معطيات التكافل الاجتماعي

 

جاء في الحديث عن رسول الله : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»[1] .

من الوظائف الأساسية للدين تنمية الحس الاجتماعي في نفس الإنسان، ليعيش التوازن في مشاعره وسلوكه بين نزعته الذاتية الأنانية، وبين انتمائه الاجتماعي.

ذلك أنّ حياة الفرد لا يمكن أن تنفصل عن واقع المجتمع الذي يعيش فيه، فهناك ارتباط واتصال تفرضه طبيعة الحياة الإنسانية.

وإذا كان الإنسان لا يحتاج إلى تذكير للاهتمام بذاته، لأنّ حاجاته ورغباته تفرض نفسها عليه، فإنه يحتاج إلى التذكير بواجبات انتمائه الاجتماعي، والتفكير في مساعدة الآخرين، حتى لا تطغى عليه نزعته الذاتية.

وفي هذا السياق تؤكد التوجيهات الدينية على مسألة التكافل الاجتماعي.

والتكافل لغة من الكَفالة، ويقصد منها الضمان والتعهد بالرعاية، وتستخدم عادة في الالتزام بتأمين حاجات ومتطلبات الحياة للآخرين.

ومنه قوله تعالى في شأن الصديقة مريم : ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا. [سورة آل عمران، الآية: 37] أي أوكل أمر رعايتها، وتوفير متطلبات حياتها إلى نبي الله زكريا .

وكذلك قوله تعالى في قصة النبي موسى : ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. [سورة القصص، الآية: 12]

فالتكافل الاجتماعي التزام الناس برعاية بعضهم لبعض، وتوفير احتياجات حياتهم.

فهناك شريحة من الناس في كل مجتمع، لا يستطيعون توفير متطلبات حياتهم بقدراتهم الذاتية، بشكل دائم أو مؤقت.

هذه الشريحة الضعيفة لا بُدّ وأن يلتزم القادرون من المجتمع بكفالتها، وتوفير متطلبات الحياة لها.

وللتكافل الاجتماعي معطيات كبيرة تعود على الفرد والمجتمع، نشير إلى أهمها:

1/ منح السعادة والرضا

إنّ التكافل الاجتماعي يصنع أجواء السعادة والرضا في أوساط المجتمع الذي يحققه.

فالفقير والمحتاج إذا أهمله المجتمع، يعيش حالة الاستياء والسُّخط، وقد يصل إلى حدّ الحقد على مجتمعه، بينما حين يجد الرعاية والاهتمام، يشعر بالرضا عمّن حوله، والسرور لانتظام أمور حياته.

كذلك فإنّ من يقدّم الرعاية للفقير والمحتاج، يغمر نفسه الشعور بالسعادة والرضا والبهجة.

إنّ تنمية المشاعر الإيجابيّة تجاه الناس، يوفر للإنسان فرص الكسب المعنوي، والشعور بالراحة النفسية، والرضا الداخلي، وهو ما يوازي فرحه بالمكاسب المادية.

ورد عن أمير المؤمنين : «مَسَرَّةُ اَلْكِرَامِ فِي بَذْلِ اَلْعَطَاءِ»[2] .

ومما ينسب للإمام الحسن بن علي أنه قال:

إذا ما أتاني سائلٌ قلت: مرحبا            بمن فضله فرضٌ عليَّ معجّلُ

ومَنْ فضلهُ فضلٌ على كلّ فاضلٍ   وأفضلُ أيام الفتى حين يُسألُ[3] 

وكان الإمام زين العابدين علي بن الحسين إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ يَقُولُ: «مَرْحَباً بِمَنْ يَحْمِلُ لِي زَادِي إِلَى الْآخِرَةِ»[4] .

وعنه : «اَلْكَرِيمُ يَبْتَهِجُ بِفَضْلِهِ، وَاَللَّئِيمُ يَفْتَخِرُ بِمِلْكِهِ»[5] .

إنّ العطاء للآخرين ومساعدة المحتاجين، هي فرصة للكسب المعنوي، يحرص المؤمن الواعي على اغتنامها، وعدم التفريط فيها.

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي اَلْحَاجَةَ، فَأُبَادِرُ بِقَضَائِهَا مَخَافَةَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا، فَلاَ يَجِدُ لَهَا مَوْقِعًا إِذَا جَاءَتْهُ»[6] .

2/ حماية الأمن الاجتماعي

إذا كان هناك خلل في حياة من يعيشون حول الإنسان، فإنّ ذلك ينتج تأثيرًا سلبيًا على حياته الخاصة، فوجود الفقراء والمحتاجين في المجتمع قد يؤدي إلى حدوث مشاكل أمنية وأخلاقية، كالاضطرابات وحدوث الجرائم المختلفة.

وهذا ما تؤكده الدراسات الاجتماعية، وتجارب الشعوب والأمم في الماضي والحاضر.

وهو ما دفع المجتمعات الرأسمالية المادية، مع رسوخ الثقافة الذاتية الأنانية فيها، إلى التوجه لفكرة الضمان الاجتماعي، وإنشاء المؤسسات الإنسانية الخيرية.

وحتى على الصعيد العالمي، تدرك الدول المتقدمة أن وجود شعوب فقيرة، ومجتمعات متخلفة، ينتج مشاكل ومضاعفات للدول والمجتمعات المتقدّمة، ومن مظاهرها قضية الهجرة غير الشرعية كما يطلقون عليها، ووجود حركات الإرهاب وعصابات الإجرام.

