تحدّي العلاقات الإنسانية

مكتب الشيخ حسن الصفار

 

﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾[سورة الفرقان، الآية: 20].

خلق الله هذه الحياة لتكون للإنسان دار ابتلاء وامتحان، يُمتحن فيها الإنسان امتحانًا شاملًا، لا يختص بجانب واحد، بل يعيشه الإنسان في مختلف مجالات الحياة.

 وأحد أهمّ مجالات الحياة التي يُمتحن فيها الإنسان، مجال علاقته بالآخرين من أبناء جنسه ومجتمعه ومحيطه البشري، فهو عضو في مجتمع بشري، حيث ينتمي إلى محيط اجتماعي.

وقد اختلف الفلاسفة والمفكرون حول تشخيص خلفية الانتماء الاجتماعي للإنسان، فمنهم من يرى أنها جبلّة في الإنسان، فطره الله وجبله عليها.

 وقال آخرون إنّ الإنسان وجد نفسه مضطرًا للحياة الاجتماعية، فالمسألة ليست جبلّة وفطرة، وإنّما لأنّ حياته لا تنتظم بجهده الفردي، بل لا بُدّ من الاشتراك مع الآخرين، فهو اجتماعي؛ لأنّ الحياة تضطره إلى الانتماء الاجتماعي.

وهناك رأي ثالث يرى أنّ الإنسان مختار في انتمائه الاجتماعي؛ لأنه أدرك بعقله أنّ حياته تكون أفضل إذا كان عضوًا في مجتمع.

وسواء كان الإنسان مجبولًا على الحياة الاجتماعية، أو كان مضطرًا لها، أو كان مختارًا بإدراكه العقلي، فإنه يجد نفسه ضمن انتمائه الاجتماعي، ولا يجد نفسه ولا يجد سعادته في الحياة الفردية بعيدًا عن الناس، وما دام هو عضوًا في مجتمع فهو مرتبط بمن حوله بشكل أو بآخر، فكيف يتعامل مع الناس وكيف يتعامل الناس معه؟!

هذا هو مورد الابتلاء والامتحان؛ لأنّ الإنسان باعتباره مفكّرًا لديه قدرة عقلية فله آراء قد تختلف مع آراء من حوله، ولأنه يحب ذاته مصالحه قد تتضارب مع مصالح الآخرين، وهو من جانب آخر يمتلك مشاعر وأحاسيس تتأثر بتصرفات الآخرين كما تؤثر فيهم.

فكيف يوفق الإنسان بين حبّه لذاته، وسعيه لتحقيق مصالحه، وبين ضرورة العيش والتداخل مع غيره، حين يكون هناك شيء من التناقض والتصادم والاختلاف بينه وبين من يعيش معهم! وهنا يكون في محك الابتلاء والامتحان، هل يحسن التعامل مع الناس حين يختلف معهم؟! بعض الناس ينجحون في هذا الامتحان والبعض يفشلون، فتتعقد علاقتهم مع من حولهم، يعيشون حالات من النزاع والصراع والقطيعة!.

مقومات النجاح في اختبار العلاقات

ولكن ينجح الإنسان في اختبار العلاقات الاجتماعية، لا بُدّ أن يتوفر على عدة مقومات:

أولًا: معرفة حقوق الآخرين، والاعتراف بها، سواء كانوا قريبين أو بعيدين.

والداك لهما حقوق عليك، ولك حقّ عليهما، زوجتك لها حقّ عليك، وأنت لك حقّ عليها، كما يقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ، فالحقوق متبادلة وليست منفصلة.

فمن الخطأ أن يشعر الإنسان في أيّ علاقة مع غيره بحقوقه ويتجاهل حقوق الآخرين.

 كلّ الذين يعيشون معك لهم حقوق عليك، جيرانك والعمّال الذين يعملون عندك، وعالم الدين الذي تستفيد من علمه، وزميلك في الدراسة أو الوظيفة، يجب أن تعرف حقوقهم وتعترف بها.

البعض قد يعرف حقوق غيره لكنه يكابر، ولا يريد أن يلتزم بها، وفي المقابل يؤكد على حقوقه فقط!!

ثانيًا: أداء حقوق الآخرين:

إذا أردت أن تنتظم حياتك مع الآخرين فعليك أن تفكر في أداء حقوقهم، وعلى أساس ذلك تطلب حقوقك.

من حقّ الزوج أن يطالب زوجته بما يجب عليها تجاهه، لكنه إذا تساهل في أداء حقوقها دخل في دائرة الظلم، وعقَّد علاقته بزوجته!

