احتواء التوترات والتشنجات الاجتماعية

 

جاء في سيرة رسول الله : أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا بلغَه عن الرجلِ الشيءَ، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقولُ، ولكن يقولُ: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا.! ؟![1] 

من الطبيعي أن يهتم المسلمون بقراءة سيرة رسول الله ، فهو أطهر وأكمل بنـي البشر، فلا بُدّ وأن تكون سيرته أنصع وأجمل سيرة لإنسان وقائد ونبي، فقراءتها وسيلة لاكتشاف طريق الكمال والسير فيه.

كما أنّ سيرته جزء من سنته الشريفة (من حيث المجمل)، والسنة مصدر رئيس للتشريع إلى جانب القرآن الكريم، فقراءة السيرة النبوية تعني الاطلاع على السنة التي هي مصدر أساس من مصادر التشريع واستنباط الأحكام.

وقد ورد في سيرته أنه (كان خلقه القرآن) فسيرته تطبيق وتجسيد للمفاهيم والتعاليم الدينية القرآنية.

أجواء الجاهلية قبل الإسلام

يدرس الباحثون في تاريخ العرب ما يطلق عليه (أيام العرب) أي معارك العرب وحروبها، وفي كتاب (أيام العرب في الجاهلية) الذي اشترك في إعداده ثلاثة من الباحثين المصريين، عرض لعشرات الحروب الداخلية بين القبائل العربية، فمعارك القبائل القحطانية فيما بينهم بلغت عشر معارك، وبين القحطانيين والعدنانيين عشر معارك، وفيما بين قبائل ربيعة ست معارك، وما بين ربيعة وتميم خمسة عشر معركة، وبين قبائل قيس إحدى عشرة معركة، وبين قيس وكنانة عشر معارك، وبين قيس وتميم سبع معارك، وبين قبائل ضَبَّة وغيرهم خمس معارك، وهناك معارك أخرى متفرقة[2] .

وقد كان الصراع والتنافس القبلي في الجزيرة العربية، دافعًا لتربية الأبناء على الفخر والاعتزاز بانتمائهم للقبيلة، وتنمية مشاعر التميّز وأحاسيس الأفضلية على الآخرين، وهذا ما تنضح به قصائد شعرائهم، وخطب زعمائهم.

إنّ الحماسة والفخر هو من الأغراض الأساسية في الشعر العربي الجاهلي، حيث يتفنن الشعراء في تمجيد قبائلهم وإظهار قوتها ومكانتها، وفي شعر عمرو بن كلثوم نموذج صارخ لمثل هذا التوجه، حيث يقول في إحدى قصائده:

مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا
وَماءُ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْوًا
وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِرًا وَطِيْنَا
إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا وليدٌ
تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِديْنَا
لَنا الدُنيَا وَمن أضحى عَلَيها
ونَبطِشُ حِينَ نَبطِشُ قادِرِينَا

والوجه الآخر لهذا اللون من الأدب الجاهلي هو أدب الهجاء، حيث يبالغ الشعراء في الحطّ من شأن القبائل المنافسة لقبيلتهم، ووصفها بأسوأ النعوت، وأقبح الصفات.

أعظم شخصية في تاريخ البشرية 

سيرة رسول الله واسعة الأرجاء، ومن أهم الجوانب التي ينبغي أن تسلط عليها الأضواء في سيرته العطرة، كيفية إدارة التنوع الاجتماعي، وصناعة أجواء الوئام، واحتواء التوترات والتشنجات التي تحصل بشكل طبيعي في أيّ مجتمع بشري.

الجميع يعلم أنّ النبي جاء في مجتمع تسوده حالة التمزق والتناحر والعصبيات القبلية، كانوا يعيشون حالة انفعالية تعصبية، وكان يمكن لأيّ سبب تافه أن يتسبب في حرب تدوم سنوات!. 

في هذه البيئة التي تعج بالعصبيات بُعث رسول الله ، فكان من أهم إنجازاته نقل هذا المجتمع من حالة التمزق والاحتراب والعصبيات إلى حالة الوئام والوفاق، وهو إنجاز عظيم جدًا، مما دفع أحد المفكرين في أمريكا وهو (مايكل هارت) أن يعتبر النبي على رأس أهم مئة شخصية في تاريخ البشرية، في كتابه (الخالدون المئة)!. 

والقرآن الكريم حينما يتحدث عن نعم الله على المسلمين، يذكر هذه النعمة، يقول تعالى:

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا[سورة آل عمران، الآية: 103].

تضارب المصالح وتعدد الآراء

في كلّ مجتمع بشري تتضارب المصالح، إما مصلحة فرد مع آخر، أو مصلحة طائفة وأخرى، أو بين القبائل المتعددة، كما يحدث الاختلاف بسبب تعدد الآراء والأفكار، وهي حالة طبيعية، لكن المجتمعات تتباين في إدارة اختلاف الآراء وتضارب المصالح، فالمجتمع الناضج يدير اختلافه بطريقة عقلانية، فيحتكم إلى القانون، ويرجع إلى المؤسسات الدستورية، كما نراه في المجتمعات المتقدمة. 

