ضعف التركيز والشرود الذهني

 

ورد عن أمير المؤمنين علي : «إِيّاكَ وَالْغَفْلَةَ فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُفْسِدُ الْأَعْمالَ»[1] .

وعنه : «ضادُّوا الْغَفْلَةَ بِالْيَقْظَةِ»[2] .

يتحدّث علماء النفس عن ظاهرة يعاني منها كثير من الناس، وهي ظاهرة التشتت الذهني وقلّة التركيز، فكما يصنّف الناس إلى انطوائيين ومنفتحين، أو عقلانيين واندفاعيين، يمكن تقسيمهم إلى من يعانون من الشرود الذهني وأصحاب التركيز العالي.

من يتمتع بقوة التركيز حينما يتجه للتفكير في أمر أو انجاز عمل، يكون ذهنه حاضرًا فيما يفكر فيه، أو يؤديه من عمل، مما يجعله أقدر على الإنتاج، وأفضل في الأداء.

أما من يعاني من ضعف التركيز، فإنّ تفكيره يسرح ويمرح خارج ما يُفترض أن يهتم به من أمر، أو يقوم به من عمل، فيكون الجسم حاضرًا بينما الذهن في مكان آخر. مما يسبب له الوقوع في الأخطاء، ويفقده الكثير من المنافع.

وقد لا يحصل التشتت الذهني في كلّ المجالات، فقد يكون الإنسان مشتت الذهن في شؤون الحياة الشخصية، بينما يكون نبيهًا حاضر الذهن في مجال التعلم أو العمل.

 

من أمراض العصر

وفي هذا العصر اتسعت مساحة الشرود الذهني، وضعف التركيز بين الناس نتيجة ضغوط الحياة، وتشعب الاهتمامات.

ففي عالم اليوم تحاصر الإنسان مؤثرات متنوعة، تساهم في تشتت الذهن وإضعاف التركيز، وتؤثر على الإنسان في عمله، وعلاقاته وتفاعله مع الآخرين.

الكاتب (كال نيوبورت) ألّف كتابًا بعنوان: (العمل العميق)، تحدّث فيه عن التركيز في العمل، والنجاح فيه، وسط عالم حافل بما يشتت الذهن.

نتائج وآثار

ضعف التركيز يجعل الإنسان غير قادر على التفكير بوضوح، أو انجاز العمل بإتقان.

وقد ورد عن الإمام علي : «إِيّاكَ وَالْغَفْلَةَ، فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُفْسِدُ الْأَعْمالَ»[3] .

إنّ بعض الطلاب يعانون من هذه المشكلة، فلا يهضمون المادة العلمية؛ لأنّ تفكيرهم يذهب إلى مكان آخر. وكذلك بعض من يستمعون الخطب والمحاضرات، أو يتحدّثون مع طرف آخر.

ورد عن أمير المؤمنين علي : «سَمْعُ اَلْأُذُنِ لاَ يَنْفَعُ مَعَ غَفْلَةِ اَلْقَلْبِ»[4] .

وقد تتفاقم حالة تشتت الانتباه، ونقص التركيز، لتصبح حالة مرضية، ويقدّر العلماء أنّ نسبة الإصابة بهذه الحالة المرضية تتراوح بين 7% إلى 15% في مجتمعات مختلفة.

وكما قال أحد الباحثين: (ركز كلّ تفكيرك في العمل الذي تعكف على تنفيذه، فإنّ أشعة الشمس لا تحرق إلّا إذا تجمعت في بؤرة واحدة).

ويشير بحث علمي إلى أنّ عقولنا تشرد في 50% من أوقات يقظتنا، يتشتّت انتباهنا بسهولة، سواء بفعل مشتتات داخلية أو خارجية، هذه المشتتات تجعل عقولنا تشرد بعيدًا عمّا نفعله، وهذا التشتت ينطوي على عواقب وخيمة، لا سيّما في مجالات عالية الخطورة كالطب أو الجيش أو القضاء.

سيشرد عقلك، وهذا طبيعي تمامًا، فالأمر لا يتعلق بالقضاء على الشرود، وإنما حينما يشرد عقلك تستعيده بلطف.

