المناسبات الدينية وتعزيز التماسك الاجتماعي

 

ورَدَ عن أبي عبدالله جعفر الصادق إنه قال: «تَزَاوَرُوا؛ فَإِنَّ فِي زِيَارَتِكُمْ إِحْيَاءً لِقُلُوبِكُمْ، وَذِكْرًا لِأَحَادِيثِنَا؛ وَأَحَادِيثُنَا تُعَطِّفُ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ، فَإِنْ أَخَذْتُمْ بِهَا رَشَدْتُمْ وَنَجَوْتُمْ، وَإِنْ تَرَكْتُمُوهَا ضَلَلْتُمْ وَهَلَكْتُمْ»[1] .

حرص أئمة أهل البيت على توجيه أتباعهم لتعزيز تماسكهم الاجتماعي، وذلك لعدّة أمور:

أولًا: تحقيقًا لروح الأخوة الإيمانية، كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وبالتّماسك الاجتماعي تتحقّق روح تلك الأخوّة.

ثانيًا: مواجهة تحدّيات الحياة، فطبيعة الحياة تحوي تحدّيات ومشاكل، وحينما يعيش الإنسان في مجتمع متماسك تكون قدرته المعنوية والعملية على مواجهة التحدّيات أكبر وأفضل.

ثالثًا: الظروف الخاصّة التي كان يعيشها شيعة أهل البيت ، حيث كانت الضّغوط تُفرض عليهم في ظلّ حكم الأمويين والعباسيين.

هذه الظروف كانت تستوجب التمّاسك الدّاخلي، من أجل قدرة أكبر على مواجهة هذه الضّغوط، والحفاظ على الهوية والتمسّك بالمبادئ.

من هنا جاء التوجيه المكثّف من قِبل الأئمة لشيعتهم بأن يتلاقوا ويتزاورا ويعقدوا الاجتماعات فيما بينهم، خاصّة في المناسبات الدينية، فمن أهدافها تعزيز التّماسك الاجتماعي.

مقومات التماسك الاجتماعي

وضع الأئمة مقوّمات يتحقّق بها التّماسك المطلوب في مجتمع المؤمنين:

المقوّم الأول: التّمحور حول القيم والمبادئ التي حملها أهل البيت

لم يكن تجمّع أهل البيت مصلحيًّا أو قبليًّا أو سياسيًّا مجرّدًا، فقد كان الأئمة قادة خطٍّ رسالي إيماني، لذلك يريدون من أتباعهم أن يتذكروا هذه القيم التي والوا أهل البيت على أساسها.

من هنا يركز الأئمة دائمًا على استحضار هذه القيم والمبادئ، ورد عن الإمام الباقر : «فَوَ اَللَّهِ مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اِتَّقَى اَللَّهَ وَأَطَاعَهُ»[2] .

وكما جاء في الرواية عن الإمام الصّادق : «فَإِنَّ فِي زِيَارَتِكُمْ إِحْيَاءً لِقُلُوبِكُمْ، وَذِكْرًا لِأَحَادِيثِنَا»[3] .

التقوى وطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى والالتفاف حول القيم التي يبشّر بها أهل البيت هي الأساس، وهي ما تفيض به أحاديثهم وتوجيهاتهم.

المقوّم الثاني: التواصل الاجتماعي

عبر التزاور والتلاقي وتبادل الاحترام، وإبداء المحبّة والمودّة، فذلك ما يجذب الإنسان لأبناء مجتمعه، ويؤكّد انشداده وانتماءه إليهم.

وقد وردت عن أئمة أهل البيت روايات كثيرة حول كلّ مفردة من مفردات التّواصل الاجتماعي، كالتّزاور، وإبداء السّلام، والمصافحة، والمعانقة، والبشاشة، والإكرام، والضّيافة، وحسن العشرة.

المقوّم الثالث: التعاطف والتراحم في مجتمع المؤمنين

حيث يشير الإمام الصّادق إلى أنّ رسالة أقوالهم وأحاديثهم هي بالدرجة الأساس ترسيخ التعاطف في العلاقات بين أبناء المجتمع الإيماني، كما يقول : «وَأَحَادِيثُنَا تُعَطِّفُ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ»[4] .

إنّ أهل البيت ينكرون صحة إطلاق صفة التشيّع والولاء والاتّباع لهم، إذا لم تتوفر حالة التّراحم والتّعاطف داخل المجتمع.

عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَر : جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ الشِّيعَةَ عِنْدَنَا كَثِيرٌ.

فَقَالَ: «فَهَلْ يَعْطِفُ الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ؟ وَهَلْ يَتَجَاوَزُ الْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِي‌ءِ، وَيَتَوَاسَوْنَ؟ 

فَقُلْتُ: لا.

