زيارة الأربعين.. استثمارها وتوظيفها

 

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[سورة البقرة، الآية: 231].

في القرآن الكريم آيات كثيرة توجه الإنسان إلى استذكار نعم الله تعالى، ذلك أنّ الإنسان حين يعيش في أحضان النّعمة قد يغفل عنها ويتجاهلها، فلا يلتفت إلى شكر المنعم سبحانه، كما لا يهتم بالحفاظ على النّعمة وتنميتها واستثمارها.

الآيات القرآنية تؤكّد على الإنسان ضرورة استذكار نعم الله تعالى، دائمًا وأبدًا، في كلّ لحظة وفي كلّ حين، والأدعية المأثورة تُرسّخ عند الإنسان هذا السّلوك، حينما يجلس من نومه يحمد الله تعالى بقوله: «لَكَ الْحَمْدُ اَنْ بَعَثْتَني مِنْ مَرْقَدي وَلَوْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَدًا»[1] ، فالإنسان معرّض للموت أثناء نومه.

وحينما يشرب الماء يستذكر أنّ هذه نعمة كبيرة من الله، فوجود الماء، وتوفره، وقدرتنا على شربه، والاستفادة منه، نعم يعتمد عليها وجود الإنسان في الحياة.

ينبغي للإنسان أن يلتفت إلى النعم وأن يشكر الله عليها، وأن يدرك احتمال زوالها.

فكيف يحافظ عليها؟ وكيف ينمّيها؟

المشكلة أنّ الإنسان لا يشعر بقيمة النّعمة إلّا عند فقدها، فهو يستخدم بصره كلّ يوم ويتنعّم به، فيرى جمال الكون والحياة، فإذا أصابه ألم في عينه التفت إلى هذه النّعمة وتذكر أهميتها؛ لأنّه يعاني من الألم الذي طرأ عليها.

وهكذا نعمة اللسان واليد، وكلّ جارحة من جوارح الإنسان.

كلّ شيءٍ يتوفر للإنسان هو نعمة يمكن أن تتعرّض للزوال، والإنسان مسؤول عن المحافظة على النعم وتنميتها.

ورد عن أمير المؤمنين علي : «إِنَّمَا يُعْرَفُ مِقْدَارُ اَلنِّعَمِ بِمُقَاسَاةِ ضِدِّهَا»[2] .

وعنه : «مَنْ كَانَ فِي اَلنِّعْمَةِ جَهِلَ قَدْرَ اَلْبَلِيَّةِ»[3] .

ما دام الإنسان يعيش النعمة لا يلتفت إليها، فإذا فقدها تنبّه إلى ضرورتها وعزَّ عليه فقدها، ورد عن الإمام الحسن : «تُجْهَلُ اَلنِّعَمُ مَا أَقَامَتْ فَإِذَا وَلَّتْ عُرِفَتْ»[4] .

ما دامت النعمة مقيمة عند الإنسان يجهل قدرها، ويجري ذلك حتى في الجانب الاجتماعي، فالإنسان يتنعّم بوجود والديه، ولا ينتبه كثيرًا لأهمية وجود الوالدين، فإذا افتقد أحد والديه أو أحد أعزّائه، أحسّ بألم الفراق، فيستذكر قيمة النعمة.

هذه الآية المباركة: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ستحثّ الإنسان على تذكر النعم المادية والمعنوية.

أيّها الإنسان، إنك تتمتّع بنعمة الصحة، ونعمة القابليات والمواهب، وإضافة إلى ذلك هناك نِعَمٌ معنوية، من أبرزها الهداية للدين، «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله».

وكذلك نعمة التوفيق إلى الطاعة، أنت تأتي للصلاة في المسجد، وهو توفيق ونعمة يجب أن تشكر الله عليها، فكثير من الناس محرومون من هذه النعمة، لا يحضرون المسجد، ولا يشاركون في الأعمال الخيرية، أنت حينما تُشارك عليك أن تُدرك قيمة النعمة فتشكر الله وتحافظ عليها وتُنمّيها.

