الرهان على وعي المرأة وقوة شخصيتها

 

أخرج الترمذي في سننه عَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين قَالَتْ: ما رأيتُ أحدًا أَشْبَهَ سَمْتًا ودَلًّا وهَدْيًا برسولِ الله في قيامِها وقعودِها من فاطمةَ بنتِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت: وكانت إذا دَخَلَتْ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قام إليها فقَبَّلَها وأَجْلَسَها في مَجْلِسِهِ وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دخل عليها قامت من مَجْلِسِها فقَبَّلَتْهُ وأَجْلَسَتْهُ في مَجْلِسِها[1] .

ذكرى وفاة سيدتنا فاطمة الزهراء مناسبة نتأمل فيها الأحاديث المستفيضة عن العلاقة الوثيقة بين رسول الله وابنته الزهراء ، التي يظهر فيها مدى المحبّة والتقدير الذي يبديه لبضعته الزهراء ، وهي أحاديث تدلّ على عظمتها ومكانتها، كما تعطينا درسًا في التعامل مع بناتنا بمحبة ورقة وتقدير.

وهي مناسبة لمعالجة قضايا المرأة المعاصرة، حيث لا تزال بعض الإشكاليات العالقة، بسبب الفهم الخاطئ لبعض النصوص والأحكام، ومنها قضية الاختلاط والعلاقة بين الجنسين.

كيف نعالج هذه القضية الحسّاسة؟

ما هي ضمانات السلامة مع وجود الاختلاط الذي فرض نفسه على مجتمعاتنا؟

وجهة نظرة متشددة

تحرص الجهات الدينية والمجتمعات المحافظة ـ بشكل عام ـ على رعاية ضوابط العفة والاحتشام في العلاقة بين الجنسين؛ ذلك لأنّ الانفلات في العلاقات بين الجنسين يسبب فساداً أخلاقياً، يهدّد استقرار المجتمع وأمنه الأخلاقي.

هناك غريزة شهوانية عارمة في أعماق نفس الإنسان، وإذا فسح لها المجال دون حدود وضوابط، فإنّها تهدد استقرار المجتمع، وتؤثر على كيان الأسرة والعائلة.

وما يحدث في المجتمعات المعاصرة مما تذكره الإحصائيات من حوادث اغتصاب، وتحرّش وتجارة بالبشر للدعارة، وظاهرة تفكك وضعف بنية الأسرة، يؤكد هذه الحقيقة.

ويكفي أن تتابع أخبار الفضائح الجنسية في أوساط النخب السياسية والاقتصادية والفنية والرياضية على مستوى العالم، لترى خطورة ذلك على الأمن الأخلاقي للمجتمعات البشرية، تجد رؤساء ومسؤولين على أعلى المستويات، في أمريكا وأوروبا تلاحقهم الفضائح والتحرّش الجنسي!

إذًا فهي مشكلة حقيقية. 

ولهذا تعمل الجهات الدينية والمجتمعات المحافظة على تلافي هذه المشكلة بوسائل مختلفة، وعادة ما يتم التركيز على وسيلة السعي للفصل بين الجنسين، بل إنّ بعض الجهات المتشددة ترى ضرورة الفصل التام بين الرجال والنساء في كلّ المحافل والدوائر، فلكي نرفع درجة الالتزام الأخلاقي ـ من وجهة نظرهم ـ علينا أن نحقق أكبر قدر من الفصل بين الجنسين، وذلك بتقييد حركة المرأة، فلا ترى الرجل ولا يراها، بل ولا يسمع صوتها، فـ (صوت المرأة عورة)!.

وبعض الجهات الدينية لديها نصوص تستدلّ بها من أجل تعزيز حالة الفصل بين الجنسين، منها هذه الرواية: أن فاطمة الزهراء قالت لأبيها رسول الله ، حينما سألها عن خير شيء للمرأة؟ 

قالت: «خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهنّ الرجال»، وهي رواية مرسلة غير مقبولة من ناحية السند عند السنة والشيعة، كما نصّ على ذلك السيد الخوئي[2]  والحافظ العراقي من علماء الحديث عند أهل السنة.[3] 

يقول السيد الخوئي رحمه الله عن هذه الرواية: «فهي وإن كانت كلمة مشهورة بينهم، إلّا أنها لم ترد في شيء من النصوص، فلا وجه لجعلها دليلًا، مضافًا إلى السيرة القطعية المتصلة بزمان المعصوم حيث كانت النساء تتكلم مع الرجال، من دون تقيّد بحالة الضرورة»[4] .

ومن مظاهر الفصل أن تبقى المرأة في بيتها، فلا تذهب إلى المسجد، فصلاتها في بيتها أفضل، كما هو مفاد بعض الروايات!

فقد صرّح بعضهم بألّا تخرج المرأة إلّا ثلاث مرات: من بطن أمها إلى العالم، ومن بيت أبيها إلى الزوج، ومن بيت زوجها إلى القبر!! كما نقل ذلك الشيخ الغزالي[5] .