إنّ أفضل سُبل مواجهة ضعف التركيز والشرود الذهني، هو تعويد الإنسان نفسه على التركيز، والابتعاد عن المؤثرات الصارفة، والسعي لاستعادة حضور الذهن كلّما انتبه الإنسان لشروده.

ورد عن الإمام علي : «ضادُّوا الْغَفْلَةَ بِالْيَقْظَةِ»[5] .

ونتحدّث هنا عن موردين يعرض فيهما الشرود الذهني غالبًا:

المورد الأول: الشرود الذهني في الصلاة

 حيث ينبغي حضور القلب في الصلاة، لكنّ كثيرين يعانون من تحليق أذهانهم وأفكارهم إلى اهتمامات أخرى أثناء الصلاة.

ورد عن أمير المؤمنين علي : «إِنَّمَا لِلْعَبْدِ مِنْ صَلاَتِهِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا بِقَلْبِهِ»[6] .

وعن الإمام جعفر الصادق : «إِنِّي لَأُحِبُّ لِلرَّجُلِ اَلْمُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَةٍ فَرِيضَةٍ أَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى وَلاَ يَشْغَلَ قَلْبَهُ بِأَمْرِ اَلدُّنْيَا»[7] .

إنّ للشيطان دورًا في إشغال ذهن الإنسان أثناء صلاته، لذلك ورد استحباب الاستعاذة بالله من الشيطان، قبل قراءة سورة الفاتحة بداية الصلاة، وكلما قرأ الإنسان القرآن، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. [سورة النخل، الآية: 98]

وهدف الاستعاذة إشعار الإنسان بخطر الشيطان ليحترز منه، ويركز اهتمامه وانتباهه.

وقيل إنَّما سمي مكان الصلاة محرابًا، كما يقول تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [سورة آل عمران، الآية: 39]؛ لأنّ الإنسان في صلاته يخوض حربًا ضدّ وساوس الشيطان، وهواجس النفس.

حالة شائعة

وكلّ إنسان يصلي معرض لهذه الحالة، حتى المؤمنون الأتقياء، والعلماء الثقاة:

جاء في مذكرات الشيخ فرج العمران (الأزهار الأرجية في الآثار الفرجية) ، ما ملخصه: صلّيت ذات ليلة مع حجة الإسلام السيد ماجد العوامي[8] ، وكنت عن يسار صاحب الروضة، وهو ابن أخيه السيد باقر بن السيد علي العوامي، فخطرت ببالي مجموعة مؤلفات جدّي الشيخ عبدالله بن فرج بن عبدالله بن عمران، فحدّثت نفسي أنه ينبغي لي أن أسعى في طبعها ونشرها، فشرعت أسعى في هذا الغرض، واقترضت مبلغًا، وسافرت إلى النجف فلم تعجبني الطباعة فيها، ووصفوا لي مطبعة في صيدا - لبنان، فسافرت وطبعت 1000 نسخة، وأبقيت منها هناك مئتي نسخة، ورجعت للعراق ووزعت جملة من النسخ على المكتبات المشهورة وكبار العلماء، ورجعت إلى القطيف ومعي 100 نسخة، فلما وصلت المينا، قال السيد ماجد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فكأنّني كنت نائمًا فانتبهت، وقد أخذني الخجل، فقلت للسيد باقر العوامي بجانبي: أتدري إلى أين سافرت في الصلاة؟ قال: لا.

فقلت: إلى صيدا. فتعجب جدًا وتبسّم ضاحكًا.

ثم قال: (الله وكيل أنا ما سافرت إلا إلى الحمّام وسبحت ورجعت).

أقول: فقمت وأعدت الصلاة احتياطًا[9] .

ومما يساعد على إقبال القلب في الصلاة التهيؤ لها بالوضوء والدعاء والأذان والإقامة، واستحضار النية، والاجتهاد في تجاوز الشرود الذهني إذا حصل.

المورد الثاني: قيادة السيارة

يحتاج الإنسان أثناء قيادة السيارة لدرجة كبيرة من الالتفات والتركيز، لتجنب حدوث المخاطر والحوادث، وللسيطرة على أيّ موقف طارئ.