ثم تقول الآية: ﴿وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ، هذا الدّين العظيم، والقرآن الكريم، هذا التراث الديني، هي نِعَمٌ كبيرة يجب أن نشكر الله عليها.

زيارة الأربعين

في كلّ سنة في العشرين من شهر صفر نعيش ذكرى (زيارة الأربعين)، ونُتابع أخبار وصور الزحف الجماهيري المليوني الكبير لزيارة الإمام الحسين .

إنّ الزيارة بهذه الهيبة وهذا القدر الكبير من الزائرين، نعمة كبيرة من الله على المؤمنين، أتباع مدرسة أهل البيت ، فقلَّ أن تتوفر مثل هذه المناسبة لأيِّ جماعة دينية، بالخصائص التي تتوفر في زيارة الأربعين.

كلّ الطوائف الدينية من مختلف الأديان لديها مناسبات، يزورون فيها أماكن يعتبرونها مقدّسة، اليهود والمسيحيون والهندوس والبوذيون لديهم أماكنهم المقدسة.

كومبه ميلا 

«كومبه ميلا» هو مهرجان في الهندوسية يتوجه خلاله الحجاج الهندوس في الفترة (بين يناير وفبراير) إلى مواقع مختلفة على طول نهر الغانج، وخاصّة مدينة الله آباد، من أجل المشاركة في طقوس الاستحمام الخاصة التي تحدث (كلّ 3 سنوات)، ويعتبر «كومبه ميلا» أكبر تجمّع ديني في العالم، ويشارك فيه ما يتراوح بين (60 و70 مليون) شخص تقريبًا.

يعتقدون أنّ هذا النهر فيه الخير والبركة، فمن يصل إليه في هذا الوقت ويستحمّ ينال الطهارة والقداسة والتوفيق حسب اعتقادهم.

في هذه السنة يتوقع أن يكون عدد المُشاركين (مئة وخمسين مليون)، ذلك أنّ السياسيين يريدون استثمار المناسبة، فحزب (بهارتا) الهندوسي الذي يحكم الهند الآن، يعمل بكلّ قوة من أجل الاستفادة من هذا المهرجان.

خصائص زيارة الأربعين

لكنّ مناسبة زيارة الإمام الحسين لها ميزات وخصائص، من ثلاث حيثيات:

المضمون القيمي الذي تتوفر عليه.

الشخصية التي تتمحور حولها هذه الزيارة.

الإقبال الكبير من مختلف أنحاء العالم.

هناك من يصرف الوقت في الجدل حول قضايا جانبية، ويدور الجدل والتساؤل: 

هل عادت أسرة الحسين في العشرين من صفر إلى العراق أو لم تعد؟!

هل هناك نصوص وأحاديث مخصوصة حول هذه الزيارة في هذا اليوم أم لا؟!

إذا كان النقاش في مجال البحث العلمي فلا بأس به، أما إذا كان بقصد التشويش على هذه المناسبة العظيمة ودلالاتها وأبعادها ومضامينها، فهذا ليس أمرًا مناسبًا ولا سليمًا.

ينبغي أن نتوجه إلى عمق المناسبة، فأصل زيارة الإمام الحسين من الثوابت في مدرسة أهل البيت، ولا يوجد إمام من الأئمة أو معصوم من المعصومين ورد التأكيد على زيارته كما هو الحال في زيارة الإمام الحسين .

لقد دفع الشيعة في تاريخهم الطويل التضحيات الجسام، وقدّموا الأثمان الغالية لكي يحافظوا على هذه المراسم العظيمة، مرّت عليهم ظروف صعبة وخطيرة، كانت زيارة الحسين تكلّف الإنسان حياته، لكنّهم تابعوا هذه المسيرة واستمرّوا على أداء هذه الشعيرة الدينية.

