التربية النموذجية

 

ورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال في حق محمد بن أبي بكر: «لَقَد كانَ إلَيَّ حَبيبًا وكانَ لي رَبيبًا، وكانَ لِبَنِيِّ أخًا، وكُنتُ لَهُ والِدًا، أعُدُّهُ وَلَدًا»[1] .

في عدد من المصادر التاريخية نقلت كلمات مروية عن أمير المؤمنين علي ، في الثناء على شخصية محمد بن الخليفة الأول أبي بكر، والإشادة بصفاته ومواقفه، ومنها هذه الكلمة التي تدلّ على عمق علاقته وارتباطه بالإمام علي ، فهو كان ربيبًا له، ونتاجًا لتربيته النموذجية.

أمه أسماء بنت عميس

حيث تزوج الإمام أمه أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت زوجة لأخيه جعفر بن أبي طالب، وهاجرت معه إلى الحبشة، وأنجبت له ثلاثة أولاد، هم عبدالله، وعون، ومحمد، فلما استشهد جعفر في معركة مؤتة سنة 8 هجرية، تزوجها أبو بكر بن أبي قحافة الخليفة الأول، فأنجبت له محمّدًا، فلما مات أبو بكر سنة 13هـ تزوجها الإمام علي، فأنجبت له يحيى، مات في حياة الإمام علي، وظلّت مع الإمام علي حتى استشهاده.

وكانت رفيقة فاطمة الزهراء وصاحبتها حتى أيام مرضها الأخير، وساعة وفاتها، وأعانت الإمام عليًّا في تغسيلها، وكانت آنذاك زوجة لأبي بكر.

وعندما تزوجها الإمام علي كان عمر محمد بن أبي بكر حوالي أربع أو خمس سنوات؛ لأنّ ولادته كانت في حجة الوداع السنة العاشرة للهجرة.

في أحضان الإمام علي

تربى محمد بن أبي بكر في أحضان الإمام علي، وتخرج من مدرسته التربوية النموذجية.

قال أبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة: (كان محمد ربيبه، وخريجه، وجاريًا عنده مجرى أولاده، رضع الولاء والتشيّع مذ زمن الصبا، فنشأ عليه، فلم يكن يعرف له أبًا غير علي، ولا يعتقد لأحدٍ فضيلة غيره، حتى قال علي : محمد ابني من صلب أبي بكر... وكان محمد من نُسّاك قريش ... ومن ولد محمد، القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقيه الحجاز وفاضلها، ومن ولد القاسم عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، كان من فضلاء قريش، ويكنى أبا محمد، ومن ولد القاسم أيضًا أم فروة تزوجها الباقر أبو جعفر محمد بن علي فأولدها الصادق أبا عبدالله جعفر بن محمد )[2] .

ورد عن الإمام علي في نهج البلاغة إنه قال في حقّه: (لَقَد كانَ إلَيَّ حَبيبًا وكانَ لي رَبيبًا) وجاء في مصادر أخرى كتاريخ الطبري، وكتاب الغارات أنه قال: «لَقَد كانَ إلَيَّ حَبيبًا وكانَ لي رَبيبًا، وكانَ لِبَنِيِّ أخًا، وكُنتُ لَهُ والِدًا، أعُدُّهُ وَلَدًا»[3] .

مواقفه وشهادته

كان من أبرز المخالفين لسياسة الخليفة عثمان، وشهد موقعة الجمل مع أمير المؤمنين علي في مواجهة الجيش الذي كانت تقوده أخته أم المؤمنين عائشة.

ولّاه الإمام علي مصر سنة 36هـ، فبعث معاوية عمرو بن العاص للسيطرة على مصر، وقاد تمرّدًا على الوالي الشرعي، وحدثت معركة انهزم فيها جيش محمد، ووقع في قبضة جيش عمرو بن العاص، فقُتل صبرًا، وكان ظمآنًا ، ثم وضعوا جسمه في جيفة حمار ثم أحرقوه بالنار[4] .

أحزن خبر استشهاده الإمام عليًّا كثيرًا وتوجع له، وكان مما قاله: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ اِفْتُتِحَتْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ قَدِ اُسْتُشْهِدَ، فَعِنْدَ اَللَّهِ نَحْتَسِبُهُ، وَلَدًا نَاصِحًا، وَعَامِلًا كَادِحًا، وَسَيْفًا قَاطِعًا، وَرُكْنًا دَافِعًا»[5] .

وأعلن معاوية الفرح في الشام بقتله، كما قال عبد الرحمن بن المسيّب الفزاري وهو يحدّث عليًّا: ما رأيت قومًا قَطُّ أسرَّ ولا سرورًا قطّ أظهر من سرور رأيته بالشأم حين أتاهم هلاك محمد بن أبي بكر، فقال علي : «أَمَا إِنَّ حُزْنَنَا عَلَى قَتْلِهِ عَلَى قَدْرِ سُرُورِهِمْ بِهِ، لَا بَلْ يَزِيدُ أَضْعَافًا»[6] .

رحم الله محمد بن أبي بكر ورضي عنه، لقد كانت تربية الإمام علي له تربية نموذجية في دوافعها، فهو لم يكن من صلبه، لكنه اهتم به، وربّاه كما ربّى أولاده، يقول : «وكانَ لِبَنِيِّ أخًا، وكُنتُ لَهُ والِدًا، أعُدُّهُ وَلَدًا» وهي نموذجية في طريقتها وأسلوبها، لذلك كان نتاجها هذه الشخصية النموذجية.

والدرس الذي نريد التوقف عنده، في السيرة العطرة لمحمد بن أبي بكر، هو اهتمام أمير المؤمنين باحتضانه وتربيته، للتذكير بمثل هذا الدور الإنساني النبيل، وهو احتضان من فقد أباه، أو فقد أمه.

