التحيّز الذهني الاجتماعي

 

يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. [سورة سبأ، الآية: 46].

الحوز والتحيّز والانحياز في اللغة يعني: الضمّ والانضمام، فمن ضمّ إلى نفسه شيئًا فقد حازه، ومن التحق وانضمّ إلى جماعة فقد انحاز وتحيّز إليها. ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ. [سورة الأنفال، الآية: 16] أي منضمًّا إلى فئة.

والتحيّز الذّهني الاجتماعي، يعني ميل الإنسان على صعيد الأفكار والمواقف، إلى الرأي السائد في محيطه الاجتماعي، على حساب الاختيار العقلاني.

فهو ينضمّ وينحاز إلى ما عليه جماعته أو مجتمعه، لا لأنه درس الفكرة أو الموقف، واقتنع به وفق مبادئه واختياره العقلاني، وإنما متابعة ومسايرة لمجتمعه.

ويفترض أن يرجع الإنسان إلى عقله في تبنّي أيّ فكرة أو اتخاذ أيّ موقف، خاصة حينما يتعلق الأمر بشأنٍ مهم ومصيري، له تأثير على حياته ومستقبله. فهو كائن عاقل مسؤول عن اختياراته.

مشكلة التحيّزات الذهنية

لكنّ مشكلة الإنسان الأساس هي التحيّزات الذهنية التي تعرض له.

من هنا اهتم العلماء والمفكرون، بدراسة التحيّزات الذهنية، في بحوثهم عن طبيعة العقل ووظائفه وخصائصه.

ونجد في النصوص الدينية اهتمامًا كبيرًا بهذا الجانب، وتأكيدًا على مرجعية العقل في اتخاذ القرارات، وتجاوز المؤثرات النفسية والخارجية التي تشوش على عملية التفكير، وتصرف الإنسان عن اتخاذ القرار السليم، ليكون الإنسان واعيًا منتبهًا، حتى لا يقع في الخطأ، بسبب آثار تلك التحيّزات الذهنية على أفكاره ومواقفه.

أما تاريخ استخدام مصطلح التحيّزات الذهنية فيعود إلى سبعينيات القرن الماضي، على يد بعض علماء النفس المعاصرين. حيث رأوا أنّ (الجوانب النفسية والعاطفية تؤدي إلى التشويش على الجانب العقلاني لدى الإنسان، والانحياز إلى الدوافع غير العقلانية، ولذلك سميت هذه الجوانب غير العقلانية بالتحيّزات الذهنية)[1] .

وقد تحدثوا عن ألوان من التحيّزات الذهنية، وفي طليعتها التحيّز الاجتماعي. فغالبية الناس ينساقون مع الرأي والموقف السائد في مجتمعهم، ويقولون: حشرٌ مع الناس عيد.

الدوافع والجذور

ويمكن الحديث عن الجذور والدوافع التالية:

أولًا: إيثار الراحة والهروب من بذل الجهد في التفكير، ودراسة الأمور، وتحمّل مسؤولية النتائج. فأكثر الناس يتّسمون بالكسل الفكري، ولا يميلون إلى تشغيل أذهانهم، وإعمال عقولهم، ويتهيّبون من تحمّل المسؤولية، فيتّبعون غيرهم. وعند المحاسبة والعتاب يعتذرون بإلقاء اللائمة على الآخرين.

يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. [سورة الأحزاب، الآية: 67].

ثانيًا: ضعف الثقة بالنفس، والتردد في التمسك بالرأي مقابل رأي الجماعة، حيث يحدّث المرء نفسه بأنه لا يمكن أن يكون كلّ هؤلاء على خطأ وأنا على صواب، فيبدأ بالتشكيك في رأيه، ثم يميل شيئًا فشيئًا إلى رأي الجماعة.

ومن القصص الواردة في تراثنا العربي قصة أشعب صاحب الشخصية الفكاهية، التي عرفت بالطمع، فقد قال لقومه مازحًا كاذبًا إنّ هناك وليمة كبيرة أقيمت أسفل الوادي، فهرع الناس إلى جهتها، فلما رأى كثرة الراكضين ساوره الشك في صحة كذبته، وقال في نفسه: ربما كان ذلك حقًّا، فقاده جشعه للركض معهم.

ثالثًا: الرغبة في التكيف الاجتماعي، واجتناب الصدام والتنافر مع المحيط، خاصة في المجتمعات التي لا تقبل الرأي الآخر، ولا تسمح بحرية التعبير عن الرأي، وتفرض الحصار والمقاطعة على المخالف والمختلف، مما يسبب له ضغطًا وألمًا نفسيًّا. ولتجنّب ذلك يفضّل الإنسان مسايرة جماعته ومجتمعه.

