من تجلّيات الخلق النبوي العظيم

 

دَخَلَ عَلَى رسول الله رَجُلٌ اَلْمَسْجِدَ وَهُوَ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَتَزَحْزَحَ لَهُ ، فَقَالَ اَلرَّجُلُ: فِي اَلْمَكَانِ سَعَةٌ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ : «إِنَّ حَقَّ اَلْمُسْلِمِ عَلَى اَلْمُسْلِمِ إِذَا رَآهُ يُرِيدُ اَلْجُلُوسَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَزَحْزَحَ لَهُ»[1] .

لا شيء يسعد الإنسان كشعوره باهتمام الآخرين به، وأنّ له قيمة واحترامًا في نفوسهم، إنّ ذلك يرفع معنويات الإنسان ويزيده ثقة بنفسه، ويشعره بالرّضا عن ذاته، كما يشدّه إلى الآخرين ويقرّبه إليهم.

يتعرّض الإنسان في هذه الحياة إلى صدمات، لكنّ شعوره باهتمام الآخرين يساعده كثيرًا في مواجهة مشاكل الحياة، وهذا أمر ملحوظ، نرى كيف أنّ المريض أو المصاب، أو من لديه مشكلة إذا أبدى الآخرون تعاطفهم معه، يخفّف ذلك على نفسه ويساعده على مواجهة المشكلة التي تعرّض لها.

وعلى العكس من ذلك، إذا شعر الإنسان بتجاهل الآخرين، فإنّ ذلك يؤذيه ويزعجه، وربما يشكّكه في قيمة ذاته، حيث يبدأ يفكر: لو كنت شخصًا مهمًّا وكانت لي قيمة لاهتمّ بي الآخرون! فيشكّك في ذاته، ويضطرب نفسيًّا.

هذه الحالة تكون جليّة في حال الطفولة، حيث يلاحظ الطفل ـ بشيءٍ من الحساسية ـ عناية أبويه، واهتمام الآخرين به، ويؤذيه أن يتجهّموا أمامه، أو يهملوه، هذه الحالة لا تقتصر على مرحلة الصِّغر.

يكبر الإنسان وتبقى هذه الحالة في أعماق نفسه، لكنّ إبداء المشاعر يختلف من مرحلة إلى أخرى، في مرحلة الصّغر يتعامل الطفل ببراءة، فيعرب عن مشاعره بطريقته البدائية، لكنّ الكبير يتألم نفسيًّا وقد لا يُبدي هذه الحالة!

من هنا تبدو قيمة الاهتمام بالآخرين، وقد كان رسول الله شديد الحرص على ذلك، فمن أهمّ تجلّيات أخلاقه العظيمة حرصه على إبداء الاهتمام بالآخرين، صغيرًا كان أم كبيرًا، رجلًا كان أو امرأة، مؤمنًا كان أم كافرًا.

ما دخل على النبي أحد إلّا وأبدى الاهتمام والإكرام له، وهذا هو معنى الوصف الإلهي له، حيث وصفه الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، هكذا كانت تجلّياته، الاهتمام بالناس واحترامهم، كائنًا من كان ذلك الإنسان الذي هو أمامه، حتى ولو لم يكن مؤمنًا، حتى ولو لم يكن صالحًا، ويمكننا أن نرصد ذلك في سيرته العطرة من خلال بعض المفردات:

أولًا: إلقاء التحيّة والسّلام 

كان يلقي التحيّة على من يلقاه، مع عظمته ونبوته ومكانته، لكنّه لم يكن ينتظر أن يبادره الآخرون بالسّلام بل كان هو المبادر.

كان ملتزمًا بذلك حتى مع الأطفال الصّغار، وهذا لم يكن مألوفًا عند الناس، بل كانوا يتعجّبون من رسول الله كيف يهتم بإلقاء التحيّة على الأطفال، وقيل له في ذلك فأجاب : «خَمسٌ لا أدَعُهُنَّ حَتّى المَماتِ: ... والتَّسليمُ على الصِّبيانِ لِتَكونَ سُنَّةً مِن بَعدي»[2] .

وورد أنه: «كان يمُرُّ بالغِلمانِ فيُسلِّمُ عليهم، ويدعُو لهم بالبركةِ»[3] ، وقد مَرَّ أنس بن مالك علَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عليهم وقالَ: كانَ النبيُّ يَفْعَلُهُ»[4] .

وقد ورد عنه : «إنّ أبخَلَ النّاسِ مَن بَخِلَ بالسَّلامِ»[5] .

وعنه : «أولَى النّاسِ بِاللّه ِ وبرسولِهِ مَن بَدَأ بِالسَّلامِ»[6] .

ثانيًا: إفساح المكان

كان النبي يتزحزح لمن يأتيه، أي يشعره أنّ مجيئك وقدومك مرحّب به، يفسح له في المكان.

تشير كتب السّيرة أنّ مجلس رسول الله وكذا المسجد يزدحم بالناس لضيق المكان، وقد يبقى بعض الناس وقوفًا ينتظرون أن يفسح لهم مكان للجلوس، حتى نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ[سورة المجادلة، الآية: 11.].