نجد أنّ أصعب الخلافات بين مختلف الشرائح والجهات يُرجع فيها إلى القانون والمؤسسات الدستورية، فتقول كلمة الفصل، وإلى جانب ذلك هناك إقرار بحرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي.

لك أن تعبّر عن رأيك، وغيرك يعبّر عن رأيه، وكلٌّ يستعرض أدلته ويدافع عن رأيه، في جوٍّ من تكافؤ الفرص، والنَّاس أحرار فيما يختارون.

في مثل هذه الأجواء تذوب التوترات والتشنجات، فلا يرى الناس في وجود الرأي الآخر مشكلة، وإذا ما تضاربت المصالح فإن القانون هو الحاكم.

أما في المجتمعات البدائية الانفعالية فإنّ أقلّ تضارب في المصلحة، أو اختلاف في الرأي، يتحول إلى مشكلة اجتماعية، تؤدي إلى نزاع وخصومة، وذلك لعدم وجود نضج وثقافة تساعد على امتصاص واحتواء التشنجات والتوترات.

طبيعة العصر الحاضر

نعيش هذا العصر الذي تعززت فيه ثقة الإنسان بنفسه، وأصبحت المعرفة متاحة أمام الجميع، فكما أنّ لديك أدلة تستشهد بها على ما تعتقده، فلغيرك أدلة أيضًا، فقد تقدم مستوى المعرفة عند الناس، وأصبحت أدوات التعبير عن الرأي متاحة للجميع.

هذا الهاتف المحمول بحجم الكف، يوصل رأي حامله إلى مختلف أنحاء العالم!!

فلا تستطيع أن تمنع أحدًا من التعبير عن رأيه وفكرته. 

فلا بُدّ من التسليم بهذا الأمر والقبول بالرأي الآخر، أما إذا رفضنا هذا المبدأ، وتحول الاختلاف في الرأي إلى سبب للصراع والنزاع، واستخدمت أدوات التحريض وبث الكراهية، فسيعيش المجتمع حالة من الاضطراب والتمزق.

ومن المعلوم أنّ المسائل الفكرية التي يمكن الاختلاف فيها ليست قليلة، ففي كلّ يوم هناك مسائل مستجدة، سواء ما يتعلق بالمعتقدات أو الفقه أو التاريخ، وتتفرع عنها تفاصيل كثيرة!.

وإذا تحولت كلّ مسألة خلافية إلى سبب للصراع والخصومة، فمتى نتفرغ لبناء حياتنا ومستقبل أجيالنا؟!!

احتواء التوترات هدي نبوي

ولعلّ سائلًا يقول: كيف استطاع رسول الله أن يغيّر المجتمع من حالة الانقسام والتمزق إلى مجتمع يعيش حالة الوئام والوفاق؟!

ونكتفي في هذا البحث بذكر أحد العوامل، وهو احتواء التوترات والتشنجات الاجتماعية.

مستعرضين بعض النماذج من سيرة رسول الله :

النموذج الأول 

في السيرة النبوية الشريفة أنه : «إذا بلغه عن الرجل شيء، لم يقل: ما بال فلان يقول كذا؟! ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. 

أو ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!».

النبي معصوم عن الخطأ، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى

وحين يرى أنّ فعلًا ما مخالف للشرع، فرأيه ليس مجرّد اجتهاد أو ظنًّا، بل هو الحقّ بعينه، ومع ذلك إذا وصله خبرٌ أنّ فلانًا يقول مقالة خاطئة، أو يمارس عملًا سيئًا، لا يشهّر به أمام المسلمين، ولا يعبّئ الناس ضده، بل يكتفي بالتحذير من الفعل أو القول، وهو درس مهم لنا.

نحن نعتقد أنّ النبي حريص على الدين، حريص على مصلحة المجتمع، وينبغي أن تكون سيرته دروسًا نستفيدها في حياتنا.

إذا رأينا شخصًا يتخذ موقفًا مغايرًا لما نعتقده، ونحن لانقطع بصواب رأينا، فلسنا معصومين، فكيف نجيز لأنفسنا التعبئة ضده والسعي لإسقاطه؟! 

إنّ مسؤولية الإنسان تقف عند حدود إبداء الرأي وعرض الأدلة على صحة رأيه، أما التعبئة والسعي لإسقاط الطرف الآخر والتحريض عليه، واتهامه بالخيانة فليس من الدين في شيءٍ!.

إنّ من تختلف معه لديه إمكانية الرد، ويستطيع أن يتعامل بذات الطريقة، وبالتالي يصبح المجتمع ساحة احتراب وساحة تشنجات وتوترات، وهذا مغاير للهدي النبوي!.

النموذج الثاني 

بعث النبي سرية لقتال بني قريظة، وأمرهم كما في الرواية «لا يُصَلّيَن أَحَدُكُمْ الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ.

فَبَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهَضُوا مِنْ فَوْرِهِمْ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْعَصْرُ فِي الطّرِيقِ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلّيهَا إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا أُمِرْنَا، فَصَلّوْهَا بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ 

وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يُرِدْ مِنّا ذَلِكَ وَإِنّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ الْخُرُوجِ فَصَلّوْهَا فِي الطّرِيقِ فَلَمْ يُعَنّفْ وَاحِدَةً مِنْ الطّائِفَتَيْنِ»[3] .

هذه الرواية مشهورة في السيرة النبوية، ونقرأ في ذيلها «فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدَةً مِنْ الطّائِفَتَيْنِ».

فئة أخروا الصلاة حتى غابت الشمس!!

وفئة رأوا أن النبي يحثهم على السرعة في السير، أي أسرعوا في سيركم حتى تصلوا مقصدكم قبل غروب الشمس، ولذلك لم يؤخروا الصلاة عن وقتها.

عندما رجعوا إلى النبي وأخبروه، لم يوبّخ أحدًا منهم، ولم يخطِّئ أحدًا، وهذا يدلّ على أنّ المسائل الظنية الاجتهادية التي يمكن فهمها على أكثر من وجه، تتسع لها ساحة الاجتهاد، ولا بُدّ للمختلفين أن يعذر بعضهم بعضًا، فلا يحدث تشنج أو خلاف.

وفي مقام الاجتهاد والرجوع إلى الأحاديث والروايات، نجد العلماء يختلفون في توثيق الرواة وتضعيفهم، وبالتالي الأخذ بالرواية أو ردها، كما قد يختلفون في مدلول الحديث أو الرواية، وكلٌّ مأجور في عمله ما دام اجتهاده وفق الضوابط والموازين.

النموذج الثالث

روى بعض الصحابة قال: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ عَلَى وَجْنَتَيْهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟! أَوَ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟!

إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ، عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَنَازَعُوا فِيهِ»[4] .

وهنا نجد أنّ رسول الله لم يقبل من المسلمين أن ينشغلوا بالجدل في العقديات والمسائل النظرية الفكرية، وفي هذا المجال وردت نصوص كثيرة، منها:

عن الإمام محمد الباقر : «الخصومة تمحق الدين وتحبط العمل وتورث الشك»[5] .

عن الإمام جعفر الصادق : «إيّاكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عزّ وجلّ وتورث النفاق وتكسب الضغائن»[6] .

عن الإمام موسى الكاظم : «مُرْ أصحابك أن يكفّوا من ألسنتهم، ويدعوا الخصومة في الدين، ويجتهدوا في عبادة الله عزّ وجلّ»[7] .

فلا ينبغي أن يكون الدين ميدان صراع، بسبب اختلاف الآراء، فإنّ في الدين سعة لتعدد الآراء، كما أنّ باب الاجتهاد مفتوح لمن بلغ هذه المرحلة العلمية وفق الضوابط والشروط، وعند اختلاف الآراء يلجأ المؤمنون إلى الحوار والنقاش، بعيدًا عن التسفيه وأجواء الصراع، إنّ المجتمع الذي تسوده التشنجات والتوترات يعيش وضعًا غير محبوب عند الله سبحانه، فالتوترات والتشنجات تلوث النفوس، وتمرض القلوب، وتقطع العلاقات، وتسبب الخصومات بين الناس.

ذات مرّة جاءني أحد المؤمنين يشكو مقاطعة أبنائه وسوء معاملتهم له، لأنه يتبع أحد العلماء، وهم غير راضين عن آراء هذا العالم!

ويضيف الأب: هناك من يعبّئهم حول هذه المسائل، حتى إنهم اقتنعوا أنّ من يذهب إلى هذا العالم يصبح ضالًّا مضلًّا!!

لقد أصبحت الحياة لا تطاق في المنزل بسبب سوء معاملتهم!!

نحن نقرأ قول الله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا.

حتى وإن جاهداك أبواك على الشرك، عليك أن تصاحبهما بالمعروف، لكن الثقافة الخاطئة تؤدي إلى مثل هذه النتائج السلبية!.

إنّ الدين يدعو إلى أجواء الوئام والوفاق، واحتواء التوترات والتشنجات الاجتماعية، هكذا تعلّمنا سيرة رسول الله ، وعلينا أن نربّي أنفسنا من خلال نهج رسول الله وسيرته.

* خطبة الجمعة بتاريخ 1 ربيع الأول 1440هـ الموافق 9 نوفمبر 2018م.
[1]  سنن أبي داؤود، حديث 4788.
[2]  جاد المولى: محمد أحمد وآخرون، أيام العرب في الجاهلية، 1988م، (بيروت: دار الجيل).
[3]  ابن القيم الجوزيه. زاد المعاد في هدي خير العباد، ج3، الطبعة السابعة والعشرون 1415هـ، (بيروت: مؤسسة الرسالة، مكتبة المنار الإسلامية)، ص130.
[4]  محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي. سنن الترمذي. حديث2133.
[5]  وسائل الشيعة.ج١٦، ص٢٠٠، حديث 21344.
[6]  بحار الأنوار. ج٢، ص١٢٨.
[7]  الميرزا حسين النوري. مستدرك الوسائل، ج٤، ص١٠٢، حديث 4236.