ذكر الله وعيٌ وطمأنينة وانضباط

 

يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. [سورة البقرة، الآية: 203]

بعد ظهر اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ينهي معظم الحجاج مناسك حجهم بمغادرة منى، بعد رمي الجمرات لليوم الثالث على التوالي. ومن يبقى منهم إلى الغروب في منى يجب عليه المبيت فيها.

وإلى ذلك تشير الآية الكريمة التي تبدأ بالحث على ذكر الله في أيام الحج.

وقد تكرر في الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحج، الحث على ذكر الله أيام الحج.

يقول تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‎﴿٢٧﴾‏ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ. [سورة الحج، الآيات: 27-28]

ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‎﴿١٩٨﴾‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‎﴿١٩٩﴾‏ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا. [سورة البقرة، الآيات: 198-200]

ومن هذه الآيات استنتج أحد الفقهاء المعاصرين، وجوب كثرة ذكر الله في الحج، وليس على نحو الاستحباب فقط، كما هو الرأي السائد عند الفقهاء، يقول: (والملفت في هذه الآيات الأربع تكرّر الأمر فيها، بلغة تشديدية قلّما وجدناها بهذه الصورة التكرارية في النصوص الكتابية، مما يوجب الجزم بالوجوب حتى لو كان كلّ واحدٍ منها لو لم ينضم إليه الآخر مشكوك الدلالة، وهو ما لا نسلّمه، ومثل هذه الدلالة القرآنية الحاسمة لا يمكن اختزالها في الأذكار الواردة في الصلاة أو على الذبيحة أو ما شابه ذلك، كما لا يمكن رفع اليد عن دلالتها الحاسمة برواية أو روايتين ما لم توجب الوثوق، فالمرجع هو النص الكتابي)[1] .

الحج ليس رحلة سياحية يستمتع فيها الإنسان بمظاهر الطبيعة ومباهج الحياة، بل هو رحلة روحية إيمانية لا تخلو من المنافع الدنيوية، كما يقول تعالى: ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.

وفي الحج يعيش الإنسان مع ذكر الله دائمًا وأبدًا.

ذكر الله نهج في الحياة

والذكر الدائم لله ينبغي أن يكون نهجًا للمسلم في حياته، وليس في الحج فقط. حيث تؤكد الآيات القرآنية على استمرار الذكر في مختلف أوقات وحالات الإنسان.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‎﴿٤١﴾‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. [سورة الأحزاب، الآيات: 41-42]

ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. [سورة المنافقون، الآية: 9]

ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ. [سورة آل عمران، الآية: 191]

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اَللَّهِ مَا اِسْتَطَعْتُمْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ اَللَّيْلِ وَاَلنَّهَارِ فَإِنَّ اَللَّهَ أَمَرَ بِكَثْرَةِ اَلذِّكْرِ لَهُ»[2] .

ولكن ماذا يعني ذكر الله؟ هل هو مجرّد تلفظ باللسان؟

إنه يعني حضور الله بصفاته في ذهن الإنسان ونفسه، وانعكاساته على عمله وسلوكه.

أولًا: إثارة دائمة للوعي بالوجود

ذكر الله يشكل إثارة دائمة لوعي الإنسان بوجوده وبالحياة من حوله، حيث يستحضر ذهن الإنسان، أنّ خلف وجوده وحياته خالقًا قادرًا مدبرًا، وأنه موجود ذو قيمة، ولوجوده هدف ومقصد، وأنه راجع إلى ربه ومحاسب أمامه، وأنّ الكون تحت رعاية ربٍّ حكيم رحيم.

بينما الجاحد لله تعالى، والغافل عن الله، يشعر بالضياع والتيه، واللاهدفية واللاقيمة في هذه الحياة.

إنّ هناك فرقًا بين من يشعر أنه يعيش في بلد له سلطة حاكمة تديره، وترعى شؤون المقيمين في البلد، وأنّ هناك طرقًا سالكة للتواصل مع هذه السلطة لإبلاغها بالحاجات والطلبات، وبين من يعيش في بلد آخر يشعر أن لا سلطة فيه قائمة تتحمل مسؤولية ما يجري في البلد، وتعالج حاجات المقيمين فيه، ويمكن التواصل معها.