وكذلك حينما ينتمي الإنسان إلى مجموعة محددة، فإنه يتأثر بتوجهاتها ومواقفها، ويحرص على التوافق معها؛ لأنه يحتمي بها، ويصعب عليه الانفراد عنها، وفقدان ثقتها.

الدور البالغ للإعلام والإعلان حاضرًا

وفي عصرنا الحاضر تهتم الجهات المختلفة بصنع الأجواء المؤثرة على أفراد المجتمع، لدفعهم وسوقهم إلى ما يخدم أغراض تلك الجهات، على الصعيد الثقافي والسياسي والاقتصادي، عبر الدعاية والإعلان والإعلام، والاستفادة من الوسائل الإلكترونية السائدة، واصطناع بعض البرامج الموهمة بسيادة رأي وموقف معيّن في أوساط الجمهور.

ونلحظ مثلًا على الصعيد السياسي، نشاط الجهات المتنافسة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلدان الأخرى. وفي المجال الاقتصادي، نرى بوضوح كيف تصنع حالة إقبال على شراء سلعة معينة من الملابس، أو السيارات، أو التليفونات، أو الأسهم، فيما يسمى بالموضة.

ويُذكر من الشواهد في هذا السياق ما قام به اثنان من المتخصصين في علم الإدارة، هما مايكل تريس وفريد ويرسما، عام 1995م من نشر كتاب بعنوان: (انضباط قادة السوق) بمجرد نزول الكتاب في الأسواق اشترى المؤلفان 50 ألف نسخة من الكتاب، من المكتبات التي تُرصد مبيعاتها لتحديد الكتب الأكثر مبيعًا، وتنشر ذلك الصحف المهمة، مما جعل الناس تتهافت على شراء الكتاب، وأصبح من الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة[2] .

وقد نشرت جريدة الرياض قبل أيام تحقيقًا عن ظاهرة الطوابير الوهمية، حيث تشهد مدينة الرياض ظاهرة غير مألوفة بتقليعة الطوابير، أو كما يشاع "اللاينات". التي يتراءى فيها زبائن ينتظرون لساعات في أماكن عامة، تظهر أنّها تُستخدم كوسيلة للدعاية والإعلان، حيث يقف الكثيرون في هذه الطوابير كمستأجرين، يتلقون مكافآت مالية أو وجبات مجانية، لينشروا تجربتهم على منصات السوشال ميديا. يُعتبر هذا الأسلوب تسويقيًا فعّالًا، حيث يقلّل من التكاليف الإعلانية بشكل كبير، وذلك في ظلّ ارتفاع تكلفة الإعلانات عالميًّا.

حيث تتحول هذه الطوابير من مكان إلى آخر بحسب العروض وجودة الخدمات المقدمة، ويبقى الوجه ثابتًا بشكل لافت، خاصة في الافتتاحات الرسمية للمشروعات التجارية الجديدة[3] .

الأفكار والمواقف الدينية والاجتماعية

إذا كان على الإنسان أن يدرك تأثير هذه الأجواء المصطنعة على قراراته في المجال الاقتصادي، فإنّ الجانب الأخطر الذي يجب أن ينتبّه له الإنسان، هو ما يتعلّق بما يتبنّى من أفكار ومواقف على الصعيد الديني والاجتماعي.

والآية الكريمة ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. [سورة سبأ، الآية: 46] تعالج هذه المشكلة من خلال عرض موقف المشركين الذين رفضوا دعوة رسول الله ، واتهموه بالجنون؛ لأنّ الملأ من قريش قد اتخذوا هذا الموقف، وردّدوا هذا الاتهام.

إنّ الله تعالى يأمر نبيّه في هذه الآية أن يطلب منهم طلبًا واحدًا: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ، وذلك الطلب أن يعطوا أنفسهم فرصة للتفكير خارج الهيمنة الاجتماعية، ﴿أَن تَقُومُوا لِلَّهِ أي من أجل الله. ﴿مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ بحيث يتداول الواحد الرأي مع شخص يثق به، أو يدرس الموضوع بعمق مع نفسه، بعيدًا عن ضوضاء الساحة الاجتماعية.

﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا بعيدًا عن الاتهامات والدعايات المغرضة، ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ فهو شخص تعرفونه أنه صاحبكم، عاشركم وعاشرتموه، وصحبكم وصحبتموه مدة طويلة، كما جاء في آية أخرى: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. [سورة يونس، الآية: 16] وحينئذٍ بالتفكير الموضوعي ستدركون ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.