لك حقّ على أبنائك، تريد منهم أن يحترموك ويبرّوك، وأنت ملزم بحقوق تجاه أبنائك، هل أديت حقوق أبنائك أم تجاهلتها؟!

على الإنسان أن يفكر في أداء حقوق الآخرين كما يطالب بحقوقه.

ثالثًا: الرجوع الى منطق العقل عند الخلاف

قد يحصل من الطرف الآخر نوع من التنكر، وقد يحصل من طرفك نوع من سوء الفهم، ويؤدي ذلك إلى صراع ونزاع، بسبب الاحتكام إلى العواطف والانفعالات!

قد تحصل بين الأب وابنه، أو الزوج وزوجه حالات خلاف، فيطلق كلّ طرف العنان لعواطفه ومشاعره، ويبادر بالسب والشتم والإهانة، وهي تصرّفات محرّمة شرعًا!

ولو رجع كلّ طرف إلى منطق العقل وقيم الدين، لبقي الخلاف في حدوده وأمكن معالجته وتجاوزه.

نحن نلاحظ أنّ المجتمعات التي تسلك طريق العقل والاحتكام إلى النظام والقانون، يمكنها السيطرة على الخلاف، لكن المجتمعات المتخلفة تحتكم إلى العواطف والعصبيات، فيؤدي ذلك إلى تفاقم المشكلة وتوسعها.

كلّ شخص يحاول استخدام قوته لأخذ حقّه، ما يؤدي إلى تحول الخلاف البسيط إلى نزاع وصراع يستمر سنوات، تتوارثه الأجيال!.

رابعًا: ترويض النفس وتهذيبها

عندما يهذّب الإنسان نفسه يتمكن من استيعاب تقصير الآخرين معه، تكون لديه قابلية ومرونة للتغاضي وللتنازل.

قد يكون ظاهر الأمر تراجعًا أو ضعفًا، لكنّ الحقيقة أنّ من يتنازل عن حقّه لأخيه يدلّل على كرمه وسعة صدره وقوة سيطرته على انفعالاته وقوة إرادته، ورد عن النبي محمد : «ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[1].

وورد في الحديث عن أمير المؤمنين علي : «لا عز أرفع من الحلم»[2].

صحيح أنّ بإمكانك الاقتصاص والمطالبة بحقّك، كما يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ، لكن في مقابل ذلك يشجع الدين على العفو والصفح، يقول تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه.

والقرآن الكريم حينما يتحدث عن المؤمنين الواعين يقول: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا حتى لو أراد الطرف الآخر أن يستدرجه للعراك والصراع يكون واعيًا، وخاصة داخل المجتمع الإيماني.

وهنا لا بُدّ من التنبّه إلى وسوسة الشيطان، الذي يسعى لإحداث الشقاق بين المؤمنين بمختلف المبررات، فيوحي للإنسان أنّ التنازل خلاف العزّة.

ولكي يتمكن المؤمن من مواجهة هذه الوساوس عليه أن يستحضر الصورة كاملة، فإلى جانب قول الله تعالى: ﴿وللّه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وما ييروى عن الإمام الصادق : «إنّ اللّه تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شيء إلا إذلال نفسه»[3].

هناك آيات تصف المؤمنين بأنهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِيْنَ، وبهذا يكون التوازن في التصور، حتى يضع المؤمن كلّ موقف في موضعه، ولا تنطلي عليه ألاعيب الشيطان وشراكه، فحتى لو راوده شعور بالمذلّة فإنّ المذلّة في العلاقة مع إخوة الايمان محبّذة عند الله.

إنّ الله تعالى يخاطب نبيّه محمدًا بقوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وخفض الجناح تعبير عن المرونة والتنازل والتواضع.

المؤمن الذي يشترك معك في الرباط الإيماني المقدّس له حقّ خاص، والتنازل له والعفو عن أخطائه من صميم الأخوة الإيمانية.

 من هنا فإنّ على الإنسان أن يعلم أنه أمام امتحان النجاح في علاقاته مع أفراد عائلته وجيرانه، ولا يمكنه أن يحقق النجاح ما لم يتحلَّ بمكارم الأخلاق، ويتسلّح بالوعي والإدراك، حتى يتمكن من إفشال خطط الشيطان ويتجاوز ضغوط النفس الأمارة بالسوء.

للمشاهدة:

 

للاستماع:

https://www.saffar.me/index.php?act=av&action=view&id=1340

 

خطبة الجمعة 17 محرم 1440هـ المموافق 28 سبتمبر 2018م.
[1] صحيح البخاري. حديث 6114.
[2] بحار الأنوار. ج68، ص414.
[3] الكافي. ج5، ص63، حديث3.