروعية صلاة التراويح!

يرى الشيعة عدم جواز إقامة النافلة جماعة، ومنها صلاة التراويح، فهل يصح أن يقال عن الشيعة إنّهم ضد إقامة الصلاة؟!

الشيعة يصلون الصلوات الخمس والعيدين، وصلاة الآيات وغيرها من الصلوات الواجبة والمستحبة، لكنهم يرون ضعف الدليل على صلاة التراويح جماعة، فلا يصح أن يتهمهم أحد بأنّهم ضد إقامة الصلاة!!

وكذلك من لديه رأي حول مفردة من مفردات الشعائر كالتطبير، لا يعني ذلك أنه ضد الشعائر الحسينية!!

 عندما يرفض بعض المؤمنين شكلًا من أشكال العزاء، أو يختلفون حول شعيرة من الشعائر، فلا يعني ذلك أنّهم ضد إحياء المناسبة!

من جهة أخرى، فإنّ البحث العلمي حول أدلة بعض الممارسات لا ضير فيه ولا إشكال، كما أنّ التساؤل عن مدى صحة بعض الأقوال والحوادث لا يصح منعه وتجريمه، فليس كلّ ما يقال على المنبر يجب التسليم به، ومن يسعى لتحصيل الأدلة على الأفكار والممارسات لا ينبغي أن يُشكّك في إيمانه، وحين يتساءل شخص عن حقيقة ورود حادثة معينة في كربلاء، ينبغي أن نجيب عليه بالدليل، ولا مجال للانفعال أو التشنج؛ لأنّ المسألة تبقى في حدود البحث التاريخي، الذي يثبت بأدوات البحث، لكنّ البعض يأخذه الحماس، ويستنكر مجرّد التساؤل، ويكتفي بإثبات أيّ حدث أو مقولة؛ لأنّها وردت في كتاب ما أو نقلها أحد العلماء!

والسؤال هنا: هل كلّ أقوال العلماء يجب أن نقبلها ونسلم بها دون نقاش؟!

الشيخ الصدوق أطلقوا عليه هذا اللقب للثقة به والاعتماد عليه، لكنّه يقول بسهو النبي وسهو الأئمةB في غير شؤون التبليغ، فهل نلتزم بهذا الرأي؟!

كتاب الكافي للشيخ الكليني من أهم كتب الشيعة، وفيه أحاديث تقول بتحريف القرآن الكريم!

فهل نأخذ بها؟!

الشيخ عباس القمي صاحب مفاتيح الجنان، محلّ ثقة واعتماد، لكنّه يرفض حديث الكساء بروايته المتداولة، ويرى أنّ أصل حديث الكساء صحيح، لكنه مجرّد بضعة أسطر، لا ما يُقرأ اليوم في المجالس والمناسبات. فهل يقبل هؤلاء المتحفظون قوله؟

 نحن نرى أنّ علماءنا إذا طرحوا رأيًا عقديًا أو أصوليًا أو فقهيًا، يفترضون إشكالًا ويردون عليه، وذلك لموضوعيتهم ولقوتهم العلمية، ويكثر في عباراتهم (وإذا قيل كذا، ولو قيل كذا)، وهذا هو البحث العلمي.

نحن اليوم أمام إشكالات وتساؤلات قائمة، فأبناؤنا تعلموا وانفتحوا على مختلف الثقافات، ومن الطبيعي أن تبرز في أذهانهم تساؤلات واستفهامات، ولا أحد يستطيع أن يغلق باب التساؤل، بل علينا أن نبحث عن الإجابات العلمية المقنعة؛ لأننا إذا أغلقنا الباب، ستكون النتيجة أن يقتنع أبناؤنا بضعف المذهب، مما يسبب نفورًا وتشكيكًا من أبناء الشيعة أنفسهم، بينما فتح باب النقاش والحوار يقوي أدلتنا، ويتيح الخيارات أمام الناس، كلٌّ يختار ما يقتنع به، ويبقى الجميع في إطار المدرسة وفِي إطار المذهب.

 تقويم أنشطتنا وأعمالنا وبرامجنا أمر مطلوب، خاصة النقد البناء الإيجابي العلمي، الذي يقوّي الدين والمذهب ولا يضعفه.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=QfDJcoLxYXk

للاستماع:

https://www.saffar.me/index.php?act=av&action=view&id=1339

خطبة الجمعة 10 محرم 1440هـ الموافق 21 سبتمبر 2018م
[1] نهج البلاغة. خطبة 90، ومن خطبة له وتشتمل على قدم الخالق وعظم مخلوقاته، ويختمها بالوعظ.