الإنسان المعطاء والإنسان البخيل

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ‎﴿٤﴾‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ‎﴿٥﴾‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ‎﴿٦﴾‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ‎﴿٧﴾‏ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ ‎﴿٨﴾‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ ‎﴿٩﴾‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ[1] .

لأنّ الله تعالى منح بني البشر إرادة واختيارًا، لذلك تتنوّع شخصياتهم، وتختلف مسالكهم وتوجّهاتهم.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ، أي إنّ اتجاهات سعيكم مختلفة؛ لاختلاف أنماط شخصياتكم.

ثم يركز القرآن على أهمّ تجلٍّ لاختلاف نمط الشخصية بين بني البشر، فيصنّف شخصيات البشر إلى نموذجين: نموذج الإنسان المعطاء ونموذج الإنسان البخيل.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ، ويقابله ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ.

العطاء والبخل

إنّ الله تعالى يفيض على الإنسان في هذه الحياة من نعمه وفضله، ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ[2] ، فالعلم والمال والجاه والقدرة كلّها نِعَمٌ من الله تعالى، أنعم بها على الإنسان، وامتحنه في إدارتها، وطريقة التصرف فيها.

وهنا يتمايز النموذجان والنمطان للشخصية الإنسانية.

فالإنسان المعطاء هو الذي يستمتع بنعم الله، ويستفيد منها في تسيير شؤونه، وتلبية متطلبات حياته، ويجود بقسم منها على الآخرين من حوله، ومن أبناء مجتمعه، ونوعه الإنساني.

أما البخيل فهو من يحتكر نِعَمَ الله الوافرة لذاته، مع زيادتها عن حاجته، فلا يكاد ينال أحد من خيره شيئًا.

وتشير بعض الروايات في أسباب النزول إلى مناسبة نزول الآيات الكريمة، فتذكر: أنّ رجلًا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرّجل إذا صعد النّخلة ليأخذ منها التمر، ربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل من النخلة ليأخذ التمرة من أيديهم[3] .

التمايز بين النموذجين

تتحدّث الآيات الكريمة عن الخلفية الفكرية والنفسية لكلٍّ من الشخصيتين: المعطاء والبخيل، وعن تمايز مساري حياتهما ومستقبلهما.

إنّ الشخص المعطاء يتصف بحسّ المسؤولية، وتعبّر عنه الآية الكريمة بالتقوى، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ، والتقوى تعني الشّعور بالمسؤولية أمام الله تعالى، هذا الشعور كما يدفع الإنسان لأداء العبادة لله، فإنه يدفعه للعطاء لعباد الله.

لذا نجد إيتاء الزكاة، والإنفاق، رديفًا لأداء الصلاة في معظم الآيات القرآنية.

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[4] .

﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[5] .

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[6] .

وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا : «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُزَكِّ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ صَلَاتَهُ»[7] .

فالتقوى دافع للعطاء، ولا تتحقّق التقوى إلّا بالعطاء، ولا يكون المتقي بخيلًا.

كما يتصف الشخص المعطاء باقتناعه وإيمانه بالقيم والمبادئ، ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بها.

وفُسِّرَت الحسنى بالدين، وبالشهادتين، وبثواب الله تعالى. ويبدو أنّها تعني الاقتناع والإيمان الصادق بالمبادئ والقيم.

في المقابل يتصف الشخص البخيل؛ بأنه المهموم بتكديس الثروة، الحريص على جمع المال، ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ أي طلب الغنى، أو اكتفى بالغنى المادي عن أيّ اهتمام معنوي.

أما الصفة الثانية للبخيل فهو عدم إيمانه واقتناعه بالمبادئ والقيم، وإن أظهر ذلك في كلامه، تقول الآية الكريمة: ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ، أي بالمبادئ الدينية.

وقد يكون البخيل ممن يعلنون انتماءهم للدين، لكنّه تديّنٌ قشري سطحي، لا ينطلق من قناعة راسخة، تنعكس على سلوكه، لذلك تصف الآيات القرآنية هذا التدين بأنه تديّن كاذب.

يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‎﴿١﴾‏ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‎﴿٢﴾‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ[8] .

هكذا تتمايز صفات المعطاء عن صفات البخيل، فالمعطاء يعيش الإحساس بالمسؤولية، والصّدق في إيمانه بالمبادئ والقيم، بينما يسيطر على البخيل حرصه، وينعدم الإيمان الحقيقي في نفسه.

اختلاف السّيرتين والمسارين

أما تمايز مسار حياة شخصيتي المعطاء والبخيل، فهو ما تؤكده الآيات الكريمة، بأنّ حياة المعطاء تتجه لمسار اليسر، بينما تتجه حياة البخيل لمسار العسر، فعن المعطاء يقول تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ، وعن البخيل يقول تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ.

إنّ اليُسر والعسر في سيرتيهما يتمثلان في الحالة النفسية، وفي التفاعل الاجتماعي، وفي المستقبل الأخروي.