وقد قرأت كلمة لأحد العلماء، يشيد فيها بحياء المرأة!! وما جاء فيها:

«إنّ المرأة التي تربّت على الإسلام في المجتمعات المحافظة، تتسم حياتها بالحياء، وعندما يخاطبها الرجل لا تكاد تسمع كلامها حياءً أن ترفع صوتها، بل ربما بعضهن تتكلم وهي ترتجف، وبعضهن لا تستطيع أن تنطق، وبعضهنّ يعلوها نوع من الرحضاء، واحمرار الوجه، وغير ذلك من الأحوال التي تكون عند المرأة عندما يكلمها الرجل»[6] .

ولسنا الآن في وارد مناقشة هذه الروايات أو الآراء والمقولات، فقد تجاوزها الزمن، وأصبح وجود المرأة إلى جانب الرجل أمراً واقعاً، والرهان على الفصل بين الرجال والنساء لا معنى لمناقشته فضلًا عن تطبيقه، حيث يجد الرجل المرأة أمامه في كلّ مكان، كما تجد المرأة الرجل في العمل والسوق والشارع والمستشفى والمقهى والمطار.

بل أصبح التوجه الرسمي في الدوائر الحكومية هو إشراك المرأة في الوظائف إلى جانب الرجل.

والتحدي الذي يفرض نفسه على المجتمعات المتديّنة، هو: مدى رعاية ضوابط العفة والاحتشام في ظل هذا الاختلاط والتواصل.

سيرة المسلمين في العهود الأولى

إننا حين نتأمل النصوص الدينية وسيرة المسلمين الأوائل في العهد النبوي وعهد الصحابة وأئمة أهل البيت ، لا نرى أنّ الرهان في تحقيق العفة والاحتشام كان على أساس تحقيق الفصل بين الجنسين، ففي المجتمع الإسلامي على عهد رسول الله ، كانت مشاركة المرأة واضحة مكثفة في المجالات المختلفة، حيث تحضر المسجد، وتخرج إلى المعارك، وتلتقي الرجال في الكثير من المشاهد والموارد، مع الحفاظ على أحكام الستر وأجواء العفاف، 

ورد عن الإمام الصادق قال: قال أبي: قال علي : «كنّ النساء يصلّين مع النبي وكنّ يؤمرن أن لا يرفعن رؤوسهن قبل الرجال لضيق الأزر»[7] .

وفي صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس: سمعت منادي رسول الله ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم[8] .

ونجد أنّ مناسك الحج تفرض حالة طبيعية من الاختلاط والتداخل بين النساء والرجال، كما في الطواف والسعي ورمي الجمار وسائر المناسك والأعمال.

الرهان الواقعي

فالرهان ليس على الفصل بين الجنسين أو إبعاد النساء عن ساحة العمل وتهميشهن، وإنما يمكننا القول: إنّ الرهان يرتكز على أمرين:

أولاً: الوعي والتربية الأخلاقية للجنسين

كثيراً ما يتوجه الحديث للنساء، أن يراعين العفة والاحتشام، وكأنّ المشكلة محصورة في المرأة، وعليها أن تحتجب في بيتها!

بينما نجد القران الكريم يتوجه للجنسين معاً، ويبدأ بالرجال أولاً، يقول الله تعالى:  ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ[سورة النور: الآية 30-31].

والمؤسف أنّ في مجتمعاتنا نوعًا من الإهمال والتجاهل لحق المرأة في الوعي والمعرفة الدينية، الحوزات الدينية لا تبذل جهداً لتخريج العالمات، في مقابل الجهود الكبيرة لتخريج الفقهاء والعلماء، وكذلك في الأنشطة الدينية المختلفة، بل حتى صلاة الجماعة وما يتوفر فيها من الوعظ والإرشاد والتوجيه وكأنها مخصصة للرجال، فالنساء لا يحضرن صلاة الجماعة لوجود رأي بكراهة حضورهنّ المساجد، أو لعدم وجود أعراف وتقاليد تشجع حضور المرأة صلاة الجماعة!

فالأنشطة التثقيفية الدينية في أوساط النساء قياساً إلى الرجال لا تزال محدودة، وعلى سبيل المثال في مجال الخطابة تجد عدداً لا بأس به من الخطباء المتألقين، بينما يقلّ على صعيد النساء وجود الخطيبات المؤهلات!

لقد دخلت المرأة إلى الحياة العامة من أوسع أبوابها، وإذا لم تتوفر على الوعي والتوجيه والمعرفة، كيف نطلب منها أن تكون مستقيمة السلوك، قويمة الفكر والتوجه؟!!

ثانياً: المراهنة على قوة شخصية المرأة وتعزيز ثقتها بنفسها 

إذا كانت المرأة قوية الشخصية مع وعيها ومعرفتها الدينية تكون أعصى على الاستجابة للإغراءات، وأكثر حصانة من الوقوع في المزالق.