وكان من سيرة النبي أن يتزحزح للآخرين، وإذا كان هو بعظمته يزحزح ويفسح المكان للقادم، فهذا يعطي رسالة أخلاقية لمن حوله أن يفسح للآخرين.

وتقول الرواية التي بدأنا بها حديثنا أنه: 

دَخَلَ عَلَى رسول الله رَجُلٌ اَلْمَسْجِدَ، وَهُوَ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَتَزَحْزَحَ لَهُ ، فَقَالَ اَلرَّجُلُ: فِي اَلْمَكَانِ سَعَةٌ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ : «إِنَّ حَقَّ اَلْمُسْلِمِ عَلَى اَلْمُسْلِمِ إِذَا رَآهُ يُرِيدُ اَلْجُلُوسَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَزَحْزَحَ لَهُ»[7] .

كان في المكان سعة، والمسجد فارغًا، لكنّ النبي مع ذلك يتزحزح، حتى يبدي الاهتمام بالرجل، وحينما قال متعجبًا: في المكان سعة، أخبره رسول الله أنه إنّما يفعل ذلك لإبداء الاهتمام به.

وورد عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي، قال: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَلْقَاهَا إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَلْمَانُ؛ مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ اَلْمُسْلِمِ فَيُلْقِي لَهُ اَلْوِسَادَةَ إِكْرَامًا لَهُ إِلَّا غَفَرَ اَللَّهُ لَهُ»[8] .

وعن أنس أنه كان «يُكْرِمُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا بَسَطَ لَهُ ثَوْبَهُ، وَيُؤْثِرُهُ بِالْوِسَادَةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا إِنْ أَبَى»[9] .

أريحيّة أخلاقية

ينبغي للإنسان أن يتخلّق بهذا الخلق النبوي، وخاصّة إذا كان القادم أكبر منه سنًّا، أو كان غريبًا أو ضعيفًا.

في الماضي كانت هذه الآداب تراعى بشكل كبير، لكنّها اليوم تبدو أقلّ مراعاةً في المجتمع، فقد يأتي شخص كبير أو غريب إلى مجلس أو حسينية، لكنّ بعض الناس لا يجد نفسه معنيًا بالأمر!

وعلى العكس، هناك من له أريحيّة أخلاقية، بمجرّد أن يأتي أحد يفرغ له مكانه ويجلسه، وهو خلق ينبغي أن ينتشر بين الناس، حتى يتكرّس عند الصغير والكبير.

إذا قمت بهذا الخلق تساعد على تكريسه، وغدًا أنت ستدخل في مجلس آخر، لتلقي الأخلاق ذاتها من غيرك.

وقد كان النبي يؤكّد على هذا الأمر، عندما تأتيه بعض الوفود من شيوخ قبائل لم يسلموا، كان النبي يوصي أصحابه بقوله: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ»[10] .

إذا قدم شيخ قبيلة أو شخص محترم في قومه، حتى لو كان كافرًا، ينبغي لكم أن تحترموه وتكرموه.

ذات مرّة حدّثني أحد الأصدقاء عن أبنائه، أنه كان يطلب منهم إذا صحبوه في حضور المجالس، أن يتركوا مكانهم في المجلس لمن يأتي من كبار السنّ، لكنّهم صاروا يحتجّون على فكرة التنازل عن مكانهم لمن يأتي متأخرً!

لماذا يأتي متأخرًا ونحن مبكرين، ثم نتنازل عن مكاننا له؟!

قلت له: عليك أن توضح لأبنائك أنّ هذا من مقتضى الاحترام، أمّا الطرف الآخر لماذا جاء متأخرًا، فله عذره.

ينبغي أن نربّي أبناءنا وأنفسنا على احترام كلّ قادم، ففي ذلك كسب الثواب والأجر من الله، حيث يقول تعالى: ﴿فَافْسَحُوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ ما أعظم هذه المنحة، لو تنازلت عن مكانك لهذه الفترة القصيرة، الله تعالى يفسح لك في الحياة، بل في مجالات شتّى، فالكلمة مطلقة، متعلّقها غير مذكور، ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ في الأجل فيطيل عمرك، ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ في الرزق فيوسّع عليك من الرزق، ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ يعطيكم سعة في الدنيا، ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ في الآخرة فيعطيكم مكانًا كبيًرا في الجنّة، ألا يستحقّ هذا كلّه أن تتنازل وتضيّق على نفسك برهة من الزمن حينما يقدم عليك أحد!

ثالثًا: الإصغاء للآخرين

تؤكد السّيرة النبوية أنه ما ناجاه أحد فرفع رأسه عنه، يصغي إليه إلى أن يكمل حديثه، وكان يأمر أصحابه ألّا يقطعوا على متحدّث حديثه.

في حياتنا الاجتماعية مواقف كثيرة تتطلّب الصّبر والأناة، فمن يتحمّل مسؤولية أو منصبًا يقابل فيه الجمهور ويستمع إلى مسائلهم وشكاواهم، عليه أن يدرّب نفسه على حسن الاستماع والإصغاء.

