القيم بين الحديث عنها والالتزام بها

 

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‎﴿٢﴾‏ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. [سورة الصف، الآيتان: 2-3]

القيم الإنسانية النبيلة، كالعدل والأمانة والصدق والإحسان وأمثالها، تعشقها كلّ النفوس، وتهواها كلّ القلوب؛ لأنها من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتتوافق مع ضمير الإنسان ووجدانه، ويؤيّدها عقله السليم.

فلا أحد من الناس الأسوياء، يجد في أعماق نفسه نفورًا من هذه القيم، ولا يتردد عقله في الإقرار بحسنها وقبح مخالفتها، كما يتمنّى كلّ إنسان أن يعامله الآخرون وفق هذه القيم، وأن يصفوه بها.

وكثيرًا ما يبدي الإنسان تقديره وإعجابه بمن يتحلّى بتلك الصفات الحسنة، وإن كان مخالفًا أو معاديًا له.

فهذا رسول الله يشيد بحاتم الطائي الذي مات قبل الإسلام، فقد روي أنه لَمَّا أُتِيَ بِسَبَايَا طَيِّئٍ وَقَفَتْ سَفانة بنت حاتم الطائي، وتكلّمت في وصف أبيها، فقال : «خَلُّوا عَنْهَا فإنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»[1] .

وقد ردّ معاوية على رجل اتّهم الإمام عليًّا بالبخل، قال: (كُنّا نَتَحَدَّثُ: أن لَو كانَ لِعَلِيٍّ بَيتٌ مِن تِبنٍ[2]  وآخَرُ مِن تِبرٍ[3]  لَأَنفَدَ التِّبرَ قَبلَ التِّبنِ)[4] .

الالتزام بالقيم هو التحدّي الأكبر

لكن التحدّي الأكبر الذي يواجهه الإنسان، هو الالتزام بهذه القيم والعمل بها، فإنّ أهواءه وشهواته وأنانيّته، والحرص على المصالح الآنية، كلّ ذلك يدفعه إلى مخالفة هذه القيم، ثم قد يبرّر لنفسه هذه المخالفة، وهو الأمر الأسوأ، يقول تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا. [سورة فاطر، الآية: 8]

وقد يمارس الإنسان الازدواجية والخداع، فيتحدث للآخرين عن الفضائل والقيم والصفات الحسنة، ويحثهم عليها، ويشيد بالشخصيات الفاضلة، لكنه يخالفها ولا يلتزم بها.

إنّ الوعي العميق بالقيم، والتسلّح بالإرادة، واستذكار الآخرة، هو ما يعين الإنسان على الالتزام بالقيم، والتعافي من الازدواجية والتناقض.

الازدواجية والتناقض

وتحذّر النصوص الدينية الإنسان من الوقوع في هذا المأزق الأخلاقي الشنيع، الذي يُحدث في أعماقه تناقضًا واضطرابًا، ويسبب له الفضيحة والعار، أمام من يكتشفون ازدواجيته، والأسوأ والأشد من كلّ ذلك، خسارته ونكبته يوم القيامة.

وهذا ما تتناوله الرواية الواردة بسند معتبر عن الإمام جعفر الصادق أنه قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ»[5] .

وَصَفَ عَدْلًا: أي بيّن للناس ومدح أمرًا وعملًا صالحًا مطابقًا للعدل، ولم يعمل بمقتضاه، أو أشاد بمن يتصف بفضيلة، كالأنبياء والأئمة والأولياء، وأظهر موالاتهم، وأكبر سيرتهم، لكنه لم يأخذ بها ولم يتبعهم.

وإنما تكون حسرته أشدّ لوقوعه في الهلكة مع العلم، وهو أشدّ من الوقوع فيها بدونه، ولمشاهدته نجاة الغير بقوله وعدم نجاته به.

ورد عن النبي : «يا أبا ذَرٍّ، يَطَّلِعُ قَومٌ مِن أهلِ الجَنَّةِ إلى قَومٍ مِن أهلِ النّارِ، فَيَقولونَ: ما أدخَلَكُمُ النّارَ، وإنَّما دَخَلنَا الجَنَّةَ بِفَضلِ تَأديبِكُم وتَعليمِكُم؟! فَيَقولونَ: إنّا كُنّا نَأمُرُكُم بِالخَيرِ ولا نَفعَلُهُ»[6] .

وورد عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ الإمام محمد الباقر :‌ «أَبْلِغْ شِيعَتَنَا أَنَّهُ لَنْ يُنَالَ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَأَبْلِغْ شِيعَتَنَا أَنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ»[7] .