تحصين شخصية المرأة، بتعزيز ثقتها بنفسها، وإحاطتها بمشاعر الاحترام والمحبة من قبل العائلة.

فالمرأة إذا كانت تعامل بدونية واستضعاف داخل عائلتها من قبل الوالدين أو الزوج، وإذا لم يتوفر لها الإشباع العاطفي في الأسرة، وعاشت الجفاف العاطفي، فإنها قد تبحث عن مكانة لها في أنظار وقلوب آخرين خارج البيت.

وهو سبب كثير من حالات الانحراف والسقوط الذي تقع فيه بعض النساء والفتيات.

وتشير الإحصاءات إلى أنّ بعض البنات يضطررن إلى الهروب من منازل عوائلهن بسبب القسوة والشدة، وبعض الزوجات يعانين حالات العنف الأسري والمنزلي!!

فينبغي أن تعيش المرأة العزّ والحب والاحترام في عائلتها حتى يكون ذلك سبباً لتحصينها وقوة شخصيتها خارج المنزل.

من هنا نجد النصوص الدينية تؤكد على إحاطة المرأة بالعطف والرعاية والاحترام، لتشعر المرأة في داخل البيت بمكانتها، حتى لا تقع فريسة لمن يبدون لها العواطف والمشاعر الكاذبة الوهمية.

ورد عن رسول الله : «خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ، وأنا خَيرُكُم لِأَهلي»[9] 

وفي حديث آخر عنه : «مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ»[10] .

وعنه : «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»[11] .

بل إنّ النصوص الدينية تؤكد أنّ واجب الرجل لا يقتصر على الإنفاق المادي، وإنما ينبغي الالتفات إلى الجوانب العاطفية من مشاعر الودّ والاحترام.

فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «قول الرجل للمرأة إنّي أحبّك لا يذهب من قلبها أبداً»[12] .

وعن الإمام الصادق : «لا غنى بالزوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته، وهي: الموافقة ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها وهواها، وحسن خلقه معها، واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها وتوسعته عليها»[13] .

بل حتى وإن أخطأت في حقّ زوجها، ينبغي على الزوج أن يغفر لها ويسامحها. 

عن إسحاق بن عمار قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله : مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلى زَوْجِهَا الَّذِي إِذَا فَعَلَهُ كَانَ مُحْسِنًا؟ 

قَالَ: «يُشْبِعُهَا وَيَكْسُوهَا، وَإِنْ جَهِلَتْ غَفَرَ لَهَا». 

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله : «كَانَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ أَبِي عليه السلام تُؤْذِيهِ، فَيَغْفِرُ لَهَا»[14] .

فليس من الرجولة أن يستعرض الرجل قوته أمام زوجته أو يمارس بطشه وسلطته عليها!

إنّ البطولة الحقة هي في العطف والحنان وتوفير أجواء المودة والامتنان، وهكذا الحال في التعامل مع البنات، هناك روايات تشير إلى ضرورة مراعاة الجانب العاطفي عند الفتيات، وتقديمهنّ على الفتيان؛ لأنهنّ في حاجة أكثر إلى إبداء الحنان والعطف، وفي كتاب وسائل الشيعة باب بعنوان (استحباب شراء التحف للعيال والابتداء بالإناث)، جاء فيه عن النبي : «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنّ من فرّح ابنته فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل»[15] .

فالفتاة التي تعيش حالة الاحترام والتقدير داخل منزلها تكون قوية الشخصية، وتتعزّز ثقتها بنفسها.

وهذا هو الرهان الواقعي امتلاك المرأة للوعي السليم وقوة الشخصية.

* خطبة الجمعة بتاريخ 12 جمادى الأول 1440هـ الموافق 18 يناير 2019م.
[1]  سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل فاطمة بنت محمد ، حديث 3882.
[2]  السيد أبو القاسم الخوئي، مباني العروة الوثقى، كتاب النكاح، ج1، ص53.
[3]  عبد الحليم أبو شقة، تحرير المرأة، ج3، ص39.
[4]  مباني العروة الوثقى، مصدر سابق، ص100.
[5]  تحرير المرأة، مصدر سابق، ج1، ص5.
[6]  جريدة المسلمون، لندن/العدد [542]، الصادر بتاريخ 25 محرم 1416هـ.
[7]  وسائل الشيعة، حديث 858.
[8]  صحيح مسلم، حديث 2942.
[9]  من لا يحضره الفقيه، ج3، ص555، حديث 4908.
[10]  كنز العمّال، ج16، ص371، حديث 44943.
[11]  جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص246، حديث771.
[12]  الكافي، ج٥، ص٥٦٩.
[13]  بحار الأنوار، ج٧٥، ص٢٣٧.
[14]  الكافي، ج5، ص510، حديث 1.
[15]  وسائل الشيعة، ج15، ص227، حديث1.