إنّ على الإنسان ألّا يقبل فكرة أو يرفضها، لأنّ الناس حوله قبلوها أو رفضوها، ولا يقبل اتهامًا على أحد خاصة في أجواء الصراع والتنافس، دون تحقّق وتبيّن.

يقول تعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ. [سورة الحجرات، الآية: 6].

إنّ من أهم أسباب الهلاك والضلال ما يعبّر عنه المجرمون يوم القيامة بقولهم: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. [سورة المدثر، الآية: 45].

لا تكن إمّعة

جاء في حديث عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أنّ رسول الله قال: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا»[4] .

أي أن يتّبع الإنسان مجتمعه وجماعته في الجوانب الإيجابية وحسب، أما في حالات الظلم والانحراف، فلا يصح له أبدًا أن يستسلم للحالة السائدة، وإنّما ينأى بنفسه عن ذلك.

وورد في رواية عن الإمام موسى الكاظم : «لاَ تَكُنْ إِمَّعَةً، قُلْتُ: وَمَا اَلْإِمَّعَةُ؟ قَالَ: لاَ تَقُلْ أَنَا مَعَ اَلنَّاسِ، وَأَنَا كَوَاحِدٍ مِنَ اَلنَّاسِ، إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ: يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ، نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرٍّ، فَلاَ يَكُنْ نَجْدُ اَلشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ اَلْخَيْرِ»[5] .

إجهاض الإصلاح وخذلان المصلحين

إنّ كثيرًا من الأفكار الإصلاحية النافعة قد أجهضت في الساحة الاجتماعية، بسبب تأثّر الناس بالأجواء المصطنعة ضدها، وإنّ أكثر المصلحين واجهوا الخذلان من محيطهم الاجتماعي بسب الاتهامات الباطلة من المناوئين لهم.

ونذكر هنا مثالًا تحدّث عنه الخطيب الراحل الشهير الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (1374 -1424هـ) في كتابه (تجاربي مع المنبر) وهو محاولة تأسيس جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف، في النصف الأول من القرن العشرين، حيث تحرّك مجموعة من العلماء، منهم: الشيخ محمد بن شيخ الشريعة، والشيخ محمد رضا المظفر وأخوه الشيخ محمد حسين، والشيخ عبدالمهدي مطر، وعدد من الخطباء منهم الشيخ محمد علي القسام، والسيد جواد شبر، والوائلي نفسه، لإنشاء مؤسسة تُعنى بتطوير أسلوب الدراسة في الحوزة العلمية، وتطوير أسلوب الخطابة المنبرية.

فنشأت حركة مضادة لهم للإبقاء على الوضع السائد، ونشروا ضدهم أنّهم يريدون تحسين صورة الأمويين في أعين الناس، والقضاء على الشعائر الحسينية، وتزوير التاريخ، وانتهى الأمر بالهجوم على مقر المؤسسة، وتكسير الكراسي، وتحطيم الأثاث، وكان أحد التصريحات من بعض الجهات الدينية: إنّ الحسين قتل مرتين، يوم الطف، وأخرى في حركة منتدى النشر.

وانتهى الأمر بفشل المشروع، وموت الفكرة في مهدها، مع أنّ الأشخاص الذين أرادوا تأسيس المشروع من المعروفين بالعلم والتقوى والأصالة، فاختفوا في بيوتهم حماية لأنفسهم مدّة من الزمن، وبقيت الاتهامات والإشاعات تلاحقهم لمدة طويلة[6] .

ويتكرر مثل هذا كثيرًا في مجتمعاتنا، فلا بُدّ من تعزيز مرجعة التفكير العقلاني في الأمور، وعدم الانسياق مع الأجواء السائدة، والتعبئة المصطنعة ضدّ الأفكار والجهات.

نسأل الله تعالى البصيرة في الدين، والوعي في أمور الحياة، والتحلّي بمكارم الأخلاق.

 

خطبة الجمعة 9 جمادى الآخرة 1445هـ الموافق 22 ديسمبر 2023م

[1]  د. صلاح الفضلي: التحيزات الذهنية، ص47.
[2]  المصدر السابق، ص85.
[3]  صحيفة الرياض، الأحد 4 جمادى الآخرة 1445هـ 17 ديسمبر 2023م: «اللاينات» تثير موجة تساؤلات حول حقيقتها أو مصطنعة ماليًّا.
[4]  الترمذي، حديث 2007.
[5]  تحف العقول، ص413. وبحار الأنوار، ج75، ص325.
[6]  الشيخ أحمد الوائلي، تجاربي مع المنبر، ص183-186.