فَقَالَ: «لَيْسَ هؤُلَاءِ شِيعَةً، الشِّيعَةُ مَنْ يَفْعَلُ هذَا»[5] .

وهذه التوجيهات من قبل الأئمة هي التي أسّست لهذه المواسم الدينية عند أتباع أهل البيت، ومن أبرزها موسم عاشوراء.

هذا الموسم الذي نعيش بركته في كلّ عام، ونرى كيف يحتشد الناس، ويجتمعون كبارًا وصغارًا، شيبًا وشبّانًا، ذكورًا وإناثًا، وتستمرّ المجالس في مجتمعاتنا لأكثر من اثنتي عشرة ساعة، بعض المجالس تبدأ عند السّادسة صباحًا، وبعض المجالس تستمرّ إلى السّاعة الثانية عشرة مساءً، فترة طويلة والناس يتواجدون في هذه المجالس، كُلٌّ حسب وقته وجُهده وتوفيقه.

استثمار المناسبة

طبيعة هذا الموسم أنه تطوّعي أهلي، حيث يبادر الناس من أنفسهم وينفقون من أموالهم ووقتهم وجهدهم، مما يعني ضرورة الاستفادة من هذه الرّوح التطوعية، لكي تتحوّل إلى حالة دائمة في المجتمع، وليس فقط أيام عاشوراء.

ينبغي أن نجذّر هذه الرّوح، وندفع الجمهور كي يستفيدوا من هذا الموسم في تقمّص الرّوح التطوعية.

من جهة أخرى، ينبغي للخطباء أن يركزوا في خطبهم على دعوة المؤمنين للمشاركة في المؤسّسات الخيرية، والمنظّمات الأهليّة، والعمل التطوّعي.

كما ندعو الناس إلى العبادات والالتزام بالمعتقدات، مهمٌّ جدًّا أن ندعوهم إلى العمل التطوّعي، أن يبذلوا من أموالهم وأوقاتهم وأنفسهم في خدمة المجتمع، وهذا يستلزم حضورًا للمؤسّسات الاجتماعية في وسط جمهور.

نتمنّى لو أنّ كلّ مؤسّسة من المؤسّسات في مجتمعنا تُعدُّ لها برنامجًا لأيام عاشوراء، بحيث تتواجد في هذه التجمّعات، وتوصل رسالتها للجمهور، وتُعرّف الناس بأنشطتها.

كأن يكون لكلّ جمعية ركنٌ في المجالس الرئيسة، يقوم بدور مكتب التواصل مع الجمهور، عبر نشر الكتيبات والمطويات لتعريف الناس بالأنشطة والبرامج، والتعرّف على الناشطين في هذه المجالس، لدعوتهم إلى التعاون والالتحاق ببرامج الجمعية.

وهكذا بالنسبة إلى الأندية الرياضية وسائر المؤسّسات الاجتماعية والقرآنية والأدبية والصحية، ينبغي أن يكون لكلّ المؤسّسات حضور فاعل، سواء من خلال الحديث عنها على المنبر، أو تخصيص ركن أو مكتب في المجالس الرئيسة.

ما دام هناك جمهور محتشد، ونفوس متهيئة، وعواطف صادقة جيّاشة، ينبغي أن تستثمر في توجيه الناس نحو هذه المؤسّسات.

إذا غابت المؤسّسات عن هذه الاجتماعات الكبيرة، فأين تجد مثل هذه الحشود والتجمّعات والأجواء المهيأة نفسيًّا وفكريًّا؟!

لا بُدّ وأن تتضافر كلّ الجهود لاستثمار موسم عاشوراء، فله طاقة كبيرة فاعلة، لكنّنا لا نستفيد منه إلّا بمقدار محدود.

إنّ ذلك يشبه جهازًا كبيرًا ينتج الطاقة الكهربائية، لا نستفيد منه إلّا ببعض مصابيح خفيفة، مما يعني أنّ الطاقة معطّلة في هذا الجهاز!

موسم عاشوراء فيه قدرات كبيرة ينبغي استثمارها في دفع الناس نحو الخير وتشجيعهم بمختلف البرامج والأساليب.

 

* خطبة الجمعة بتاريخ 7 محرم 1441هـ الموافق 6 سبتمبر 2019م.
[1]  الكافي، ج3، ص476، حديث2.
[2]  الكافي، ج2، ص74.
[3]  المصدر نفسه، ج3، ص476.
[4]  الكافي، ج3، ص476.
[5]  المصدر نفسه، ج3، ص444.