فالمعطاء يعيش راحة نفسية؛ لأنّ نفسه عامرة منتعشة بالمشاعر الإيجابية، واللذة المعنوية، والرجاء لتوفيق الله ورضاه، في مقابل توتر نفس البخيل بسبب شدّة حرصه، وانعدام المشاعر الإيجابية في نفسه.

وقد ورد عن النبي : «أقَلُّ النّاسِ راحَةً البَخيلُ»[9] .

والمعطاء ينال محبّة الناس، ويكسب ودّهم، ويحظى باحترامهم، بينما يكره الناس البخيل، ويمقتونه، حتى القريبين منه.

ورد عن علي : «لَيْسَ لِبَخِيلٍ حَبِيبٌ»[10] .

وعنه : «جُودُ الرَّجُلِ يُحَبِّبُهُ إِلَى أَضْدَادِهِ، وَبُخْلُهُ يُبَغِّضُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ»[11] .

وفي الآخرة فإنّ المعطاء بعيد عن النار والعذاب، يقول تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‎﴿١٧﴾‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ[12] ، وهو محظوظ بالثواب والنعيم في الجنة.

بينما تتوعد آيات القرآن الكريم البخيل بالنار والعذاب يوم القيامة.

يقول تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[13] .

ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[14] .

وورد عن الإمام علي بن موسى الرضا : «اَلسَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اَللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ اَلنَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ اَلنَّارِ، وَاَلْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اَللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ اَلْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ اَلنَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ اَلنَّارِ»[15] .

تنمية روح العطاء

إنّ على الإنسان أن يسعى لتعزيز صفة العطاء في شخصيته، بتنمية مشاعر الخير والبذل في نفسه، وممارسة العطاء في سلوكه. وأن يحصّن نفسه من نزعات البخل والحرص.

يقول تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[16] .

وكما نقرأ في الدعاء الوارد عن الإمام علي بن الحسين السجاد : «وَارْزُقْني مُواساةَ مَنْ قَتَّرْتَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقِكَ بِما وَسَّعْتَ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ»[17] .

إنّ صفتي العطاء والبخل لا ينحصر تمظهرهما في الجانب المالي فقط، بل تشملان كلّ أبعاد قدرات الإنسان وطاقاته، ففي الجانب العلمي والمعرفي هناك من يبذل علمه لمنفعة الناس، وهناك من يبخل بعلمه ومعرفته إلّا ضمن ما يخدم مصلحته الذاتية.

وعلى صعيد امتلاك الإنسان لمستوى من الجاه والنفوذ، هناك من يسعى بجاهه ويستخدم نفوذه لمساعدة الآخرين، وهناك من يضنّ بجاهه ووجاهته.

السّخاء والبخل العاطفي

والجانب المهم الذي نريد التأكيد عليه هو السّخاء في المجال العاطفي، في مقابل الجفاف والبخل في إبداء العواطف والمشاعر الإيجابية تجاه الآخرين.

إنّ على الإنسان أن يربّي ويدرّب نفسه على إبداء المحبّة والاحترام، ومشاعر الودّ والتقدير لمن حوله من أسرته وأصدقائه وسائر من يعاشره.

إنّ النبي يصف من لا يبادر الآخرين بالتحية والسلام بأنه مبتلى بأسوأ ألوان البخل، كما جاء في الحديث عنه : «إنَّ أبخَلَ النّاسِ مَن بَخِلَ بالسَّلامِ»[18] .

ويشجع النبي على إظهار المحبّة للآخرين حيث ورد في الحديث عنه : «إذا أحَبَّ الرَّجُلُ أخاهُ فَليُخبِرهُ أنَّهُ يُحِبُّهُ»[19] .

ويشير إلى أنّ إبداء التفاعل الإيجابي مع الآخرين بمثابة الصدقة والعطاء المالي، حيث ورد عنه : «تَبَسُّمُكَ في وَجهِ أخيكَ صَدَقةٌ»[20] .

 

خطبة الجمعة 11 جمادى الأخرة 1443هـ الموافق 14 يناير 2022م.

[1]  سورة الليل، الآيات: 4-10.
[2]  سورة النحل، الآية: 53.
[3]  الواحدي: الوسيط في تفسير القرآن المجيد، ج4، ص502.
[4]  سورة البقرة، الآية: 43.
[5]  سورة النساء، الآية: 162.
[6]  سورة البقرة، الآية: 3.
[7]  عيون أخبار الرضا، ج1، ص258، ح13.
[8]  سورة الماعون، الآيات: 1-3.
[9]  بحار الأنوار، ج73، ص300، ح2.
[10]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص557.
[11]  نفسه، ص336.
[12]  سورة الليل، الآيات: 17-18.
[13]  سورة آل عمران، الآية: 180.
[14]  سورة التوبة، الآية: 34.
[15]  بحار الأنوار، ج68، ص356.
[16]  سورة الحشر، الآية: 9.
[17]  مصباح المتهجّد، ص362.
[18]  الألباني، صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح1519.
[19]  الألباني: صحيح أبي داود، ح5124.
[20]  كنز العمّال، ج 6، ص 410، ح 16303.