التربية على بِرِّ الوالدين

 

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14].

أعلنت الأمم المتحدة الأول من شهر يونيو كلّ عام (اليوم العالمي للوالدين) لتكريم الوالدين في جميع أنحاء العالم، وكان هذا الإعلان عام 2012م.

وبهذه المناسبة سنخصّص حديثنا حول هذا الموضوع.

أعظم قيمة أخلاقية

إنّ برَّ الوالدين هو أعظم قيمة أخلاقية يلتزم بها الانسان، ذلك أنه يدرك أنّ لهما، بعد الله ، الفضل الأول والأكبر عليه في وجوده ونشأته ورعايته، وألّا أحد في الوجود يوازيهما في حبه والحنوّ عليه، وبذل الجهد في سبيل راحته وسعادته، خاصة في بداية حياته، ووقت ضعفه وصغره.

ومن يتنكر لحقّ والديه فإنه يتجرّد من أيّ قيمة أخلاقية أو مشاعر إنسانية.

من هنا تقرن الآية الكريمة شكر الله بشكر الوالدين، يقول تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وتوحي بالتهديد في المخالفة، بالإشارة إلى الرجوع إلى الله والحساب أمامه يوم القيامة.

وفي آية أخرى يردف الله تعالى الأمر بعبادته وتوحيده بالأمر بالإحسان إلى الوالدين، يقول تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء، الآية: 23].

وجاء عن رسول الله أنه قال: «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ»[1] .

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا؟ قَالَ : «هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ»[2] .

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنْ ضَرَبَاكَ فَقُلْ لَهُمَا غَفَرَ الله لَكُمَا»[3] .

وحسنًا فعلت الأمم المتحدة حين أعلنت يومًا عالميًّا للوالدين، ففي هذا العصر، نحتاج لاستحضار هذه القيمة الأخلاقية الإنسانية الكبرى، في أذهان ونفوس الجيل المعاصر، أكثر من أيّ عصر مضى.

ذلك لأنّ ثقافة الحضارة المادية السائدة، ترسّخ الروح الأنانية الفردية في نفس الإنسان، وتُعلي من شأن الاستجابة لرغباتها الذاتية، على حساب كلّ القيم والمبادئ.

فالإنسان المستغرق في نزعته المادية الذاتية، ما عادت تهمّه عواطف أمه، أو مشاعر أبيه، بمقدار ما يهمّه تحصيل المكاسب، وتحقيق التطلّعات الشخصية.

لكن كيف نربي أبناءنا على البر بالوالدين؟

أولًا: حسن التربية

كلما اهتم الوالدان بحسن تربية الأبناء، كانوا أقرب إلى البر بالوالدين، أما إذا حصل إهمال وتقصير في العناية بالأبناء، فينعكس سلبًا على تعاملهم مع الوالدين.

إنّ الانشغال عن الأبناء، أو التضييق عليهم في المعيشة، أو سوء التعامل معهم كاستخدام العنف، قد يؤدي إلى توريطهم بعقوق الوالدين.

ورد عن النبي : «لَعَنَ الله وَالِدَيْنِ حَمَلاَ وَلَدَهُمَا عَلَى عُقُوقِهِمَا»[4] .

وعنه : «رَحِمَ الله مَنْ أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ سَيِّئَتِهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله»[5] .

ثانيًا: الانسجام بين الوالدين

حين يعيش الأولاد في ظلّ أسرة مستقرة، يسود فيها الاحترام بين الوالدين، فإنّ ذلك ينمّي انشداد الأولاد وحبّهم للوالدين، ويعزّز برّهما في نفوسهم.

بينما حين يكون هناك خلاف وصراع أمام الأولاد، فإنه يسقط النموذج المثالي من أعينهم، وتنمو لديهم مشاعر غير سوية تجاه الوالدين أو أحدهما.

إنّ على الوالدين أن يبعدا الأولاد عن أجواء خلافاتهما، ولا يصح أبدًا تعبئة الأولاد ضدّ أحد الوالدين، كما يحصل كثيرًا في حالات الخلاف أو الانفصال بين الزوجين.

ثالثًا: نموذج الاقتداء

حين يرى الأولاد طريقة تعامل الوالدين مع والديهم، فسيكون نموذجًا محفّزًا لهم على اتباع نفس النموذج.

لذلك ورد عن الإمام جعفر الصادق : «بَرُّوا آبائَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْناءُكُمْ»[6] .

من هنا ينبغي أن يهتم الوالدان بإظهار الاحترام والتزام البر بالوالدين أمام الأولاد، بل وإشراكهم في مظاهر الاحترام والبر والخدمة لوالدي الوالدين.

رابعًا: نشر ثقافة البر بالوالدين

على كلّ واحد منَّا أن يهتم في أيّ موقع كان، بتعزيز هذه القيمة الأخلاقية الإنسانية العليا، فالمعلم والمدير والصديق والإعلامي والفنان والموجه الديني، كلّهم معنيون بهذا الأمر.

وحين يلحظ أيّ فرد في المجتمع خللًا في سلوك أحد على هذا الصعيد، فليتحمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنه لا يصح موقف اللامبالاة، ولا الحياد تجاه حالات عقوق الوالدين، حيث يختار البعض عدم التدخل حتى لا تتأثر علاقته بطرف من الأطراف، إنّ ذلك خطأ كبير، والمطلوب هو التدخل الإيجابي، وبالأسلوب المناسب للأمر بأهم معروف هو البر بالوالدين، والنهي عن أسوأ منكر، وهو عقوق الوالدين.

ومن المهم وجود مؤسسات ومبادرات اجتماعية تعزّز قيمة وسلوك البر بالوالدين، كانت في مجتمعنا مبادرة بعنوان سيّدة جمال الأخلاق في برّ الوالدين، ومبادرة البر بالوالدين، فيجب تجديد مثل هذه المبادرات وتطويرها وابتكار مبادرات جديدة.

 

خطبة الجمعة 13 ذو القعدة 1444هـ الموافق 2 يونيو 2023م.

[1]  الترمذي، ح 1899.
[2]  سنن ابن ماجه، باب بر الوالدين، ح3660.
[3]  الكافي، ج2، ص157.
[4]  من لا يحضره الفقيه، ج4، ص352، ح 5762.
[5]  بحار الأنوار، ج 104، ص98، كنز العمال، ح 45417.
[6]  من لا يحضره الفقيه، ج4، ص21، ح4985.