استثمار المناسبة

في هذا العصر الذي هيّأ الله فيه الظروف والأسباب، لكي تكون الزيارة بهذا الحجم والتأثير، في منطقة مهمّة من العالم، حيث يتمكن أتباع أهل البيت من أداء هذه الشعيرة في أبهى صورة وأفضل وجه، ينبغي لنا أن نتوجه إلى استثمار هذه المناسبة وتوظيفها، بدل إضاعة الوقت بالنقاشات الجانبية، التي محلّها البحث والنقاش العلمي.

أنظار العالم تتجه إلى هذا الزحف المليوني الشعبي الكبير، وتتسلّط عليه الأضواء، فينبغي أن يستثمر بالشكل اللائق.

ترسيخ الإيمان

نحن نعيشُ في عصر يتعرّض فيه الإيمان إلى عواصف من التحدّيات، وتتعرّض فيه القيم إلى كثير من الاهتزازات، ونحتاج إلى أن نثبّت الإيمان ونرسّخ القيم في نفوسنا ونفوس الأجيال الصّاعدة من أبنائنا، ولا بُدّ من التفكير في كيفية استثمار هذه المناسبة العظيمة، في ترسيخ الإيمان بالمبادئ والقيم التي جسّدها الإمام الحسين في نهضته المباركة.

هذه الزيارة وأمثالها من الشّعائر الدينية تُتيح لنا هذه الفرصة العظيمة؛ لأنّ الإمام الحسين عاش من أجل المبادئ والقيم، وضحّى واستُشهد من أجلها، لهذا تجد في النصّ المأثور الوارد في زيارة الإمام الحسين تذكيرًا بالقيم التي كان يجسّدها، حتى نتطلّع لتحقيقها ونتقمّصها في حياتنا، حينما نقرأ في الزيارة «أشهَدُ أنكَ قَد أقَمتَ الصَّلاةَ وَآتَيتَ الزَّكاة وَأمَرتَ باُلمِعروف وَنَهَيتَ عَنِ المُنكرِ وَأطَعتَ اللهَ وَرَسولَهُ حَتّى أتاك اليَقينُ».

وفي زيارة أخرى: «وَدَعَوْتَ اِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».

وفي زيارة ثالثة: «وَتَلَوْتَ الْكِتابَ حَقَّ تِلاوَتِهِ وَجاهَدْتَ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ وَصَبَرْتَ عَلَى الأذى فِي جَنْبِهِ مُحْتَسِبًا حَتّى أتاكَ الْيَقينُ».

نحن نزور شخصًا هذه صفاته، ونشهد له بتجسيده لهذه الصّفات، وهذا يعني التطلّع لتقمّص هذه الصفات وتكريس هذه السِّمات في نفوس الملايين من الزائرين التي تزحف لزيارة الحسين.

موسم وعي وثقافة

ومعنى ذلك أن تتحوّل مناسبة زيارة الأربعين إلى موسم وعي وثقافة وتوجيه للالتزام بأحكام الدين وتعاليمه الأخلاقية.

لقد بدأت جهود ومبادرات طيبة من قبل الحوزات العلمية والعلماء والمبلّغين والمؤسّسات المختلفة في استثمار هذه الزيارة، حيث أصبحت الظروف مُهيئة، واستُحدثت برامج لنشر الوعي والثقافة في أوساط الزائرين، وخاصّة المشاة الذين يصرفون ساعاتٍ وبعضهم أيامًا سيرًا على الأقدام حتى يصلوا إلى كربلاء، هذه المدة الزمنية يمكن أن تتحوّل إلى دورة توعوية تدريبية على الالتزام بالأحكام والمبادئ الدينية، حيث يتوقف الجميع وقت الصلاة، ويتوجهون إلى صلاة الجماعة، في مناظر رائعة جميلة، وهذا أمر في غاية الأهمية، فبعض الزائرين قد لا تكون صلاة الجماعة برنامجًا يوميًّا في حياته، لكنّه من خلال هذه المناسبة يتعوّد على ذلك، وهكذا الاستماع إلى المسائل الشرعية والتوجيه الديني.