ففي الصورة الأولى يشعر الإنسان بالأمن والمسؤولية، بينما هو يعيش القلق والاضطراب في ظلّ الصورة الثانية.

ذلك هو مثال يقرّب الفكرة للفرق بين شعور المؤمن المتصل بالله في هذه الحياة، وبين شعور الجاحد الغافل عن الله، حيث يضيّع نفسه، ويتلاشى المعنى في حياته.

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ. [سورة الحشر، الآية: 19]

ثانيًا: إلهام الطمأنينة والثقة

ذكر الله يمنح الإنسان الطمأنينة والثقة أمام تحدّيات الحياة ومشاكلها، حيث يستحضر الإنسان قدرة الرّب وعظمته ورحمته وفضله وحكمته.

يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. [سورة الرعد، الآية: 28]

ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. [سورة البقرة، الآية: 156]

ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا. [سورة الأنفال، الآية: 45]

ثالثًا: الانضباط السلوكي

حين تنبعث الشهوات في نفس الإنسان، وتتحرك انفعالاته الغضبية، فإنّ ذكر الله يكبح جِماح الشهوات، ويردّ عنفوان الغضب والانفعالات.

لأنه بذكر الله يستحضر أنّ الله عالم بما يفعل، ومطّلع عليه، وأنّ المعصية تسخطه، وأنه يعاقب العصاة بالنار والعذاب، وهنا يتراجع عن المعصية والخطأ خجلًا من الله، وحذرًا من حسابه وعقابه.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ. [سورة الأعراف، الآية: 201]

وورد عن النبي محمد : «أَوْحَى اَللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ اِبْنَ آدَمَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ غَضَبِكَ أَذْكُرْكَ عِنْدَ غَضَبِي»[3] .

وعن أبي مسعود [عقبة بن عمرو]: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه»، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: «أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ»[4] .

وجاء عن أمير المؤمنين علي : «مَنْ عَمَرَ قَلْبَهُ بِدَوَامِ اَلذِّكْرِ حَسُنَتْ أَفْعَالُهُ فِي اَلسِّرِّ وَاَلْجَهْرِ»[5] .

وعنه : «ذِكْرُ اَللَّهِ مَطْرَدَةُ اَلشَّيْطَانِ»[6] .

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (حَجَجْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ ، فَالْتَاثَتْ عَلَيْهِ اَلنَّاقَةُ فِي سَيْرِهَا [أي أبطأت في سيرها]، فَأَشَارَ إِلَيْهَا بِالْقَضِيبِ، ثُمَّ قَالَ: «آهِ لَوْ لاَ اَلْقِصَاصُ» وَرَدَّ يَدَهُ عَنْهَا)[7] .

وورد عن الإمام محمد الباقر : «أَنْ يَذْكُرَ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ اَلْمَعْصِيَةِ، يَهُمُّ بِهَا فَيَحُولُ ذِكْرُ اَللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ اَلْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ»[8] .

هكذا يكون لذكر الله انعكاس على فكر الإنسان، ومشاعره النفسية، وسلوكه العملي، وبدون هذا الانعكاس يكون الذكر خاليًا من المحتوى والمضمون.

 

خطبة الجمعة 12 ذو الحجة 1444هـ الموافق 30 يونيو 2023م.

[1]  حيدر حب الله، بحوث في فقه الحج، ص210 (ط1، 2010، دار الانتشار العربي، بيروت - لبنان)
[2]  الكافي، ج8، ص2، ح1.
[3]  بحار الأنوار، ج72، ص321.
[4]  الألباني، صحيح أبي داوود، ح5159
[5]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص644.
[6]  عيون الحكم والمواعظ، ص255.
[7]  وسائل الشيعة (ط: آل البيت)، ج11، ص485، ح 15 (١٤٣٢٩).
[8]  بحار الأنوار، ج66، ص379.