من يملأ فراغ أحد الأبوين

يتكامل دور الأبوين في تنشئة الولد، ورعايته، وتربيته، فلكلٍّ منهما دور لا يُستغنى عنه في توفير أجواء التربية الصالحة، من إفاضة العطف والحنان، وتعزيز الإحساس بالأمان والحماية، وتلبية الاحتياجات، ومتطلّبات المعيشة، والتوجيه للسلوك القويم.

وحين يخلو دور أحد الأبوين: الأب أو الأم، بسبب الوفاة، أو الانفصال بين الزوجين، يحدث فراغ كبير في نفس الولد، له أثاره العاطفية والوجدانية، وقد تحصل نواقص وثغرات في مسار التنشئة والتربية، إن لم يكن هناك اهتمام بتدارك آثار ذلك الفراغ.

هنا تتضاعف مسؤولية القائم من الأبوين برعاية الولد، أبًا أو أمًا، بأن يسعى بجهده لملء ما يمكن من فراغ الآخر، فيكون بمثابة أبٍ وأمٍ في ذات الوقت، وفي ذلك صعوبة بالغة، خاصة في الزمن الحاضر، الذي ثقلت فيه أعباء التربية، وزادت متطلباتها وتحدّياتها.

وقد أصبحت هذه المشكلة باعث قلق، على مستقبل جزء من أبناء المجتمع، الذين يفقدون دور أحد الأبوين في تربيتهم ورعايتهم، بسبب حالات الوفاة، أو حدوث الطلاق والانفصال، الذي تصاعدت أرقامه في السنوات الأخيرة.

فحين يعيش هؤلاء الأولاد نقصًا أو خللًا في الرعاية التربوية، فإنّ ذلك يؤثر على مسار إعدادهم وتأهيلهم للمواطنة الصالحة، والسلوك القويم.

إعادة تشكيل الحياة الزوجية

والعلاج الأفضل لمواجهة هذه المشكلة الاجتماعية، هو تيسير وتسهيل إعادة تشكيل الحياة الزوجية، عند فقد أو انفصال أحد الزوجين، ومن المؤسف أنّ إعادة تشكيل الحياة الزوجية في مجتمعاتنا، تواجهه كثيرًا من الصعوبات والعوائق. فمن يفقد زوجته أو ينفصل عنها، لا يجد زوجة أخرى إلّا بشقِّ الأنفس، خاصة إذا كان لديه أولاد من زوجته المتوفاة، أو المنفصلة عنه. وكذلك فإنّ المرأة التي تفقد زوجها، أو تنفصل عنه، تتضاءل فرصتها في زواج جديد، خاصة إذا كان معها أولادها من الزوج السابق.

صحيح أنّ وجود أولاد للزوج معه يحمّل الزوجة شيئًا من العبء والجهد، وكذلك وجود أولاد للزوجة يُحمّل الزوج مسؤولية إضافية، لكنّ في ذلك أجرًا وثوابًا من قبل الله تعالى، فهو من أفضل أعمال البر والخير، ببذل الرعاية والعناية للأطفال المحتاجين لها، كما هو الحال في كفالة اليتيم، حيث ورد عن النبي : «مَنْ عالَ يَتيما حتّى يَستَغنِيَ، أَوْجَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ الْجَنَّةَ»[7] .

وعنه : «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى»[8] .

كما أنّ في ذلك إثراءً للمشاعر الإيجابية في نفس الإنسان، وتنميةً لروح العطاء، وتحمّل المسؤولية تجاه المحتاجين والضعفاء.

عن أبي الدرداء قال: أتَى النَّبيَّ رجلٌ يشكو قسوةَ قلبِه، قال : «أتُحِبُّ أنْ يَلينَ قَلبُكَ، وتُدرِكَ حاجَتَكَ؟: اِرحَمِ اليَتيمَ، وامسَحْ رأسَهُ، وأطعِمْهُ مِن طَعامِكَ، يَلِنْ قَلبُكَ، وتُدرِكْ حاجَتَكَ»[9] .

فلماذا يحرم الإنسان نفسه، من المشاركة في رعاية أحد أبناء مجتمعه المحتاجين للرعاية؟ إنّها حالة من الأنانية والبخل في العطاء.

استثمار في بناء الإنسان

إنّ الجهد الذي يبذله الرجل في رعاية ولد زوجته، أو تصرفه المرأة في رعاية ولد زوجها، لن يضيع أثره، بل هو استثمار في بناء شخصية إنسان، قد يكون إضافة ومكسبًا في حياة الرجل أو المرأة.

وهناك حالات عديدة، كان فيها ولد الزوجة، أكثر عونًا وبرًا بالرجل من أبنائه، وكذلك هناك حالات، كان فيها ابن الزوج أكثر اهتمامًا وعناية بالمرأة من أبنائها.

إنّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سورة التوبة، الآية: 120]

ويقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سورة هود، الآية: 115]

 

 

خطبة الجمعة 26 ربيع الآخر 1445هـ الموافق 10 نوفمبر 2023م.

[1]  الغارات، ج1 ص301، نهج البلاغة، خطبة: 68.
[2]  ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج3، ص53-54.
[3]  الغارات، ج1 ص301.
[4]  نفس المصدر، ج5، ص105.
[5]  نهج البلاغة، كتاب: 35.
[6]  تاريخ الطبري، ج5، ص 108، الغارات، ج1، ص295.
[7]  الكافي، ج7، ص51.
[8]  الألباني: صحيح الترمذي، حديث 1918.
[9]  الترغيب والترهيب، ج3، ص315.