صحيح أنّ على المتحدّث أن يختصر كلامه، لكنّ البعض متعوّد على الإطالة، وربما يكون الطرف المستمع لديه التزامات ومشاغل، وهنا يكون الإنسان المسؤول في محلّ اختبار وامتحان لأخلاقه، ومدى التزامه بحسن الإصغاء.

الناس بطبيعة الحال يتوجّهون إلى طالب العلم بالسّؤال، وبعضهم يطيل في مسألته، أو لا يفهم الإجابة من مرّة واحدة، وبعضهم يسترسل في سرد ما رآه في نومه من رؤى وأحلام، وهكذا يقع طالب العلم في مواقف تتطلّب الصّبر والتحمّل.

وكذلك الموظّف المسؤول في الدوائر الحكومية الذي يستقبل الجمهور ويستمع إلى حاجاتهم وشكاواهم.

بعض الموظفين لا يبدي اهتمامًا بالمواطن، حيث يتحدّث إليه وهو مستمر في الكتابة أو التوقيع على ما بيده من معاملات، أو ينشغل بهاتفه!!

وقد شكا لي عدد من الخطباء أنهم يواجهون مشكلة عندما يخطبون على المنبر، حيث ينشغل بعض المستمعين بهواتفهم، وكأنّهم يقولون للخطيب إنّ كلامك غير مهم، وهذا ينافي الاحترام، على الإنسان أن يعوّد نفسه الإصغاء للآخرين.

ورد عن أنس أنه قال: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ والنبيُّ يُنَاجِي رَجُلًا في جَانِبِ المَسْجِدِ، فَما قَامَ إلى الصَّلَاةِ حتَّى نَامَ القَوْمُ»[11] .

في الزمن الماضي كان الناس ينامون بعد العشاء، وهذا الصّحابي أطال في مناجاته لرسول الله حتى نام بعض الصّحابة، ورغم ذلك لم يقطع رسول الله عليه حديثه.

وفي سيرته من جالسه لحاجة صبر له حتى يكون هو المنصرف عنه، وكان إذا استمع لأحد لا يُنحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه، وكان إذا أخذ بيده أحد لا يرسل يده حتى يرسل ذلك الآخر يده.

رابعًا: إبداء التعاطف مع الآخرين

حينما يرى النبي شخصًا يواجه مشكلة يبدي التعاطف معه، ويشعره بالاهتمام.

ومن المواقف الملهمة على هذا الصّعيد، ما ورد في السيرة النبوية أنه حين: «خَرَجَ رَسُولُ الله مِنَ اَلْمَدِينَةِ مُتَوَجِّهًا إِلَى اَلْحَجِّ فِي اَلسَّنَةِ اَلْعَاشِرَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي اَلْقَعْدَةِ، وأَذَّنَ فِي اَلنَّاسِ بالحجّ، فَتَجَهَّزَ اَلنَّاسُ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ، وحَضَرَ اَلْمَدِينَةَ مِنْ ضَوَاحِيهَا ومِنْ جَوَانِبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى ذِي اَلْحُلَيْفَةِ وَلَدَتْ هُنَاكَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَقَامَ تِلْكَ اَللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِهَا»[12] .

تصوّر كيف أنّ رسول الله عطّل كلّ المسلمين، وأقام ليلة من أجل امرأة من أصحابه في حالة مخاض!! 

ومن جميل ما ورد في السيرة النبوية ما جاء عَنْ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ يُكَنَّى‏:‏ أَبَا عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ‏:‏ مَا شَأْنُهُ‏؟‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ مَاتَ نُغَرُهُ، فَقَالَ‏:‏ «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ‏[13] ؟‏‏»[14] .‏

وإنمّا قال له النبي ذلك ليسلّيه، ويذهب حزنه عليه؛ لأنّه يفرح بمكالمة النبي ؛ فيذهب حزنه بسبب فرحه. 

هكذا كان رسول الله ، ونحن حين ننقل هذه الصّور من أخلاقه ليس فقط حتى نعرف عظمته، يكفينا ثناء الله عليه وعلى عظمته، لكن من أجل أن نتأسّى بهذه الأخلاق العظيمة.

* خطبة الجمعة بتاريخ 25 صفر 1441هـ الموافق 25 أكتوبر 2019م.
[1]  بحار الأنوار، ج16، ص240.
[2]  الخصال، ص 271، حديث 12.
[3]  الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1278.
[4]  صحيح البخاري، حديث6247.
[5]  الأمالي للشيخ المفيد، ص317، حديث2.
[6]  الكافي، ج 2، ص 644.
[7]  بحار الأنوار، ج16، ص240.
[8]  مكارم الأخلاق، ص21.
[9]  القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج1، ص122.
[10]  الكافي، ج2، ص659، ومثله في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني،حديث1205.
[11]  صحيح البخاري،حديث642.
[12]  بحار الأنوار، ج21، ص389.
[13]  النّغير: تصغير نغر- بضمّ النون وفتح الغين-: طائر صغير كالعصفور أحمر المنقار.
[14]  الألباني: صحيح أبي داود، حديث4969.