وفي هذا السياق ورد عدد من الأحاديث جعلها الشيخ الكليني وغيره عنوانًا لباب في مجامعهم الحديثية[8] .

رسائل تحذير

إنّ كثيرًا من الآباء يودّون لأبنائهم الصلاح والنجاح، ويوجهون لهم النصائح، لكنّ السؤال عن مدى التزام الآباء أنفسهم بما ينصحون به أبنائهم.

شكى زوج لأصحابه أنّ امرأته لا تصلّي، فقالوا له: عليك أن تأمرها بالصلاة، قال: أمرتها فلم تستجب، قالوا: عليك أن تزجرها وتنهرها، قال: زجرتها ونهرتها فلم تستجب، وهي تقول لي: ما دمت أنت لا تصلي فإنّي لا أصلي.

وفي هذه النصوص أيضًا رسالة تحذير شديدة للوعاظ والدعاة. فقد ورد عن النبي محمد : «مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ ويَنْسَى نَفْسَهُ، كَمَثَلِ السِّرَاجِ؛ يُضِيءُ لِلنَّاسِ ويَحْرِقُ نَفْسَهُ»[9] .

وورد عنه : «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِقَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا نَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلاَ نَأْتِيهِ، وَنَنْهَى عَنِ اَلشَّرِّ وَنَأْتِيهِ»[10] .

وورد عن أمير المؤمنين علي : «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي، وَاللَّهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلَا أَنْهاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا!»[11] .

لمَ تقولون ما لا تفعلون؟

وهذه الأحاديث موافقة لما نطقت به آيات الذكر الحكيم كقوله، تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة، الآية: 44]

ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‎﴿٢﴾‏ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف، الآيات: 2-3] والمقت هو: الغضب الشديد.

وقد ورد في الحديث عن عبدالله بن مسعود أنه قال: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ «يَا اِبْنَ مَسْعُودٍ، لاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ يَهْدِي اَلنَّاسَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ، يَقُولُ اَللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ»، إلى أن قال : «يَا اِبْنَ مَسْعُودٍ، لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يُشَدِّدُ عَلَى اَلنَّاسِ وَيُخَفِّفُ عَنْ نَفْسِهِ، يَقُولُ اَللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ»[12] .

ومن أجلى المصاديق لهذه الازدواجية والتناقض ما تمارسه الدول الغربية المستكبرة، من ازدواجية في المعايير، والكيل بأكثر من مكيال، فهي الأرفع صوتًا في الحديث عن حقوق تقرير المصير، وعن الحريات وحقوق الإنسان، لكنها تتحدّث عنها في مكان، وتغضّ الطرف عنها في مكان آخر، وتتخذ مواقف مضادة لها. كما هو الحال في فلسطين، والفظائع والجرائم التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني المظلوم، بدعمها ومساندتها.

نسأل الله العون والنصر والفرج لهذا الشعب المظلوم.

 

خطبة الجمعة 12 ربيع الآخر 1445هـ الموافق 27 أكتوبر 2023م.

[1]  ابن كثير: البداية والنهاية، ج5، ص80، (دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، 1988م).
[2]  التِّبْنُ: مَا تهشّم من سيقان الْقَمْح وَالشعِير بعد درسه، تعلفه المَاشِيَة. (المعجم الوسيط، ج1، ص82).
[3]  التبر: الذهب.
[4]  ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج42، ص414، (دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995م).
[5]  الشيخ الكليني: الكافي، ج2، ص300، حديث 3، (دار الكتب الإسلامية، 1407هـ).
[6]  الشيخ الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج16، ص152، حديث 12، (مؤسسة آل البيت لإحياء التراث).
[7]  الكافي، ج2، ص300، حديث5.
[8]  الكافي، ج2، ص229، بَابُ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا وَعَمِلَ بِغَيْرِهِ‌. والوافي، ج5، ص849، باب 138، وصف العدل والعمل بغيره‌. وكتاب الترهيب والترغيب، ج1، ص161، الترهيب من أنْ يعلَم ولا يَعمل بعلمه، ويقول ما لا يفعله.
[9]  الشيخ ناصر الدين الألباني: كتاب صحيح الترغيب والترهيب، ج1، ص164، حديث 131.
[10]  الشيخ المجلسي: بحار الأنوار، ج72، ص224، حديث 1، (مؤسسة الوفاء، 1403هـ)
[11]  نهج البلاغة، خطبة: 175.
[12]  الشيخ الطبرسي: مكارم الأخلاق، ص457، (مؤسسة الأعلمي للمطبوعات)