التعاون بين الناس 

كلّ من حضر وشارك في مناسبة زيارة الأربعين كان منبهرًا من روح العطاء والتسامح السّائدة بين الزائرين.

كيف يخدم بعضهم بعضًا؟!

كيف يبذل الناس للزائرين كلّ ما يملكون وما يستطيعون في سبيل خدمتهم؟!

وهذا ما ينمّي عند الإنسان الإحساس والشعور بأهمية العمل التطوعي وخدمة الناس.

التعاون بين الناس، والعمل الجمعي، قيمٌ مُهمّة ينبغي أن نُوظف زيارة الأربعين من أجل تكريسها وترسيخها، ليس في نفوس الزائرين والمشاركين فقط، وإنّما بنقلها إلى الناس أجمعين.

رسالة زيارة الأربعين إلى العالم

ما هي الرسالة التي نريد أن نوصلها إلى العالم من خلال هذه الزيارة؟

العالم يتساءل: من هو الحسين الذي يهتم به هؤلاء الناس ويهتفون باسمه؟!

يخبرني بعض المؤمنين المقيمين في البلدان الأجنبية والأوروبية أنهم في يوم عاشوراء حينما يخرجون بمسيرة ويحملون لافتات ويتحدثون عن الحسين، يقف الناس ويتساءلون: 

من هو الحسين؟ يريدون أن يتعرّفوا على هذا الرمز، بالتأكيد فإنه لا يهمّهم معرفة الحسين الجسد كإنسان ولد سنة كذا وقتل سنة كذا، بل يهمّهم التعرف على الحسين الفكر والمنهج، والقضية والموقف.

ما هي الرسالة التي حملها الحسين؟

لماذا ثار وضحّى واستُشهد؟

وسائل الإعلام كلّها تنقل صورًا عن زيارة الأربعين، وعلينا أن نقول للعالم عبرها من هو الإمام الحسين، وما هي قضيته وفكره ومنهجه، وباللغة التي يفهمها العالم المعاصر.

حينما أتحدّث بلغة نفهمها داخليًّا، (ظلامة الحسين ومصائبه) نحن نتفاعل، لكنّ العالم الخارجي يريد شيئًا آخر، يريد أن يتعرّف على الهدف والمغزى، عن السبب وأصل القضية، وهذا يعني أننا بحاجة لخطاب إلى كلّ العالم، يحمل ويوصل رسالة الحسين.

بعض الزائرين على عفويتهم يردّدون شعارات، قد تكون مفهومة محليًّا في داخل المجتمع، لكنّنا نحتاج إلى شعارات يفهمها العالم أيضًا، حتى نخاطب بها العالم.

لا عذر لنا ولا حجة، فكلّ الوسائل متوفرة والأمور ميسّرة، وعلينا أن نجدّ ونجتهد وأن نعيَ المسؤولية.

مشكلتنا تكمن في ضعف الوعي بالمسؤولية تجاه قضية الإمام الحسين وإبقاء القضية الحسينية في إطار محدود ألفناه، ولا يهمّنا أنّ العالم يفهم ذلك أم لا!!

وبحمد الله فقد بدأت بشائر هذا الوعي وهذا التوجه، والمطلوب من المؤمنين جميعاً أن يدعموا هذا الخطّ الواعي لحمل رسالة الحسين وإيصالها إلى العالم.

* خطبة الجمعة بتاريخ 18 صفر 1441هـ الموافق 18 أكتوبر 2019م.
[1]  الصحيفة السجادية، دعاء يوم الأربعاء.
[2]  عيون الحكم والمواعظ، ص177
[3]  بحار الأنوار، ج 75، ص11،حديث70.
[4]  بحار الأنوار، ج 75، ص115،حديث12.