الجاهلية التي حاربها الإسلام

 

﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون[سورة المائدة، الآية: ٥٠].

الجاهلية مصطلح قرآني، لا يبدو أنه كان مستخدمًا قبل الإسلام، فليس في أشعار العرب ولا ثقافتهم ما يشير إلى أنّ هذا المصطلح كان متداولًا أو معروفًا.

والجاهلية نسبة إلى الجهل، وحين يذكر في النصوص الدينية أو في اللغة يقصد به أحد معنيين:

الأول: ما يقابل العلم، نقيض العلم والمعرفة.

الثاني: ما يناقض العقل والتعقّل.

الإنسان الذي ينطلق في سلوكه وممارساته من غلبة الانفعال والعاطفة، يطلق عليه جاهل، ويطلق على تصرّفه طيش ونزق وسَفَه وحمق وما أشبه ذلك.

وقد أطلق القرآن الكريم على الحالة السائدة في المجتمع العربي قبل الإسلام (الجاهلية)، حيث كان الناس يعيشون الجهل في معنييه، فهم بعيدون عن العلم والمعرفة، يعتقدون بالخرافات والأوهام، كما ينطلقون في حياتهم من الانفعالات والعواطف، بعيدًا عن التعقّل واستخدام العقل.

فجاء الإسلام لينقلهم إلى كسب العلم والمعرفة، والنظر في سنن الكون، ويربّيهم على التعقّل في التعامل، واتخاذ المواقف. 

ولأنّ رواسب الماضي تستعصي على الزوال في كثير من النفوس، جاءت آيات القرآن والأحاديث النبوية تحذّر المسلمين من الاستجابة لتلك الرواسب والآثار، وحينما تتحدّث الآيات القرآنية عن الجاهلية لا تقصد بها زمانًا معيّنًا، بل تشير إلى الحالة التي كانت سائدة في ذلك الزمان، علمًا بأنّ العرب في الجاهلية كانت لديهم بعض الخصال الكريمة، كالكرم وحسن الجوار والضيافة، وهي خصال أقرّها الإسلام وشجّع عليها، لكنّ الحالة السّائدة والعقلية الحاكمة في المجتمع كانت عقلية جاهلية.

العقل والجهل في المصادر الحديثية

مصادر الحديث عند إخواننا أهل السنة تجعل الوحي والنبوة في مقدمة أبواب الحديث، أما مصادر الحديث في كتب الشيعة كالكافي وما بعده فتبدأ الباب الأول بكتاب العقل والجهل.

والنصوص الواردة ضمن كتاب العقل والجهل في المصادر الحديثية، تؤكّد على المعرفة والعلم من جانب، وعلى التعقّل في الممارسة والسّلوك من جانب آخر، فقد جاء الرسول لكي ينقل الناس من حال الجاهلية إلى الإسلام، لذلك خاض معركة شرسة ضدّ الجاهلية، وجاهد في الله حقّ جهاده، حتى ينقذ الناس ويخلّصهم من الجهالة التي كانوا يعيشونها.

كانوا يعتقدون بالأوهام والخرافات بدءًا من عبادتهم للأصنام والأوثان، إلى حالة التطيّر والتّشاؤم، إلى مختلف الأساطير السّائدة في ذلك المجتمع العربي.

لم يكونوا مهتمين بالعلم والمعرفة، فجاء الإسلام لكي يوجّههم للعلم والمعرفة، فكانت أول آية نزلت من الوحي هي الأمر بالعلم والمعرفة (اقرأ)، من جانب آخر كانت تسود الناس حالة الانفعال والعصبية، لذلك كثرت عندهم الحروب والنزاعات، والتمييز بين الناس لمختلف الدّواعي والأسباب؛ فجاء الإسلام لكي ينقلهم من هذه الحالة إلى الحالة الأخرى.

الجاهلية ثقافة وسلوك

ولأنّ الجاهلية سلوك وممارسات، لذلك كان الإسلام حريصًا على محاربة آثار ورواسب الحياة الجاهلية، حيث إنّها لا تزول بسرعة من النفوس، من هنا جاءت آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول تحذّر المسلمين من تسلّل رواسب وآثار الحياة السّابقة إلى نفوسهم. 

هناك عدد من الآيات الشريفة تعالج هذه المسألة المهمة:

الآية الأولى، قوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[سورة آل عمران، الآية: 154].

كانت ظنون الناس بالله في الجاهلية ظنونًا سيئة، ما كانوا يتوكّلون على الله ويثقون به سبحانه، الآية الكريمة تقول إنّ هناك فئات في المسلمين، لا زالوا يعيشون آثار ورواسب الحالة الجاهلية ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ الإنسان المؤمن يجب أن يكون واثقًا بالله تعالى متوكّلًا عليه، لا يساوره أيّ ظنٍّ سيئ في ربه. 

التمييز بين الناس سلوك جاهلي

الآية الثانية، قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ[سورة المائدة، الآية:٥٠].

كانت قبيلة بني النضير يعتبرون أنفسهم الطبقة العليا الأرستقراطية في المجتمع اليهودي، فإذا قتل أحد من بني قريظة شخصًا منهم، يُقتصّ منه، أما إذا قتل أحد منهم شخصًا من بني قريظة، لا يُقتصّ منه، وكانت هناك حالة من التمييز في الدّيات والعقوبات والالتزامات المختلفة.

ذات مرة وقعت مشكلة بين القبيلتين اليهوديتين فجاؤوا إلى رسول الله باعتباره الحاكم والزعيم في المدينة المنورة، حتى يحكم بينهم، لكن فئة منهم قالوا للرسول : عليك أن تأخذ التمايز بين القبيلتين بعين الاعتبار، فلا يمكن أن تتساوى القبيلتان!!