إنّ شرود الذهن وانشغال الفكر بأمور أخرى، قد تكون نتائجه وخيمة، إنّ البعض يسترسل في الحديث مع مرافقيه، وقد يكثر الحركة بالالتفات إليهم، والاشارة بيده، وسائر جسمه، والبعض ينشغل بالمكالمات الهاتفية، أو متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، يستقبل الرسائل ويجيب عليها، ويتناول الطعام والشراب، وكلّ ذلك إضافة إلى عدم الحصول على النوم الكافي والراحة يسبّب تشتت الانتباه، وضعف التركيز في القيادة.

أرقام مؤلمة

نشرت الصحافة المحلية أمس الخميس 15 يونيو 2023م (عن اللجنة الوزارية للسلامة المرورية، أنّ نتائج وإحصائية ملف السلامة المرورية للعام المنصرم 2022، شهدت زيادة في عدد الحوادث المرورية بالمملكة بما نسبته 28% عن العام الذي سبقه بواقع 1.850.250 حادثًا، إذ بلغ عدد حوادث التلفيات 1.833.288 حادثًا، فيما كان مجموع الحوادث الجسيمة 16.962 حادثًا وعدد المصابين 24.446، ووصل عدد الوفيات 4555 وفاة.

وفصّلت اللجنة أسباب الحوادث التي تصدرها الانحراف المباغت بـ 474.604 حوادث، ثم إهمال ترك مسافة آمنة ثانيًا بواقع 459.124، وعدم التركيز مع القيادة 193.827، ومخالفة أحقية المرور 184.610، وأخيرًا السير عكس الاتجاه 14.379 حادثًا)[10] .

وقد (حذّر مركز النقل المتكامل، التابع لدائرة البلديات والنقل في أبوظبي، من سلوكيات سلبية، تُشتّت انتباه قائدي المركبات، وتشغلهم عن الطريق، وتحدّ من سيطرتهم على قيادة مركباتهم، تشمل الاستخدام المفرط للهواتف، وتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي أثناء القيادة، والانشغال مع الركاب داخل المركبة، إضافة إلى تناول المأكولات والمشروبات، والتزيّن بالمكياج أثناء القيادة.

لافتًا إلى أنّ الانشغال عن الطريق بتناول الطعام والشراب، خلال القيادة، يرفع نسبة حوادث المركبات إلى 80%)[11] .

ورد عن الإمام علي : «اِنْتِبَاهُ اَلْعَيْنِ لاَ يَنْفَعُ مَعَ غَفْلَةِ اَلْقُلُوبِ»[12] .

تساهل مرفوض

إنه يجب على الإنسان شرعًا وعقلًا أن يحفظ حياته، وأن يحمي نفسه من الأخطار، وألّا يكون سببًا في هلاك غيره، وتعريضه للخطر.

إنّ الانشغال أثناء قيادة السيارة هو نوع من الإهمال والتساهل واللامبالاة، وعواقبه وخيمة، قد يسبّب إزهاق الأرواح، أو إصابات الإعاقة الخطيرة، ويربك حياة الإنسان.

 

خطبة الجمعة 27 ذو القعدة 1444هـ الموافق 16 يونيو 2023م.

[1]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص172.
[2]  المصدر السابق، ص427.
[3]  نفسه، ص172.
[4]  عيون المواعظ والحكم، ص286.
[5]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص427.
[6]  بحار الأنوار، ج84، ص239، ح21.
[7]  وسائل الشيعة (ط آل البيت)، ج5، ص475، ح7101.
[8]  مرجع ديني في القطيف (1279هـ – 1367هـ).
[9]  الشيخ فرج العمران: الأزهار الأرجية في الآثار الفرجية، ج3، ص60.
[10]  صحيفة الوطن، https://www.alwatan.com.sa/article/1128440
[11]  صحيفة الإمارات اليوم، https://www.emaratalyoum.com/local-section/other/2023-01-21-1.1710614
[12]  عيون الحكم والمواعظ، ص70.