خطر التأليب في النزاعات العائلية

 

ورد عن رسول الله أنه قال: «انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا، فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: تَحْجُزُهُ، أوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ»[1] .

يصادف يوم العاشر من أكتوبر اليوم العالمي للصّحة النّفسية.

علاقات الإنسان مع محيطه الاجتماعي أحد أهم العوامل في صحته النّفسية واستقراره الدّاخلي، فإذا كانت علاقاته ضمن عائلته ومع جيرانه وزملائه ومن يتعامل معهم، تسير بشكل إيجابي، في حالة من الرّضا المتبادل، فذلك يجعله أقرب إلى السّعادة والارتياح، أما إذا اختلّت وتأزّمت علاقاته، خاصّة مع القريبين منه، فإنّ ذلك يسبّب له الألم والاضطراب النّفسي، وكلّما كانت الدائرة أقرب، كان تأثيرها على النفس أكبر.

ورد عن الإمام علي : «عَدَاوَةُ الْأَقَارِبِ أَمَرُّ مِنْ لَسْعِ الْعَقَارِبِ»[2] ، كلّما كانت الدائرة أقرب للإنسان، كان ضغطها عليه أكبر.

وأفضل دعم يُقدم للإنسان، مساعدته في معالجة اختلال علاقاته، خاصّة مع الدائرة القريبة منه.

إذا وجدت إنسانًا يعيش مشكلة في علاقته مع القريبين منه، فأكبر مساعدة تقدّمها له، مساعدته في حلّ هذه المشكلة، لذلك وردت الآيات والروايات حول فضل إصلاح ذات البين، يقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾[سورة الأنفال، الآية: 1]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[سورة الحجرات، الآية: 10].

وورد عن الإمام علي في وصيته الأخيرة أنه قال: «أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَه كِتَابِي، بِتَقْوَى اللَّه ونَظْمِ أَمْرِكُمْ وصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا يَقُولُ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ»[3] .

وعن الإمام جعفر الصادق : «صَدَقَةٌ يُحِبُّهَا اَللَّهُ، إِصْلاَحٌ بَيْنَ اَلنَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَتَقَارُبٌ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا»[4] .

إنّ إصلاح ذات البين يقتضي تقديم النّصح لكلا الطرفين، بالمرونة تجاه الطرف الآخر، قد يكون هناك خطأ من أحد الطرفين تجاه الآخر، وقد تكون هناك أخطاء متبادلة، فعلى المصلح أن يشجّع الطّرفين على المرونة والتّسامح ومبادرة كلٍّ منهما تجاه الآخر.

خطر التأليب

من أسباب تعمّق الخلاف، حالة التأليب والتحريض، حيث يندفع البعض عاطفيًّا نحو أحد طرفي النزاع، ليقوّي موقفه في مقابل الآخر؛ لأنه قريبه أو صديقه، فيحاول أن يقوّيَ موقفه ويؤلّبه على الطّرف الآخر ويبالغ في إدانته أمامه، وهذا خطأ جسيم، خاصّة إذا كان هذا الطّرف يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية في المشكلة!!

إنّ الدّفع نحو التّشدّد في الخلافات داخل الأسر والعوائل يضرّ بالجميع، ومن يظنّ أنه يقدّم لقريبه أو صديقه خدمة بدفعه إلى التّشدّد، فهو في الحقيقة يضرّه، ومن يسعى في مصلحة قريبه عليه أن يشجّعه على الصّلح والمرونة، ويمنعه من التّشدّد، وهذا ما يعبّر عنه الحديث النبوي:

«... فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا كيفَ أنْصُرُهُ؟ 

قالَ: تَحْجُزُهُ، أوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ»[5] .

إذا كان في موقف خطأ فعليك أن تسعى لمنعه وأن تحجزه عن الخطأ، لا أن تقوّيَ موقفه، فيتصلّب في جانب الخطأ!

نحن نجد بعض العوائل تُخطئ كثيرًا في مثل هذه الحالات، حين تحدث مشكلة بين الولد وزوجته، تندفع العائلة ـ تحت عنوان الدفاع عن ابنهم ـ لتشجّعه على التّشدّد في موقفه!

وكذلك عائلة الزوجة، يدفعونها لعدم المرونة أو التنازل! 

وكلّ ذلك ليس في مصلحة الكيان الأسري العائلي، بل إنّ هذه الممارسات سبب لهدم الأسرة.

الدفع نحو الانفصال والطلاق

ويحصل في بعض الأحيان أن يميل الزّوجان إلى الصُّلح، لكنّ العوائل يدفعون نحو التّشدّد، وقد وجدنا في كثير من هذه الحالات، أنه يتم الحديث عن الصّلح مع الزوجة فتقبل، لكنّها تقول إنّ أبي يرفض عودتي إلى زوجي، أو أُمي تمنعني من التّواصل مع زوجي!

والأمر كذلك بالنسبة للأصدقاء، حين يفتقدون الوعي والحكمة، يندفعون بعنوان التعاطف ويتصورون أنّهم يقفون إلى جانب صديقهم، فيشجّعونه على التّشدّد والتصلّب في الموقف، وهم بذلك يضرّونه ويهدمون أسرته!

وكذلك الأمر بالنسبة لصديقات الزوجة، تتحدّث بعض التقارير حول حفلات الطّلاق، وتشجيع النساء لصديقاتهنّ على التخلّص من أزواجهنّ!

لماذا تبقين تحت هيمنة الرّجل وسيطرته؟!

وقد نشرت الجرائد عن حصول بعض حفلات الطّلاق، حيث تعلن المرأة ابتهاجها وتحرّرها من هيمنة زوجها!

صحيح أنّ هناك حالات يكون الزوج فيها عدوانيًّا مسيئًا، لكنّ الابتهاج بالطّلاق يخالف النّصوص الدينية، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ»[6] .

وورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَا مِنْ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ اَلطَّلاَقِ»[7] .

التّدخلات وافتعال المشاكل

وفي بعض الأحيان تشجّع الفتيات بعضهنّ بعضًا على التّشدّد مع الزوج، ومطالبته بتنفيذ رغباتهنّ، دون أن توجد حالة خلاف، بل تكون ضمن حالة الاسترسال في الحديث عن الشؤون الأسرية والزوجية، فتدفع الواحدة منهنّ صديقتها إلى مطالبة زوجها بإدخال تحسينات على الشّقة، أو شراء أثاث جديد، أو شراء سيارة جديدة، أو السّفر إلى بلد معيّن، ضمن مستوى ومواصفات قد لا يتمكن الزوج من تحقيقها!

إنّ مثل هذا التدخل يفتح جروحًا في العلاقات العائلية ويهدم كيان الأسرة!

إذا كان الصّديق يحبّ صديقه، والفتاة تحبّ صديقتها، والعائلة تسعى لسعادة أبنائها، عليهم أن يأخذوا منحًى إيجابيًّا في التشجيع على التّسامح والتوافق والتراضي، وما يحدث خلاف ذلك هو مما يسخط الله سبحانه ويغضبه.

البعض يعرض مشكلته على من حوله ويتوقع منهم أن يقفوا إلى جانبه، يطرح عليك مشكلته مع زوجته ويتوقع منك أن تصطفّ معه فإذا نصحته، لا يرضى ويرى أنك خذلته!

لكنّها النصرة الحقيقية، فالإنسان في مثل هذه المواقف أحوج ما يكون إلى النّصيحة، وليس إلى التأليب والتحريض، سواء في الخلاف العائلي أو الاجتماعي.

الموقف الأخلاقي المسؤول

يحصل في بعض الأحيان أنّ موظفًا يعرض مشكلة بينه وبين مديره أو زميله في العمل، فيبادر أصدقاؤه إلى دعوته لاستيعاب المشكلة ويساعدونه في حلّ مشكلته. 

وفي حالة أخرى يعبّئونه ضدّ مديره، ويدعونه إلى عدم التنازل عن حقّه كما يتصوّر، وتكون نتيجة ذلك التأليب سيئة، فتزداد المشكلة، وقد يخسر وظيفته!

حينما يكون الإنسان قريبًا من أحد أطراف الخلاف أو النزاع، عليه أن يتخذ موقفًا مسؤولًا، يستحضر الله سبحانه نصب عينه.

ماذا يريد الله منّي في هذا الموقف؟

إلى ماذا تدعو آيات القرآن والأحاديث الشّريفة؟

الدعوة إلى الاستيعاب والمرونة بغضّ النظر عن علاقتك مع هذا الشخص، إذا كان قريبًا لك وعزيزًا عليك، فعليك أن تفكر في مصلحته بتقديم النصيحة له، وعلى الإنسان أن يتقبّل نصح النّاصحين.

البعض لا يقبل النصيحة ويريدك أن تكون معه وتساعده على التّشدّد. 

ورد عن أمير المؤمنين علي : «مَرارَةُ النُّصْحِ أَنْفَعُ مِنْ حَلاوَةِ الْغَشِّ»[8] .

حين ينصحك صديقك، وإن كان في نصحه مرارة، هذا أنفع لك من حلاوة الغشّ، حين يبدو متعاطفًا معك، لكنّه يضرّك ولا ينفعك.

ورد عن الإمام محمد الباقر : «اتَّبِعْ مَنْ يُبْكِيكَ وَهُوَ لَكَ نَاصِحٌ، وَلَا تَتَّبِعْ مَنْ يُضْحِكُكَ وَهُوَ لَكَ غَاشٌّ»[9] .

إذا وجدت شخصين، أحدهما يدعوك إلى التّشدّد والآخر ينصحك بالمرونة، عليك أن تتّبع الثاني؛ لأنّ ذلك ينسجم مع تعاليم الدين وهو خير لك في علاقتك مع الأطراف الأخرى.

ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «مَنْ أمَرَكَ بِإصْلاحِ نَفْسِكَ فَهُوَ أحَقُّ مَنْ تُطيعُهُ»[10] . 

وعنه : «اِسْمَعُوا (اِقْبَلُوا) النَّصِيْحَةَ مِمّنْ أهْداها إلَيْكُمْ»[11] .

الإنسان عادة يبرّئ نفسه ويلقي باللّائمة على غيره، بينما قد يكون لديه نقطة ضعف، قد لا تكون خطأ ارتكبه، بل هي عدم القدرة على استيعاب خطأ الطرف الآخر.

إنّ الله تعالى يأمرنا أن نكون منصفين في مواقفنا تجاه الآخرين، فهو أقرب إلى العدل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ[سورة النساء، الآية: 135].

وكون هذا الشّاب ابنك أو الفتاة ابنتك لا ينبغي أن يدعوك ذلك إلى مخالفة الإنصاف والعدل، فتؤلّب وتحرّض، ففي ذلك مخالفة لأوامر الله سبحانه وتعالى.

* خطبة الجمعة بتاريخ 11 صفر 1441هـ الموافق 11 أكتوبر 2019م.
[1]  صحيح البخاري، حديث6952.
[2]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص407.
[3]  نهج البلاغة، وصية: 47.
[4]  وسائل الشيعة، ج18، ص 439.
[5]  صحيح البخاري، حديث6952.
[6]  سنن ابن ماجة،حديث2008.
[7]  الكافي، ج6، ص24.
[8]  عيون الحكم والمواعظ، ص489.
[9]  الكافي، ج4، ص685.
[10]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص632.
[11]  المصدر نفسه، ص151.