أولوية الوحدة في الاجتماع الإسلامي

 

يقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران، الآية: 103]

حين نقرأ سلّم الأولويات في قيم ومبادئ الاجتماع الإسلامي، نجد أنّ مبدأ الوحدة يأتي في الطليعة والصدارة من هذه الأولويات، حسب الرؤية الدينية.

فالآية الكريمة أمر إلهي صريح بالوحدة، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ونهي صريح عن التفرّق والتشتت ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا.

وتصف الوحدة بأنها النعمة الأبرز، والمنجز الأهم، الذي حققته الرسالة الإسلامية في الأمة، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا.

وفي آية أخرى، يؤكّد القرآن الكريم على وحدة الأمة، ويجعلها في سياق الأمر بعبادته، يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء، الآية: 92]، كما جاء التأكيد على وحدة الأمة، في سياق الالتزام بتقواه في آية أخرى، يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون، الآية: 52].

وتتوالى آيات القرآن الداعية إلى الوحدة في مظاهرها المختلفة، كالتآخي والتآلف والتعاون، والزاجرة عن التفرق والتمزق، بمختلف العناوين كالعداوة والتنازع والاختلاف، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال، الآية: 46].

وقوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى، الآية: 13].

أما الأحاديث الواردة عن النبي ، وعن الأئمة ، ففيها حشد هائل، من النصوص التي تؤكّد على أهمية الوحدة وضرورتها، وتحذّر من التفرق والتشتت بمختلف مظاهره وأعراضه.

كالحديث الوارد عن رسول الله : (لا تَخْتَلفوا، فإنَّ مَن كانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفوا فَهلَكوا)[1] .

الوحدة في كلام عليّ وسيرته

ولأمير المؤمنين علي حديث كثير في هذا السياق، كقوله : (إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَدًا بِفُرْقَةٍ خَيْرًا مِمَّنْ مَضَى، وَلاَ مِمَّنْ بَقِيَ)[2] .

ومن روائعه ما ورد في خطبته المسمّاة بالقاصعة في نهج البلاغة، التي جاء فيها: (فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هذِهِ الاْمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الاْلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إَلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَة لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْـمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً، لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَن، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَر)[3] .

إنه يعبّر عن الوحدة والالفة، بأنها نعمة لا تدرك قيمتها، ولا ثمن يعادلها، وهي أهم وأخطر من أيّ شيء آخر.

لأنّ الوحدة هي التي تؤسّس للأمن والاستقرار، وتتيح الفرصة للبناء والتقدّم، بينما يكون التفرّق والتنازع سببًا للفتن والاضطرابات، التي تعطّل مسيرة التنمية، وتقضي على المكاسب والإنجازات، كما رأينا في عدد من البلدان.

ولم يكن حديث علي عن الوحدة والألفة مجرّد شعار أو كلام تعبوي، بل إنه صدّقه بسلوكه ونهجه.

فحسب المعتقد الإمامي، إنّ عليًّا كان منصوبًا من قبل النبي بأمر الله تعالى، لقيادة الأمة بعد رسول الله ، لكنه أغضى عن هذا الأمر، وهذا الحقّ، مع أهميته، حماية لوحدة الأمة، ومنعًا لاحترابها واختلافها، مما يدلّ على أنّ الوحدة في نظره، أهمّ من سعيه لنيل الخلافة وقيادة الأمة.

وقد عبّر عن ذلك في مواقف عديدة، منها قوله لما عزموا على بيعة عثمان: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَاللهِ لأَسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتمَاسًا لِأَجْرِ ذلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْدًا فِيَما تَنافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ)[4] .

وورد عنه : (فَانْتَزَعُوا سُلْطَانَ نَبِيِّنَا مِنَّا وَوَلَّوْهُ غَيْرَنَا، وَايْمُ اللهِ فَلَوْ لَا مَخَافَةُ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الْكُفْرِ لَكُنَّا غَيَّرْنَا ذَلِكَ مَا اسْتَطَعْنَا)[5] .