فواجههم النبي بالرفض، وجاء قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ هذا التمايز بين الناس هو ضمن العقلية الجاهلية، والقيم الدينية لا تقبل به إطلاقًا.

تبرّج النّساء

الآية الثالثة، قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى[سورة الأحزاب، الآية: 133].

بعض المفسرين اعتبر ﴿الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى في مقابل جاهلية ثانية، وجرى بحث حول الجاهلية الأولى والثانية، وهناك أقوال وآراء عند المفسّرين لا داعي لذكرها. 

فنحن نرجح أن تكون ﴿الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى بمعنى السّابقة، وليس في مقابل الثانية، كما في قوله تعالى: ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ[سورة طه، الآية: 21]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ[سورة الأعلى، الآية: 18]. 

وتبرج الجاهلية الأولى أي الجاهلية السّابقة، المرحلة التي تجاوزتموها من حيث الزمن.

كانت المرأة في الجاهلية مبتذلة، لا تستر مفاتن جسمها، والإسلام يعتبر ابتذال جسم المرأة حالة جاهلية، ذلك أنه ينطلق من العاطفة والأهواء.

ولو حكَّم الإنسان عقله لما رأى مبرّرًا لهذه الحالة، لكنّها ـ مع الأسف ـ هي الحالة السّائدة الآن في المجتمعات المادية، وبدأت تتسرّب إلى المجتمعات الإسلامية!

ومن ينظر إلى لباس الأولاد والبنات اليوم يجد مفارقة عجيبة، تجد المساحة التي يسترها لباس الرجل أكبر بكثير من المساحة التي يسترها لباس المرأة! مع أنّ طبيعة جسم المرأة يستلزم السّتر!

الله سبحانه وتعالى خلقها بهذا الجمال لحكمة يريدها، حتى قال نابليون: «المرأة شِعر الخالق، الرجل نثره»، من حيث الجمال الذي وهبه الله تعالى للمرأة.

إنّ ابتذال جمال المرأة يؤدي إلى إثارة الغرائز والأهواء، والقول بأنّ المجتمعات المكبوتة هي التي تتفاعل مع هذه المناظر فقط، مجانب للصّواب، فنحن نرى ونسمع عن معاناة المجتمعات الغربية من انتشار حالات التحرّش والاغتصاب، ولا يكاد يمرّ عام إلّا وهناك إحصائيات متصاعدة عن حالات الاغتصاب، حتى عند الطبقة المتمكنة، وتنشر الأخبار عن سياسيين وقعوا في فضائح التحرّش والاغتصاب، مع أنّهم يعيشون ضمن إمكانات وافرة في حياتهم تمكنهم من الوصول إلى ما يريدون من مختلف الأهواء والشّهوات.

لذلك يعتبر القرآن الكريم أنّ ابتذال جسم المرأة والمتاجرة بمفاتنها وجمالها حالة جاهلية، لا تنطلق من العقلانية، وإنّما تنطلق من الخضوع للأهواء والشهوات، والنتائج ليست في مصلحة المجتمع الإنساني.

العصبية نزعة جاهلية

الآية الرابعة، قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ[سورة الفتح، الآية: 26].

الحمية الجاهلية هي نزعة التعصّب والانفعال، الإنسان الجاهلي كان يثور لأتفه الأسباب، يتعصّب لنفسه ولقبيلته، ويتّخذ مواقف انفعالية، تكون فيها مضرّته وخسارته، والقرآن الكريم يعتبر ذلك حالة جاهلية.

وفي حديث أبي ذرٍّ قال: سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فَقالَ لي النبيُّ : «يا أبَا ذَرٍّ، أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»[1] .

تعيير الناس بأصولهم وأعراقهم، والتوهّم أنّ هناك تمايزًا بين أعراق الناس، نزعة جاهلية، جاء في خطبة الوداع أنه قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»[2] .

وهكذا نجد في تراثنا الديني نصوصًا كثيرة تؤكّد على أنّ الجاهلية ثقافة وسلوك، وليست مجرّد مرحلة زمنية، قد يكون الإنسان مسلمًا، لكنّه يمارس سلوكًا جاهليًّا، ينتمي إلى الفترة الجاهلية.

وقد ورد عن النبي محمد : «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ الله يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ اَلْجَاهِلِيَّةِ»[3] .

لأنّ هذا من سلوكهم، إذا كان المسلم يتعصّب ويتحيّز لذاته بدون وجه حقٍّ، يبعثه الله سبحانه وتعالى مع أعراب الجاهلية.

فالمعركة في الإسلام كانت ضدّ الجهل وما يخالف التعقّل، وعلى الإنسان المسلم أن يفحص نفسه، ويراقب مشاعره وسلوكه الاجتماعي، حتى لا تتسلّل إليه بعض العادات والأفكار التي تنتمي إلى الحالة الجاهلية. 

علينا في حياتنا في ألّا نخضع لحالة الانفعال المضادة للتعقّل. 

في بعض الأحيان تحدث خلافات عائلية، أو بين الأصدقاء، وتجد عند كلّ طرف من الأطراف حالة من التعزّز والتعنّت في الموقف، وذلك ما ينطبق عليه حمية الجاهلية.

ينبغي للإنسان أن يزيلها من نفسه سلوكه، لقد جاهد رسول الله حتى ينقذ البشرية من تلك الحالة، ويخلّصها من تلك العقلية والسّلوك، وينقل البشرية إلى مرحلة جديدة. 

* خطبة الجمعة بتاريخ 10 ربيع الأول 1440هـ الموافق 8 نوفمبر 2019م.
[1]  صحيح البخاري،حديث30.
[2]  سلسلة الأحاديث الصحيحة،حديث3700. وقريب منه في بحار الأنوار، ج21، ص138.
[3]  الكافي، ج2، ص358.