3/ مصداقية الانتماء الديني والقيمي

إنّ إيمان الإنسان بالله تعالى، والتزامه بعبادته وطاعته، يفرض عليه الاهتمام بمن حوله من عباد الله، ولا يتحقق الإيمان والتديّن بمجرد تحصيل الاعتقادات وأداء الشعائر والعبادات، بل يحتاج إلى ممارسة العطاء للآخرين، وإبداء الاهتمام بعباد الله.

يقول تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. [سورة البقرة، الآية: 177]

إنّ الحديث الشريف الوارد عن رسول الله : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»[7] ، يرسم صورة للمجتمع الإيماني، أنه قائم على التكافل الاجتماعي، ويُشبِّه كيان المجتمع بجسم الإنسان، الذي لا يمكن أن يتمتع بالراحة إذا كان عضو منه مصابًا بالمرض؛ لأنّ آثار المرض، وألم الوجع، لن تنحصر في منطقة العضو المريض فقط، بل تؤثر على الجسم كلّه.

معيار التديّن

وفي مجتمعاتنا هناك شرائح تعاني من بعض المشاكل والحاجات، وعوائل تعيش في مستوى الفقر، ولا تتوفر لها مقومات الحياة الكريمة.

إنّ اغفال وضع هذه العوائل يخدش صورة الإيمان في واقع المجتمع، حيث تؤكد النصوص الدينية على المسؤولية الاجتماعية تجاه حالات الفقر والحاجة.

يروي الإمام محمد الباقر عن جدّه رسول الله أنه قال: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ، قَالَ: وَمَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يَبِيتُ وَفِيهِمْ جَائِعٌ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[8] .

وفي حديث آخر عنه : «ما آمَنَ بي مَن باتَ شَبْعانَ وجارُهُ طاوِيًا، ما آمَنَ بي مَن باتَ كاسِيًا وجارُهُ عارِيًا»[9] .

وهذا يشمل مختلف الحاجات ومتطلّبات الحياة، كالسَّكن مثلًا، لذلك ورد عن الإمام الصادق : «مَنْ كَانَ لَهُ دَارٌ وَاِحْتَاجَ مُؤْمِنٌ إِلَى سُكْنَاهَا فَمَنَعَهُ إِيَّاهَا، قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَلاَئِكَتِي عَبْدِي بَخِلَ عَلَى عَبْدِي بِسُكْنَى اَلدُّنْيَا، وَعِزَّتِي لاَ يَسْكُنُ جِنَانِي أَبَدًا»[10] .

وينطبق ذلك على من يستطيع تقديم المساعدة لتوفير السكن للمحتاجين إليه.

مسكن آمن لحياة كريمة

إنّ مسألة المسكن من أهم ما يقلق العوائل الفقيرة في الوقت الحاضر، فقد يتوفر القوت والغذاء بشكل أو بآخر، لكنّ توفير المسكن للعوائل الفقيرة أو محدودة الدخل، إن لم تكن تملك مسكنًا، أصبح مشكلة كبيرة، خاصة مع ارتفاع مستوى الإيجارات.

من هنا ندعو إلى الاهتمام بهذا الجانب، ونأمل من أصحاب الخير، وأهل العطاء في مجتمعنا الكريم مساعدة العوائل الفقيرة في موضوع توفير المسكن اللائق، أو توفير ايجار المسكن.

وقد أطلقت خيرية القطيف هذه الأيام مبادرة مهمة بعنوان (مسكن آمن لحياة كريمة).

ويشير تقرير لجنة التكافل في الجمعية إلى أنّها ترعى 498 أسرة تتكون من 1430 فردًا.

وأنّ 50% من هذه الأسر المستفيدة من رعاية الجمعية، لا تمتلك مسكنًا، وعددها 280 أسرة، تعاني مشكلة توفير مبالغ الإيجار السنوي للسكن.

والإيجارات هي الثقل الأكبر، والحاجة الملحة لهذه الفئات المستهدفة، من حيث توفير البيئة السليمة، والسكن الآمن، والاستقرار الأسري.

إنّ خيرية القطيف توفر ما نسبته 40 إلى 50% من قيمة الإيجارات، وتتطلّع إلى زيادة هذه النسبة حسب المقدرة المالية المتوفرة.

لذلك تدعو الجمعية في مبادرتها إلى تجاوب أهل الخير في المجتمع لتأمين هذه المبالغ المطلوبة.

ونأمل التجاوب مع هذه المبادرة الكريمة، ونشكر إدارة الجمعية على قيامها بهذه الأعباء، وإطلاق مثل هذه المبادرات التي تعزّز التكافل الاجتماعي.

 

خطبة الجمعة 20 ذو القعدة 1444هـ الموافق 9 يونيو 2023م.

[1]  صحيح مسلم، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ح2586.
[2]  عيون الحكم، ص488.
[3]  نور الأبصار، ص١١١.
[4]  بحار الأنوار، ج46، ص98.
[5]  بحار الأنوار، ج78، ص161.
[6]  عيون أخبار الرضا، ج2، ص179.
[7]  صحيح مسلم، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ح2586.
[8]  الكافي، ج2، ص668، ح14.
[9]  مستدرك الوسائل، ج8، ص429، ح5.
[10]  الكافي، ج2، ص268، ح3.