وجاء في كتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى: أنّ بريدة، وكان من الصحابة الأجلّاء، وقد سمع مباشرة من رسول الله أنه قال له: يا بريدة، عليٌّ وليّكم من بعدي، لذلك جَاءَ حَتَّى رَكَزَ رَايَتَهُ فِي وَسَطِ قبيلته (أَسْلَمَ) ثُمَّ قَالَ: لاَ أُبَايِعُ حَتَّى يُبَايِعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : «يَا بُرَيْدَةُ، اُدْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ اَلنَّاسُ فَإِنَّ اِجْتِمَاعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ اِخْتِلاَفِهِمُ اَلْيَوْمَ»[6] .

وورد عنه : «وَلَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَكَرَمَ الْمَآبِ. وَسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي»[7] .

إنّ قضية الوحدة في الاجتماع الإسلامي، وفي الفكر الديني، ليست قضية جانبية كمالية، بل هي مبدأ أساس، لا يصح تجاهله ولا التساهل فيه.

في معنى الوحدة

والوحدة لا تعني عدم الاختلاف، ولا إلغاء حالة التنوع، فالاختلاف والتنوع ظاهرة طبيعية قائمة في كلّ مجتمع بشري، هناك انتماءات مختلفة في الأعراق واللغات والقوميات، والآراء والمذاهب والمصالح، ولا يمكن تجاهل شيء من ذلك.

الوحدة تعني إعلاء شأن المشترك الديني والمعيشي، والالتفاف حوله، مع احترام الخصوصيات لكلّ فئة وطائفة، وتنظيم إدارة الاختلاف في الآراء والمصالح، في ظلّ نظام وقانون يتوافقون عليه.

إنّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم القائمة يتفقون على مساحة كبيرة من المشتركات، هي أصول الإيمان وأركان الإسلام، فكلّهم يؤمنون بالله وكتبه وملائكته ورسله وباليوم الآخر.

ويلتزمون بأركان الإسلام، وفرائضه الأساس، كالصلاة والزكاة والحج وصيام شهر رمضان، وسائر الفرائض، ويتجهون إلى قبلة واحدة في صلاتهم.

ويتفقون على مرجعية الكتاب والسنة. لكنهم يختلفون في التفاصيل العقدية، وجزئيات الأحكام الفقهية، وفي قراءة التاريخ، انطلاقًا من اختلاف مدارسهم الاجتهادية في تقويم النصوص، وفهم مراداتها.

ويواجه المسلمون في هذا العصر تحدّيات مشتركة، ومن مصلحتهم أن يتحدّوا ويتعاونوا، ليكونوا أقدر على خدمة مصالحهم، ومواجهة التحدّيات الخطيرة التي تنتصب أمامهم.

لكن هناك من لا يزال يعتاش على إثارة الخلافات المذهبية، وإشغال جماهير الأمة بها، وإتاحة الفرصة لمن يستغلّ ذلك، في تمزيق الأمة بالخلافات والصِّراعات.

الوحدة الوطنية

وعلى الصعيد الوطني، فإنّ أوطان المسلمين فيها تنوع عرقي وقومي ومذهبي، ولا ينبغي أن يخلّ هذا التنوع الطبيعي بالوحدة الوطنية.

إنه لمن المؤلم أن تعاني عدد من أوطاننا الإسلامية من الفتن والتمزّق والاحتراب، بسبب هذا التنوع.

وفي بلادنا ونحن نستقبل اليوم الوطني، يجب أن نحمد الله تعالى على ما نعيشه من أمن واستقرار، وأن نعمل جميعًا على تعزيز الوحدة الوطنية وحمايتها، بتجسيد المواطنة الكاملة، والالتفاف حول الدولة، وترسيخ حبّ الوطن، وبثّ ثقافة الوعي الوطني الوحدوي، الذي يحترم الخصوصيات، ويؤكّد على المشترك الديني والوطني.

اللهم وحّد صفوفنا على طاعتك، وألّف بين قلوبنا بهدايتك، وأبعدنا عن مزالق الفتن والأهواء، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كلّ سوء ومكروه.

 

خطبة الجمعة 7 ربيع الأول 1445هـ الموافق 22 سبتمبر 2023م.

[1]  كنز العمّال: ج 1 ص 177 حديث 894.
[2]  نهج البلاغة، خطبة 176.
[3]  المصدر السابق، خطبة 192.
[4]  نفسه، خطبة 74.
[5]  الأمالي، الشيخ المفيد، ج1، ص55.
[6]  الشافي في الإمامة، ج 3، ص 243.
[7]  نهج البلاغة، من كتاب له إلى ‌أبي مُوسَى الْأشْعَري، رقم 78.